مع نهاية كلّ عام تقوم بعض
المنابر باستطلاعات للرأي عن أكثر الرجال أو النساء تأثيراً خلال العام
المنصرم، وبخلاف الأهداف الإعلامية التي تسعى إليها المنابر فإنني أعتقد
أنّ امرأتين هما الأكثر تأثيراً عبر التاريخ البشريّ؛ حواء ومريم العذراء،
إذا أخذنا بالاعتبار العدد الكبير من أنصار الديانات التوحيدية، أو ما
يشابهها من حيث المبدأ، فصورة أمّ بوذا مثلاً مشابهة جدّاً لصورة مريم
العذراء وما يروى عن حملها من الإله ينطبق على ما يقال عن حمل مريم
بالمسيح. فصورة المرأة الجنسية، في الجوهر، هي المعيار، وما تزال مشدودة
بين قطبين: حواء التي تسبّبت بالخطيئة الأولى، ومريم التي أنجبت بلا جنس
(بلا خطيئة) نبيّاً أتى ليخلّص العالم من الخطايا أو من الخطيئة التي
تسبّبت بها المرأة الأولى!.
تنظر الثقافة الذكورية إلى النساء كأهداف جنسية أوّلاً، وكأمّهات
ثانياً، والنظرة الرائجة هي وضع الأمّ خارج النشاط الجنسيّ الذي يعني
المتعة والنظر إليها - على الأقلّ من جهة المعنيين بأمومتها - كموضوع
للإنجاب فقط. عموماً يستبعد الرجال أمّهاتهم وحتى أخواتهم من دائرة النشاط
الجنسيّ، وبشكل لا شعوريّ يرون فيهنّ ما يشبه مريم العذراء، بحيث يسعون في
نفس الوقت وراء النساء اللواتي لا يشبهن أمّهاتهم بوصفهن أهدافاً جنسية
صريحة أو مباحة. وبينما تحتلّ الأمومة مكانة عظيمة بوصفها رمزاً عاطفياً،
فإنّها تُقصى عن الجسد إلا كرمز للخصب. وإن أخذنا الصورة كاملة فإنّ السؤال
البسيط الذي يتبادر إلى الذهن: إذا كانت كلّ النساء مثل مريم العذراء فمع
من يمارس الجنس كلّ هؤلاء الرجال الذين (يغزون العالم)؟!
تطالب الثقافة الذكورية النساء دائماً بأن يكنَّ مزدوجات الشخصية
(أي فصاميات)، بحيث يقدّمن تضحيات في العلاقات يكون الرجال معفيين منها
تماماً، فعند ممارسة الجنس قبل الزواج أو خارجه، يجب على المرأة أن تكون
مثل حواء مع خطيئتها، وعند الزواج هي مطالبة بأن تكون مثل مريم العذراء
التي جاءت لتحرّر نساء الأرض من خطيئة حواء. أمّا الرجال فلا بأس في أن
يظهروا طوال الوقت كفحول، أو بمظهر الدونجوانات.
إن هذا المعيار المزدوج يتوضح لنا من خلال نظرتين، الأولى أن النساء
قد خُلقن (ليوطأن)، الثانية أنه على النساء بدون استثناء أن يحتشمن ويكنّ
أمهات. هذا المعيار المزدوج يؤثر إلى ما لانهاية في كافة حركاتنا
وانفعالاتنا، فضلاً عن ذلك فإن النظرة الدينية كرّست دائماً الربط بين
الأخلاق والجنس، وأعطت الأفضلية الأخلاقية للرجل، فالرجل (الذي أنجبته
مريم) لا يتساوى أبداً مع حواء الخاطئة أصلاً. مع ذلك يتحتّم على النساء أن
يتشبّهن بمريم العذراء، بما أنهن حارسات للأخلاق!. إن التناقض الموجود في
الأفكار الذكورية عن المرأة ينعكس بوضوح، فمن ناحية تكون الرسالة هي: (إذا
لم تطلقوا العنان لرجولتكم فأنتم لستم بالرجال حقاً). ومن ناحية ثانية تكون
الرسالة المقابلة لو أخذنا بالخيار الآخر: (بإمكانكم الآن أيها الرجال
التوجه إلى ممارسة الاستمناء لأن النساء اللواتي ترغبون فيهن لم يعد لهن
وجود).
ما تزال المرأة، في مجتمعاتنا خاصة، مُطالبة بالكثير من التفكير
والجهد قبل اتخاذ القرار بإقامة علاقة جنسية مع رجل ما، أكثر بكثير مما
يفعل الرجل، لأنه ينبغي عليها الاهتمام بسمعتها أمام المجتمع، وأيضاً وخاصة
أمام الشريك الذي تختاره! فالمعايير النمطية المسبقة تجعل من المرأة التي
تُثمّن العلاقات الجنسية خارج الالتزامات الشرعية "عاهرة"، مما قد يؤدّي
إلى فقدانها الاستمتاع بهذه التجارب، بل وقد يفقدها حتى إمكانية الحصول
عليها بشكل جيّد لأنّ المواقف المسبقة للرجال من العلاقات الجنسية في
المجتمعات الشرقية تمنع المرأة التي تكون بصحبتهم من التصرّف بطريقة
طبيعية. فأن تقيم المرأة علاقة جنسية مع رجل ما هو أمر طبيعيّ، لأن كل
مرحلة في أية علاقة تحتاج إلى قدر معيّن من الحميمية الجسدية، لكنّ ما هو
طبيعي يتحوّل إلى مصدر للقلق، فمن ناحية لا يمكن اختبار المشاعر المتبادلة
بين الطرفين بمعزل عن الجسد، ومن ناحية أخرى تكرّس الثقافة التقليدية الفصل
بين الجسد والمشاعر موحية للمرأة بأنّ ممارسة الجنس قد تفقدها احترام من
أقامت معه العلاقة. بل إنّ العلاقة الجنسية، إن تمّت، تبقى في كثير من
الأحيان مشوبة بالحذر والخشية من الشريك، فتقتصر على نمط محدّد من
الممارسة، ولا يتجرّأ أحد طرفيها على اختراق الحدّ المعتاد، يظهر ذلك بوضوح
في بعض العلاقات الزوجية، ومن ثمّ بأن يقوم أحد طرفي العلاقة بممارسة
الجنس بحرية أكبر خارج الزواج، والشعور بالحرج من ممارسة الأفعال نفسها
داخله.
تربط الثقافة الذكورية السائدة أخلاق المرأة بجسدها ربطاً تاماً،
ففي هذا المفهوم تكون المرأة طالحة عندما تكون مولعة بملذات الحبّ، ويتمّ
تصويرها حينئذ على أنها مغوية ومفسدة للرجال، بينما في الوقت نفسه يتمّ
تصوير المرأة كـ(وعاء) للمشاعر!. وإذا أخذنا كلمة الوعاء التي كثيراً ما
تُستخدم في وصف المرأة، فإن المطلوب كان دائماً هو قلب هذا (الوعاء) الذي
يمزج بين الحبّ والجنس والأمومة، لأن الثقافة الذكورية السائدة تتطلب
القدرة على فصل هذه الأشياء، بل تصوير هذا الفصل على أنه قدر أزلي أو حقيقة
تاريخية لا نستطيع أن نحيد عنها.
منذ بداية الحكاية لفتوا انتباهنا إلى أن كل منهما ينتمي إلى جنس
مغاير ذكر/ أنثى، كما لو أنها قاعدة لا يمكن زحزحتها لإنشاء نظام اجتماعي
سيستمرّ إلى آخر الدهر. وكما لو أن لهذين الكائنين خصائص نفسية غير قابلة
للتغيير، بحيث يكونان نموذجين ثابتين لمن سيأتون لاحقاً. ثم استدعت هذه
الثقافة الفصل بين الجسد والأحاسيس كما لو أن المشاعر لا تصدر عن الجسد،
وقلّلت من قيمة الجنس والمتعة بأن فصلتهما إلى نوعين؛ نوع مشروع غايته
التناسل ونوع يُنظر إليه بخشية أو استنكار وهو الذي يستهدف المتعة. فمجرد
ذكر حواء يذكرنا دائماً بالخطيئة الأولى، وطرد آدم من الجنة، بحيث أصبحت
طبيعة أساسية تُعمم على النساء لإرغامهن على أن يكنَّ صالحات كمريم العذراء
ومقبولات من المجتمع. لقد احتاجت هذه الثقافة آلاف السنين لتصنع نموذجها
الصافي (مريم العذراء)، وما زلنا بعد مرور أكثر من ألفي سنة أسرى هذا
النموذج الذي لم يكن حقيقياً أو طبيعياً في يوم من الأيام.