يعد الانتقال من عالم المراهقة
إلى عالم الرشد الطموح الطبيعي للشباب في كل المجتمعات الإنسانية، وهو
بحكم الضرورة والطبيعة، ويشكل في ذات الوقت أساس الاستجابة لمتطلبات واقع
يفرض نفسه بحدة، وعلى التناقض مع رغبات وخيالات عالم الشباب في امتلاك
واقعهم الخاص وعيشه بشكل متفرد. لكن هذا الانتقال لا يجري التسليم به دون
منازعات واعتراضات بالضد من قيم وثقافة العالم الراشد، قد تكون حادة ويمكن
أن تمتد إلى أعماق النظام الاجتماعي، وخصوصاً في حالة مجتمعاتنا العربية
التي مازالت متخلفة وعاجزة عن دفع عجلة التحديث إلى نهاياتها، والتي يشكل
فيها الاستبداد السياسي سمة أساسية.
تتميز الكتلة الطلابية ببنيتها الشبابية، وهي بالتالي تحوز على جملة من
الدوافع الدينامية، التي تجعل من الصعب على آليات الإشباع الذهنية والنفسية
والجسدية بفعل العوامل الذاتية أو الخارجية أن تستقر، وتتغذى هذه الدوافع
على مصدرين يمدانها بكل الحرارة التي تكفي لكي تجدد نفسها باستمرار، وهما
طاقة الشباب باندفاعاته الحارة أولاً، وطاقة التثوير والتنوير التي يقدمها
الفكر والمعرفة ثانياً. مما سوف يثير فيها بدايات أزمة وجودية تتعمق في
الجامعة، وتتزامن مع معاناتها من بؤس إمكانيات التعليم وافتقاره إلى
الحداثة في الشكل والمضمون وسلبية التنظيم والإدارة، والتي تعكس في صورتها
الحالية الإقصاء والتهميش العقلي والوجودي للطلبة، وهي التي يفترض أن تكون
من أهم الأقنية التي يعبرها الشباب للانتقال إلى مرحلة الرشد بما يعنيه ذلك
من امتلاك المؤهلات اللازمة لاحتراف العمل وبالتالي الاستقلال المادي
والمعيشي.
وإذا كان لمدلول الثقافة بعدٌ كلي وشامل مسيطر على مستوى المنظومة
الاجتماعية (وبالتحديد في المنظومات المغلقة الدينية/الإيديولوجية، في إطار
التصورات والأفكار والعقائد التي هي بمثابة الشِفرة التي تؤمّن التلاحم
بين أفراد المنظومة لتحقيق غايات عليا، تتمثل في عبودية مطلقة لأصنام مقدسة
"الوطن/الطائفة/العشيرة،الحزب،القائد" تنتفي معها اعتبارية الفرد كإنسان
يحكم هذا العالم ويمتلك مصيره) عندئذ يدخل الأفراد منذ البرهة التي يجنحون
بها إلى تخطي القواعد المرسومة سلفاً في حالة صدام مع المجموع.
ولأن مثل هذه المنظومات تتقوى بفعل الثبات والتقديس فهي تميل إلى نزع
التغاير والذي هو سمة أساسية في حركية ونمو الشباب، وهذه هي لحظة المواجهة
الأولى بين الكتلة الأساسية (طلاب/شباب) الهامشية والأقلية السائدة (راشدة
تتماهى مع قيم المجتمع الذكوري البطريركي) في الفضاء الاجتماعي، وهنا
بالذات تكمن أزمة هذه الكتلة حيث تعاني التضييق والحصار في عيش أحلامها
ورغباتها وتصوراتها عن ذاتها ومجتمعها حاضراً ومستقبلاً، وهي عاجزة عن
التأثير في نظام القيم السائدة للمجموع الراشد الذي لا يلبي طموحاتها ويحكم
عمليات الضبط والتنظيم الاجتماعي، من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية
والسياسية والاقتصادية. ولمّا كانت المواجهة تتطلب تغييراً في النمط
الثقافي السائد، كان يجب عليها هي ذاتها أن تبلور مشروعها الثقافي النقدي
البديل، أي ثقافة شبابية تكون نوعاً من التفكيك لقيم الثقافة التقليدية
الهرمة، وهنا يكْمن الوجه الآخر للأزمة الذي يجد تعبيره في اضطراب هوية
وثقافة الشباب نفسه، والذي يتعاظم نتيجة لأسباب عديدة منها:
- قطع الصلات القسري بين فئة الشباب وطليعتها الطلابية وفئة المثقفين
المتنورين التي تتحسس بفضل ملكتها النقدية نواقص وعيوب المجتمع، وهي التي
يمكن أن تلعب الدور الموجه للشباب دون وصاية وأبوية، نحو صياغة أخلاقية
وسلوكية جديدة تندرج في إطار المسؤولية التاريخية لجيل بأكمله عن ذاته
الخاصة والمجتمعية.
- حرمان الشباب من تشكيل الجمعيّات والمنظّمات المدنية الفاعلة والمستقلة،
ويتعزز هذا الحرمان أكثر في إقفال المجال السياسي أمام الشباب، وهذه
المنظمات لا تمكّنه فقط من التعبير عن تصوراته النظرية والعملية إزاء
القضايا المصيرية، بل وخلق روابط حيّة بين الشباب لها كيانها الاعتباري
والواقعي.
- الضغط الإعلامي لآلة العولمة الجديدة، وهي الثقافة الاستهلاكية التي
تخلط بتفنن وتقنية عالية بين احتياجات الإنسان الأساسية وبين متطلبات
الترف، عبر آلية دعائية تعتمد الإبهار والتشويق في خلق صورة العالم الحلم
الذي يتجاوز إشكاليات الهوية والثقافة الخصوصية، وفي رسم صورة الإنسان
السوبر الذي يتعالى على طبيعته ومحدودية إمكاناته، وهي ستفرض إغراءً لا
محدوداً ليس فقط في ما تدلل له من منتجات مادية، بل وفي منظومتها الغنية
بالخيالات والأساطير، وهي بالتالي تشكل قطباً جاذباً للشباب في ثنائية
تعويضية تتبادل الأدوار بين المادي والرمزي، فالاستهلاك المتجدد هو تعويض
عن فقر وخواء الروح الإنساني، والعيش في إيهامات هذه الثقافة هو التعويض عن
بؤس الواقع.
- افتقاد الأنظمة السياسية التي تتقنع بالعلمانية والبرلمانية لمشروعيتها
الوطنية وعجزها عن تلبية طموحات الجيل الشاب في التنمية الاقتصادية
ومواجهات الهيمنة الخارجية، مع ما تمثله من انعدام الحس الأخلاقي في أبسط
صوره، ما أدى إلى انحسار الثقة في نموذج الدولة السياسية الحديثة وحتى في
مفاهيم الفكر السياسي الحديث وما تتضمنه من انبناء حول مركزية الإنسان، وهو
ما أعطى دفعاً قوياً للإسلام السياسي الذي يجد نموذجه في دولة الخلافة
الإسلامية، ليحتضن آمال قطاع واسع من الشباب، ويشكل القطب الجاذب الآخر
النقيض والمكمل لمشروع العولمة، فكلاهما يرمي بالإنسان في فضاءات
اللامعقولية رغم واقعيتهما الفظة.
إن ما يجسده الطلاب والشباب اليوم في العالم العربي من سلوكيات، وما
يتذوقه من أنماط الفنون والأزياء، وما يتمثل به من أبطال ونجوم إلى درجة
العبادة، نظنّ ظلماً لهم أنها أصبحت تعبيراً أصيلاً عن ثقافته ووعيه، ما هي
في الواقع سوى إفرازات أزمة ثقافية ظرفية، وليس استغراق البعض في السلبية
والاغتراب عن واقعه وقضاياه، وهوس الآخر في الجهادية الإسلامية الخلاصية،
في حقيقة الأمر إلا وجهاً آخر للرفض والقطيعة مع هذا الواقع، وهو بارومتر
الغليان الداخلي الذي يعكس استعصاءات التوافق والانسجام النفسي للشباب في
مجتمعه وعدم ثقته بالنظام الاجتماعي بكل بناه الفوقية والتحتية وما تفرزه
من علائق بين مكوناته العضوية.
ولكننا لا ننفي أن نوازع التغيير لم تزل حيّة في نفوس وضمائر عددٍ لا بأس
به من الشباب، وهي تحن إلى ماضٍ كان فيه الشباب بقياداته الطلابية منبعاً
لحركات ثورية سياسية وثقافية في العالم العربي، ومركز ثقل أساسي في معادلة
التحديث الفكري والقيمي، ولم تزل ترى في جماليات وإنسانيات تراث تلك
المرحلة من أغانٍ وألحان وشعر و… وهجاً يضيء ظلمة الروح، رغم محدوديتها في
تغطية مساحة المساءلات والتناقضات في عالم اليوم، فهي التي كانت تشتغل في
عباءة الإيديولوجية. ومع ذلك فهي تستحث الأمل في الشباب لابتداع منظومة
ثقافية عصرية تتجاوز أزمته ليس فقط في بعدها الفردي والخاص وإنما في إطار
مجتمعه العام، لأنه يدرك من واقع تجربته أن انعتاقه وتحرره من الهيمنة
وتحقيق ذاته كفاعل معترف به، يكْمن في تغيير القيم والثقافة السائدة وعندما
تجمعه مع العالم الراشد ثقافة مشتركة تتوحد في رؤيتها حول الإنسان.
وبعد ذلك فهل يمكن أن نجد في تطلعات الشباب، والتي يسعى الطلاب إلى أن
يكونوا فاعلها الأساسي، محاولات جادة لإحياء الجامعات لتكون مراكز اندفاعات
فكرية وثقافية ثورية جديدة، كما يحصل بين الحين والآخر، وهو ما تحاول
الأنظمة السياسية الفاسدة أن تقمعه، لأنها تخشى على مصيرها وهي التي تعرف
إلى أين يمضي جبروت الشباب في ثورته.
أعتقد أن هذا ما تضمره نوازع التغيير في الطلاب الشباب… وهو قدرهم الأبدي !!