شاشة "فعل" النظام السوري تظهره كالتالي: جناح يتصرف كمجرم موصوف، وجناح آخر يتصرف كنصّاب محترف.
لا أوقع الحظ السيئ أحدا في يدي نصّاب من هذا الطراز: يكون لك حق لا جدال
فيه، ثم يأخذ يحاججك أنه ليس تماماً حقك، أو أنه حقك، لكن ليس في الوسع
إعطاؤه لك كليا. قد يصل به الأمر إلى المزايدة عليك في مدى إيمانه بأنه
حقك. لكن، يقول النصاب: خذه مقسطاً يا أخي.
هنا تبدأ لعبة أخرى. سواء سايرت المحتال أو لحقته، من قلّة حيلة، أو حتى
رفضت ألعابه، فهو يتصرف على أساس خطته الاحتيالية، وليس على أساس ردود
فعلك. يبدأ النصاب في "رفع سعر" القسط الذي قال إنه سيعيده إليك. يصير
الحديث حول مدى صعوبة أن يعطيك هذا القسط. وإذا نجح في إقناعك في لحاق
عملية "التقسيط"، وانتظار "ثمارها"، يصير مجرد الحصول على القسط الموعود
عملية نضال. فبعد عملية "رفع التسعيرة" يصير ليس هيّنا للنصّاب، كما سيصير
يدّعي، تحصيل القسط الموعود. وتصير المسألة: ليس كل شيء في يدي، وخذ من هنا
صعوبة ومن هناك عائق. وبعد كل ذلك، قد يعطيك القسط، وقد يقسّط القسط.
الخطة باختصار هي تحويلك إلى المطالبة بجزء من حقك، ثم تحويل هذه العملية
إلى رحلة مجهدة وشاقة ويائسة. الهدف جعلك تحلم بتحصيل قسط من حقك. يصير
اللعب هو جعل "الدفعة" الأولى منه بحد ذاتها هدفك، ويبدأ الاستنزاف... وهلم
نصبا واحتيالا.
بعد إعلان النظام السوري أنه سيرفع حالة الطوارئ، بعد وقت من بدء
الاحتجاجات، راح وتراجع. تحدث عن صعوبات، ثم أعلن رفع الحالة، ولم ينفذ.
النظام لعب على أساس أن رفع الطوارئ "دفعة"، وأخذ يعلّي سعرها. رفعها، لكن
هات أن يطبق ذلك. وحتى لو طبقه، تعال وأزل التحايلات القانونية ليعيد إدخال
سلطة الطوارئ، سلطة عصابات الأمن ونظامه، من النافذة بعدما كانت الأبواب
مشرعة لها.
أمر شبيه حول تغيير المادة الثامنة من الدستور (الحزب القائد). هذه
"الدفعة" مثل قصة الطوارئ، أوصلتها قوة الاحتجاجات لأن تكون "مسلّمة" من
ضمن مسلمات "تحصيل الحاصل" الأخرى. مسلمات يختصرها العقل السياسي المعارض
بمقولة: لا يمكن العودة إلى الوراء. تم الإيحاء أن النظام يعترف بأنه على
وشك إلغاء المادة الثامنة. بعد المماطلة، ها هو يفلت المنظمات والنقابات
المرتبطة بحزب البعث، كي تخرج و"ترفع تسعيرة" تعديل المادة الدستورية،
ليكمل عملية النصب. صار الاتحاد النسائي، اتحاد الطلبة، اتحاد الفلاحين
واتحاد العمال، وربما غيرهم، يرفضون تعديل المادة، ويتباكون على "المكتسبات
التاريخية للشعب" (حقا، ما الذي يبقى من الشعب بعد احتساب الفلاحين
والعمال والنساء والطلبة...). وللمصادفة، ينطلق هذا "الهجوم" في توقيت
متزامن، وفي سياق معركة واحدة. لم يعد الحديث عن لسان عجائز حزب البعث، كي
نفكر بمصالح ضيقة، بل عن قاعدة شباب ونساء وطبقة كادحة. يصير تغيير النظام
للمادة الثامنة أمرا صعبا. ثم يروح يفاوض، كي يقول إن هذا أكثر ما يمكنه،
هذا إذا لم يقل إن الأمر لم يعد في يده أصلا. الفلاحون والعمال والنساء
والطلبة يرفضون، فماذا يفعل هو. ما الذي في يده، وهذه الجماهير تئنّ ألما
على "المكتسبات التاريخية"!
وهكذا، يمكن للنظام، بعدة نصبه هذه، الحديث عن مقدار معاناته من "معارضي"
التغيير داخله. يمكنه القول إن معاناته منهم لا تقل عن معاناة المحتجين،
وربما تفوقها. وقد يطلب، صفاقة في النصب، عون الانتفاضة، بأن تخصّص جمعة
لها، مثلا، للاحتجاج ضد "المعارضة في النظام". لكنه، عمليا، لم يقدم أي
شيء. كل ما يفعله أنه، الآن، يريد من الآخرين التحلّي بسذاجة استثنائية
للاقتناع بفكرة مستحيلة: فلنترك جانبا حقيقة أني أمتلك كل شيء، ولنركز على
الصعوبات والعوائق التي تحيط بأي شيء يمكن أن أعطيه.
النظام لا يتوهم. لديه القوة الأمنية والعسكرية، لكنه معلّم نصب واحتيال.
لا يتوهم، وهو يعرف أن تغييرا من نوع تعديل مادة كاريكاتورية موضوعها "حزب
قائد"، والتي تبدو مع الانتفاضة وكأنها قادمة من نكتة لا من واقع، يستحيل
أن تكون "النِصاب" الذي يعيد المحتجين إلى بيوتهم. يستحيل بعدما تكتلت
هتافات الاحتجاجات ومطالبه في هيئة تشبه: بلدوزر التغيير. ويستحيل طالما
صار أمرا بديهيا، لدى الشارع المحتج والمعارضة السياسية معا، أن لا حل
بوجود حكم وسلطة المخابرات.