التغيير نحو
«المشروع العربي»
سليمان تقي الدين
كشف الاستبداد العربي عن فظاعته وبشاعته وهو يرتكب
المجازر ضد شعبه الأعزل. يتشارك الحكّام العرب في الأساليب في ممارسة
السلطة وفي الدفاع المستميت اليائس عنها بعد فقدانهم أي مبرر لاستمرارهم.
يقاوم الحاكم العربي إرادة شعبه بالمرتزقة الذين يمكن ان يستوردهم من خارج
البلاد، من شعوب آسيوية وأفريقية فقيرة وعصابات القتل المأجورة. اكتشفنا
جديداً في البحرين وليبيا كيف يستعين الحاكم بأدوات قمع خارجية مادية فضلاً
عن استدرار الدعم السياسي من أقرانه العرب وحول العالم.
يبدو العالم
العربي اليوم أكثر وحدة من أي زمن مضى. القضايا والمشكلات نفسها وكذلك
تطلّعات الشعوب. هناك تفاصيل تميّز بين دولة وأخرى لكن الجامع بينها ان
منظومة سياسية عربية نشأت على أثر تراجع حركة التحرر الوطني العربية
وانهيارها، وهي التي كانت تعني الاستقلال والتنمية. تراجع النظام الرسمي
العربي عن مهماته الوطنية والقومية هو نفسه التخلي عن مشروع التنمية
والتحديث والتقدم. ما يمكن أن نتوقّعه في السياسات الخارجية لنتائج التغيير
الحاصل هو الوجه الآخر للمصالحة التاريخية التي يجب أن تحدث بين الدولة
وشعبها. الأمن القومي والوطني ينبع من المصالح العليا التي يصوغها الشعب
لتنظيم المجتمع. حين تصبح إرادة الشعوب مقررة أو فاعلة عبر إدارة سياسية
منفتحة ديموقراطية يتغيّر كل النهج السياسي السابق في مسائل الأمن الإقليمي
والعلاقات الدولية.
هناك مهمة أساسية في مصر يسعى الشعب إلى إنجازها
عبر برنامج صريح وواضح، ألا وهي بناء نظام سياسي مرن ديموقراطي يعكس
الثقافة الوطنية بمكوّناتها وتياراتها المختلفة. هذه هي الضمانة في عدم
بناء نظام شمولي أو سلطة دكتاتورية. على نجاح هذه المهمة يتوقف الكثير. لا
نختصر العالم العربي في مصر لكننا لا نستطيع أن نرى مستقبل العالم العربي
إلا من خلالها لاعتبارات صارت معروفة لجهة وزن هذه الدولة التاريخي وموقعها
الجيو سياسي وتراثها وجاذبيتها. إذا كانت منطقة
«الشرق الأوسط» منذ
قرن تعيش أزمة وجود المشروع الصهيوني وتحدياته وامتداداته الدولية فلا بديل
من مصر في الماضي والحاضر لقيام نظام إقليمي يوفر عناصر التوازن ويعطي
للمنطقة هويتها الحقيقية. في غياب مصر أو تغييب دورها غاب الدور العربي
الفاعل ما سمح باختلالات أدّت إلى تلاعب متعدد الأطراف بمصير المنطقة. لكن
غياب مصر لا يُختزل أبداً بدورها العسكري والتوازن الأمني، ولا يجب بالتالي
الانطلاق منه وحده لمعرفة تفاعلات المستقبل. بغياب مصر عن المعادلة غاب
المشروع العربي الذي كان يجذب المشرق والمغرب، الطرف الآسيوي والطرف
الإفريقي من العالم العربي. غاب مفهوم الدولة المحورية التي شكلت أساس
النظرة لنظام عربي واحد بقطع النظر عن شكله الوحدوي. غاب أيضاً مفهوم
الدولة الحديثة التي كانت مصر المجتمع الأكثر أهلية لرسم ملامحها وصورتها.
كانت مصر النواة الأكثر عافية لقيادة هذا المشروع في ظل كيانات سياسية
استحدثها الاستعمار ولا تملك مقومات صلبة للتماسك لا من حيث مكوناتها
الاجتماعية ولا من حيث إمكاناتها على الاستقلال ومواجهة التحديات الخارجية.
تلاعب الغرب وتلاعبت إسرائيل بمصائر السياسات العربية في أكثر من دولة
فرضخ معظم هذه الدول لإرهاب النظام الدولي وانتهى طموح الحاكم العربي في
معظم الدول الى حدود الحفاظ على سلطته ونظامه. سياسة التطويع والترويض نجحت
في العراق واليمن والسودان وليبيا وفلسطين والجزائر وتونس وموريتانيا
والصومال، وتحوّل مجلس التعاون الخليجي كله إلى نظام تحت الحماية المباشرة
بالقواعد العسكرية الأميركية. من مصر الآن يبدأ مسار معاكس مع الحذر الشديد
من المبالغات الصادرة عن رغبات دونها الكثير من التعقيدات داخل المجتمعات
القطرية العربية. مصر رافعة للنهوض العربي. لكنها ليست بديلاً من المشروع
العربي نفسه الذي يتكوّن داخل أقطار لديها إرث نصف قرن من التشوّهات
الاقتصادية والثقافية والسياسية.
ليس سهلاً الآن معالجة أزمات العراق
واليمن والسودان بعد كل ما أصاب مجتمعات هذه الدول من شروخ. هناك جهود
وتراكمات غير عادية من العمل لتفكيك مشكلة «الأقليات» ولاستيعاب التيارات
السياسية الدينية وعقلنتها أمام التوترات الحالية في العالم كله. المسألة
الاقتصادية على المستوى الدولي أكبر بكثير مما نظنّ والصراعات الناتجة عنها
أخطر مما نتوقع.
لا تكفي «العروبة» وحدها، ولا «الديموقراطية» وحدها
لإيجاد حلول بمستوى طموحات «الشباب» والشعوب الباحثة عن الأمن والأمان
والاستقرار والعدالة والحرية، وعن «معنى» لحياة الإنسان في ظل ثقافة
الاستهلاك السائدة عالمياً. هناك قضية تتجاوز العرب إلى معظم شعوب العالم
تتمثل في البحث عن نظام اجتماعي بديل. هناك شبح يخيّم على العالم كله هو
أزمة النظام العالمي اقتصادياً وسياسياً. البطالة في أميركا وأوروبا وتراجع
دولة الرعاية أمام الليبرالية المتوحشة. الأزمة المالية المرشحة لكشف
جذورها في الاقتصاد الرمزي غير الموازي لقيم اقتصادية فعلية. وهناك الكثير
مما يُقال عن العولمة ومضاعفاتها التي لا تُحصى ولا تُعد. ثمة حاجة ملحّة
للبحث عن «بديل» عربي وغير عربي للمشكلات المعاصرة. لا نوسّع إطار الأزمات
لكي نقلل من دور أزمة المنطقة وفي رأس أولوياتها تطويع المشروع الصهيوني
وإسقاط العنصرية كشرط ضروري لفتح طريق السلام. ليست الديموقراطية العربية
الموعودة كافية لمواجهة التحدّي الصهيوني. وحدها موازين القوى الاستراتيجية
المتعددة العناصر (العسكرية والاقتصادية والثقافية) تستطيع تصحيح هذا
الخلل العميق الذي جعل العرب في حال من انعدام الوزن. صار التغيير العربي
واقعاً شعبياً وبات من الضروري التفكير ببرنامج هذا التغيير وآفاقه،
انطلاقاً من «حقوق» المواطن العربي و«وواجباته».