تتكاثر الكتابات العربية حول "الدولة" وضرورتها
في المرحلة الراهنة، خصوصاً بعد الأحداث الكبرى
التي هزت العالم، وفي مقدمتها تفكك المنظومة
الاشتراكية ونشأة النظام العالمي الجديد، وما
اقترن بهذه النشأة من تطور هائل على صعيدي
الاتصالات والمواصلات، ومن تحول هائل -في منحاه
المحتمل- في إطار المنظومات السياسية والفكرية.
لقد حلّ نظام جديد يضع في أجندته تفكيك الحدود
الاقتصادية والثقافية، ولكن خصوصاً ما يتصل
بـ"الدولة" ومؤسساتها. وقد ذهب مع الريح نظام
سوفييتي كان العرب أو معظمهم يجدون فيه دعامة
لتحقيق مشاريع تنموية في إطار ما اعتُبر "دولة
وطنية رعائية". وبعد أن استتبّت الأوضاع بعد زلزال
التفكك السوفييتي، راح يتضح أن تلك "الدولة" لم
تكن -في مجمل الموقف العربي وعمومه- قد وُجدت
يوماً ما، وإن كانت مقدمات أولية منها قد أفصحت عن
نفسها في المراحل الأولى من الاستقلالات العربية
من الدول الاستعمارية (فرنسا وإنجلترا
خصوصاً).
وقد كانت القوى الاستقلالية الجديدة تسعى إلى
طرح تجاربها وبرامجها على صعيد الدولة الوطنية،
ولكن الحركات الانقلابية وقفت في وجهها، وعملت على
ابتلاعها شيئاً فشيئاً في سياق تأسيس نُظم أمنية
قطرية، ما فتئت أن التقت فيما بينها بصيغة نظام
أمني يحرِّم ويحظر النشاط السياسي والمجتمع
السياسي إضافة إلى المجتمع المدني. وكانت التجارب
والبرامج "الاستقلالية" المذكورة قد أُطيح بها،
ووضع معظم منتجيها في السجون أو في المقابر؛ مما
أوجد الإيحاء بأن "التاريخ المعاصر" للأقطار
العربية المعنية إنما يبدأ مع تلك النظم الأمنية.
وقد ظل مثل هذا التصور الخاطئ لدى مجموعة من
الباحثين العرب، الذين دلّلوا على جهل في معرفة
الفترة الزمنية القصيرة، التي امتدت من خروج
المستعمرين للبلدان العربية المستعمرة إلى فترة
بداية "الحكم الوطني" فيها.
الحركات الانقلابية جاءت لتُنهي مشروع الدولة
المعْني، ولتبدأ بتأسيس نظام أمني قريب إلى
الشمولية، ويستمر ذلك إلى بداية نشوء النظام
العالمي الجديد، ليأتي هذا الأخير ويدفع بذلك
النظام الأمني العربي إلى الأمام. وبدلاً من
اللجوء إلى خيار الدولة الوطنية الرعائية من قبل
البلدان العربية الآخذة بهذا الأخير، وجدت قيادات
تلك البلدان نفسها، مجدّداً، أمام حوافز جديدة
(غربية) للسير قدماً في عملية استكمال منظومتها
الاستبدادية الكلية والقائمة على "استبداد رباعي"
حاسم في فاعليته، أما مكوّناته فتتمثل في استئثاره
بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة. وبهذا،
تكون البلدان المذكورة قد خطتْ خطوة شاملة في
قطيعتها مع الفترات الاستقلالية الوطنية النسبية،
التي جاءت بعد الاستقلالات وقبل الانقلابات
والحركات الانقلابية.
تاريخ الدول الوطنية في العالم العربي أتى
-والحال كذلك- قصيراً مقتضباً ومحاصراً في توجهاته
وآفاقه واحتمالاته، ومن شأن هذا أن يضع يدنا على
الواقعة التاريخية التالية: لم يكوِّن تاريخ
الدولة المذكورة إرثاً عميقاً ومتيناً وناضجاً،
بحيث يمكن توظيفه في خدمة بناء جديد محتمل، ولكن
ما جعل من هذه الواقعة حالة يُراد لها أن تسود،
تمثّل في أن النظام العالمي الجديد أخذ يكرّسها،
ويضع يده عليها، وقد ظهر ذلك في القاعدة التي وجدت
تعبيرها الصارم في سقوط العراق: إن الاستبداد
السلطوي المركّب إنما هو التأسيس لاستجلاب
الأغيار، لقد ظلت المجتمعات العربية خاضعة لآلية
"التطور" التالية: خطوة إلى الأمام، وثلاث خطوات
إلى الوراء. وكان ناتج ذلك تراجعاً خطيراً في كل
شيء، وخصوصاً في مواجهة الحركات السياسية الوطنية
والمفاهيم العقلانية الديمقراطية من طرف، والتقرّب
من القوى الدينية الأصولية الرافضة لمبادئ
التعددية الديمقراطية من طرف آخر، مع الحفاظ على
البنى المجتمعية ما قبل الوطنية، بهدف إنتاج
رهانات تُعيق أي مشروع وطني دولتي.
ولعل النموذج الحي على ما نحن بصدده يتمثل
بلبنان الراهن، فلقد نشأ "اتفاق الطائف" بمثابة
مدخل إلى حل مشكلات الصراع الطائفي وغيره هناك،
ولكن القوى المجتمعية الأصولية والطائفية وغيرها
ما تزال تقف عائقاً دون ذلك.
ويذكر الدكتور وجيه كوثراني (لبنان) أن هنالك
صعوبات كبرى ذاتية وموضوعية تمثل عوائق جادة في
طريق المجتمع الوطني، فالطائفية السياسية ذات
الحضور الكثيف، وعدم وجود "مجلس دستوري" وضآلة
الأحزاب الوطنية العلمانية، يجعل أرض لبنان خصبة
للإمعان في تغييب المشروع الوطني.
إن إشكالية الدولة وإن كانت قائمة في المجتمع
العربي قبل النظام العالمي الجديد، إلا أنها تجد
الآن نفسها وكأن الطريق الذي يقود إلى الخروج
منها، قد أُغلق بفعل الشروط الجديدة التي يحملها
النظام المذكور، ومنها بكيفية خاصة شرطُ تفكيك
الدول والحدود وفتح العالم أمام نشاطه الاقتصادي
والثقافي والاجتماعي المدمّر. من هنا، يغدو من
قِبل تحصيل حاصل أن تتحول الأوضاع العربية إلى نبع
لنمط من "الفوضى"، أخذ يبشر به أيديولوجيون يرون
في ذلك النظام غاية البشرية، مع الإشارة إلى أن
هذا الأخير وصف هذه الفوضى بـ"الخلاقة"، في حين
أنها -كما تسيطر في معظم العالم العربي- تحمل صفة
لا تغيب عن ملاحظة المهتمين والمدققين، هي كونها
"مدمّرة". إنه حائط، لكنه ليس من صُلب!