تجري حالياً في الأوساط السياسية اللبنانية حوارات وسجالات وكذلك مهاترات، حول المهمات والاستحقاقات المطروحة عليهم راهناً، وهنالك الكثير من ممثلي هذه الأوساط يرون أن "بناء الدولة الوطنية" يأتي في مقدمة ذلك. وازدادت تلك الحوارات والسجالات بعد الحرب الأخيرة على لبنان، بل أخذت تبرز حالة من التوتر والاحتقان وربما الاتهام يلجأ إليها طرف أو أكثر من تلك الأوساط، بحيث تقف عائقاً جاداً أمام احتمالات "إعادة البناء" في لبنان، كما في بلدان عربية أخرى. ومع الإقرار بخصوصية الوضعية اللبنانية، إلا أنه يمكن التحدث عن ناظم عمومي مشترك لبلدان العالم العربي. أما هذا الأخير فإنه - في إجماله- قائم على أمرين اثنين نشآ تاريخياً الواحد تلو الآخر، ليكوّنا بعد ذلك حالة واحدة بوجهين. كان الوجه الأول قد تمثل في إخفاق عملية التأسيس للمشروع العربي السياسي، الذي تزامن مع المشروع العربي النهضوي التنويري بدءاً بأواخر القرن الثامن عشر، والذي كانت التجارب المصرية والسورية والتونسية وربما كذلك العراقية في مقدمته. وخرجت هذه البلدان العربية وغيرها من تحت قبضة الإمبراطورية العثمانية عبر الدعوة إلى الانفصال عنها، وإلى الإصلاح والتحديث، لتدخل بعد ذلك في محور الاستعمار الغربي الحديث. وبعد تحقيق الاستقلالات الوطنية، التي تحققها البلدان المذكورة وغيرها في العالم العربي، تبرز تجارب ما بعد الاستقلال، بوصفها امتداداً بقدر أو بآخر لـ"مشروع النهضة الأولى"، ويصعد الاتجاه الانقلابي العسكري في تلك البلدان، ليُطيح بإرهاصات المشاريع الوطنية الديمقراطية، ويُدخلها في نفق يُفضي إلى نظم مباحثية، ثم أمنية شمولية، خصوصاً حين تنقضّ أحزاب "وطنية أو قومية أو ليبرالية"، وربما كذلك ولو جزئياً "إسلامية" ذات طابع شمولي مناهض للتعددية الديمقراطية، لتُمسك بكلتا يديها مقدرات البلدان المذكورة، مُبْعدة الطيف السياسي والاجتماعي والثقافي عن مركز الفعل والقرار، ومحتكرةً دائرة النفوذ في الجيوش العربية باسم جيوش عقائدية ملتزمة بالأمة أو بالشعب أو بمجموعة من القادة الكارزميّين. وفي هذا، نضع يدنا على الوجه الثاني من الحالة الآنفة الذكر. نلاحظ، ها هنا، أن تلك العمليات، التي أنجزتها البلدان العربية ذات الطابع المباحثي (المخابراتي) ثم الأمني، هي التي ورثت إخفاق المشروع العربي التنويري النهضوي، لتسير بهذا الإخفاق إلى إخفاق وإخفاقات جديدة متتالية. وكان ذلك بمثابة إقصاء عملي ونظري للشعلة، التي أطلقها ذلك المشروع. بتعبير آخر، عملت قيادات البلدان المعْنية على إحداث قطيعة تاريخية وإبستيمولوجية (معرفية تأسيسية) بينها وبين تلك الشعلة، لتفتح أبواباً خفية مسكوتاً عنها على مراحل من التاريخ العربي والقطري المقصود، من شأنها أن تقود إلى مراحل ما قبل الوطنية. وكانت الطائفية والعشائرية والقبلية والمذهبية الدينية وغيرها في نسيج هذه العملية. هكذا، كان قد جرى تكريس خطّ متصاعد وثابت تأسّس على رفض الاستحقاق الذي يتجسد بـ"الدولة"، سواء كانت وطنية أم قومية أم ليبرالية أم إسلامية، أو الحطّ من شأنه أو "إرجائه" بذريعة وجود "الأعداء" في الداخل والخارج، الذين يتربصون بالبلد أو بالوطن شراً. لقد أُدينت الدولة الوطنية الدستورية من موقع أنها "مؤسسية بورجوازية أو لا إسلامية"، تمثل غطاءً لدُعاتها، وبالتالي من موقع أنها مُنتَجٌ مُستجلب من "الغرب" لا يتوافق مع مطالب الشعب، والإسلام القائم على مفاهيم "الاستخلاف الخليفي" أو "إمامة الفقيه" وغيره. ومع ظهور آراء أخرى في الدولة تأتي من مرجعية "سياسية دنيوية" وأخرى "إسلامية" (انظر المناظرة البديعة وذات الدلالة المهمة والمرهفة التي دارت بين الإمام محمد عبده والمفكر النهضوي فرح أنطون، كمثال حاذق على ذلك)، اتضح أن الدولة -حتى في طابعها البورجوازي- ليست شراً بإطلاق، خصوصاً إذا ضُبطت فيها آليات الحكم والسلطة من موقعي الحرية والعدل؛ كما اتضح أن تأسيس دولة عادلة دستورية وبشفافيّة فعلية، لا يتناقض مع مبادئ الإسلام (ويُذكر في هذا السياق النموذجُ المهم الذي أُهملت دراسته طويلاً، وهو المؤسسة السياسية التي قامت على مبادئ دستور المدينة الذي قاده النبي نفسه عليه الصلاة والسلام). لقد سارت الأمور إذاً -في العموم- على ذلك الدرب، الذي يقود إليه بقوة "الغراب": إنه درب إلى الحفاظ على التخلف، وإلى تحويله إلى تخْليف يبدو، خصوصاً لمجموعاتٍ مِمَّن ذكرنا وأخرى من الباحثين في الغرب، كأنه "مغروزٌ في جلودنا نحن الشرقيين، والعرب منهم"، كما قرر المفكر الراحل زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي". التجاذبات والصراعات وكل ما يندرج في هذا المضمار، كانت وما تزال طريقاً إلى إرجاء المشروع العربي النهضوي التنويري، لكن هذا المشروع، الذي لابد أن يكتسب خصوصياته في بلد عربي أو آخر، ظل يفرض نفسه؛ وهو الآن يكاد يظهر للعرب كأنه دعوة "إلى الحج والناس راجعون"؟ |
الخميس يناير 28, 2010 4:24 am من طرف سميح القاسم