1-المشهد الأول:المكان: مطار الشيخ سعدون الصباح في الكويت
الزمان: حوالي الساعة الخامسة والنصف مساء بتوقيت الكويت، يوم 15 ديسمبر 2009.
وصلت طائرة شركة "الوطنية" الرحلة رقم 2003 القادمة من القاهرة.
تقدمت بأوراقي – كارت التأشيرة كما يسمونه – مرفقا به جواز السفر،
فأخبرتني السيدة المسؤولة أنها تريد "الـتأشيرة الأصلية"، ولما لا حظت
حيرتي قامت هي بنفسها ووجدتها مع مسؤول آخر، وبدأت إجراءات النظر في جواز
السفر استعدادا لختمه بالسماح بالدخول. في هذه اللحظة تقدم مني شاب في غاية
اللطف والأدب والدماثة – علمت فيما بعد أن اسمه "نواف" – طالبا أن أستريح
حتى انتهاء الإجرءات. بالنسبة لي هذا سلوك عادي يحدث في استقبال ضيف مدعو
من جهة معروفة. سألني الشاب : كيف كانت الرحلة، وأجبت الإجابات العادية :
كانت مريحة وكل شيء تمام والحمد لله. حوار عادي، سؤال عادي وجواب عادي،
ونحن جالسان على إحدى الأرائك في صالة الدخول. بعد تردد ليس طويلا، تساءل
الشاب في خجل عما يمكن أن يكون رد فعلي على ما سوف يقول : "يا دكتور ما
بعرف كيف ستتفهم ما يتحتم علي إني أقول، أنا مكلف بإعادتك إلى القاهرة على
الرحلة التي تغادر في الساعة العاشرة." تساءلت : هل أفهم من هذا أنني
ممنوع من الدخول؟ "للأسف يا دكتور، واعذرني أنا عبد المأمور". (الشاب كما
هو واضح يحاول التواصل معي باللهجة المصرية. علمت منه فيما بعد أنه يمتلك
مسكنا في القاهرة، وأنه يعشق مصر والمصريين). سألت مستغربا: ومن صاحب قرار
المنع؟ قال الشاب : "صدقني يا دكتور لا أعرف".
2- من وراء الجدار العازل:قلت له : "علي بالاتصال بالأستاذ "طالب المولي" والذين ينتظرونني في
صالة الوصول." عرض الشاب أن استخدم تليفونه الكويتي بدلا من استخدام
تليفوني الدولي، فشكرته؛ لأن الأصدقاء المنتظرين في الخارج يتعرفون عليَّ
من رقمي الهولندي. فوجئ "طالب المولى" بالخبر، وطلب مني الانتظار قليلا
وسيتصل بي مرة ثانية. بعد دقائق اتصل ليقول إن بعض أعضاء البرلمان من
الاتجاه الإسلامي أثاروا بعض اللغط اليوم بخصوص زيارتك في سياق استعدادهم
لإعداد قرار بسحب الثقة من الحكومة، لكن الصدمة أنهم نجحوا في ابتزاز وزير
الداخلية. تساءلت ضاحكا: وما دخلي بهذا الموضوع؟
توالت الاتصالات من الدكتور "أحمد البغدادي" – شفاه الله وأعاده سالما
من رحلة علاج بانجلترا أصر على تأجيلها لحضور محاضرتي يوم 16 وتقديمي
للجمهور الكويتي. واتصل بي أصدقاء آخرون يعتذرون بأسف أحسست معه أنني يجب
أن أخفف عنهم، وهكذا كنت أفعل. بدأت اتصالات من صحف كويتية يسألون عن رد
فعلي الذي عبرت عنه بوضوح واضعا القرار تحت حذائي، واستعدادي لفضح هذا
القرار بعمل مؤتمر صحفي في مصر وآخر في هولندا. هنا يجب أن أؤكد أنني أتحدث
عن "القرار"، وليس عن "المسؤول" صاحب القرار، ولا يمكن أن أتخيل أبدا أن
يظن أحد أنني أقصد "الكويت" الوطن، كما فهم بعض من علقوا على هذه العبارة
في صفحات "تعليقات القراء" على الإنترنت. من له أدني معرفة بكتاباتي
وأفكاري – أقصد معرفة مباشرة لا معرفة سماعية نقلية – يعرف معنى ما أقول.
الكويت وطن لا يلوثه قرار – ورقة – يمكن أن تداس بالحذاء، وإن كان تتسلح
بتوقيع مسئول لا يحترم القانون : القانون الذي لم يمنعه من منح التأشيرة،
ولكنه أصر على أن يضع القانون تحت حذائه بسحب التأشيرة دون الاهتمام بإبداء
أي تبرير قانوني للمنع. القرار الذي يستهين بالقانون إلى هذا الحد – راضخا
لابتزاز سياسي رخيص – هو قرار مكانه سلة المهملات. هذا هو الأمر ببساطة
متناهية.
3- الكويت-الوطن العربي الجميل:اهتم بي اهتماما بالغا في الساعات التي قضيتها بالمطار الشاب "نواف"،
الذي عرفت منه فيما بعد أنه "مدير شركة الطيران الكويتية" ، وأنه ليس من
رجال أمن المطار ولا من ممثلي وزارة الداخلية. بعد أن تأكد الشاب أن
"الخبر" – المنع من الدخول – لم يزلزلني كما توقع، بدأ التعرف عليَّ : من
أنا؟ وماذا أعمل؟ وفيم كانت الدعوة؟ ولماذا سُحِبت التأشيرة بعد منحها؟ حين
أنبأته بما أعلم سألني : من هؤلاء الذي اعترضوا : شيعة أم سنة؟ قلت : في
حدود علمي يا أخ "نواف" هم من السنة. عاد فسألني: السلفية أم السنية؟
سألته: وما الفرق؟ قال: السلفية متشددون جدا. هم الذي هاجموا رئيس جمعية
سعودية قال إن الاختلاط بين الرجال والنساء ليس ضد الشريعة وتسببوا في
فصله، أما السنية فمعتدلون. (كنت قد قرأت في صحيفة "الوطن" وأنا بالطائرة
بعض ذلك الهجوم.) تساءلت مندهشا: هم فصلوه، قال الشاب : لا يا أستاذ،
الحكومة السعودية فصلته. سألت "نواف": هل الإخوة السلفيون ممثلون في
البرلمان؟ لا، لأنهم ضد الديمقراطية. قلت له : إذن فالذين اعترضوا على
الدعوة والتأشيرة هم السنية، لأنهم أعضاء في البرلمان. بدت علامات الدهشة
والاستغراب – استغراب حقيقي يكاد يقارب تخوم الاستنكار – على وجه "نواف" :
ليه، كان يمكن يحضروا المحاضرة ويناقشوك ويردوا على أفكارك. أليس ديننا يحض
على الاجتهاد والنقاش بالتي هي أحسن؟! قلت : شفت بقى يا عم "نواف" المشكلة
اللى احنا غارقانين فيها؟ قال : تعرف يا دكتور الظاهر انهم خايفين منك
لأنهم مش حيقدروا يناقشوك.
بين الحين والآخر كان "نواف" يستأذن لفترات غياب ولم أكن أسأله عنها.
عاد مرة بعد فترة غياب طالت، عاد متهللا : لا مؤاخذة يا دكتور اللي ما
يعرفك يجهلك، أنا قاعد آخد وادي معاك في الكلام وانا مش واخد بالي إن حضرتك
الدكتور نصر أبوزيد المفكر المعروف. اعذرني ما ربطتش الاسم بمعلوماتي، قلت
له لعل معلوماتك عني مش وحشة؟ ضحك "نواف" ببراءة عذبة وقال: اعذرني يا
دكتور ما خطر ببالي إن مفكر كبير زيك ياخد ويدي في الكلام مع واحد بسيط
زييي. شعرت بخجل حقيقي من هذا الإطراء، وقلت له: يا "نواف" العمل في مجال
البحث والفكر مهنة زي كل المهن. لو انت بتمارس مهنتك بجد وإخلاص وأمانة
ومعرفة، فلست أقل من أي مفكر. المفكرين بني آدمين عاديين، بعضهم بيمارس
الفكر بجد وإخلاص وأمانة ومعرفة، وبعضهم زي بعض أصحاب المهن الأخرى مزورين
ومرتشين. حكيت لنواف باختصار سيرتي الذاتية : الأسرة والأهل والنشأة. بدأ
"نواف" يكلمني عن ابنته – طفلة أكبر قليلا من عامين – وأراني صورتها على
الموبيل. سألته: ناوي تعلمها لغاية فين؟ لغاية ما تحب توصل، يارب تبقى زي
ما تحب تكون.
تحدثنا في أمور كثيرة عن "التعليم" و"السياسة" و"الاقتصاد" و"المشكلات
الاجتماعية". بعد أن ضمن "نواف" راحتي التامة في قاعة "كبار الزوار" كان
يسـتأذن لإنهاء بعض الأعمال في المكتب، هكذا عرفت أنه مدير شركة الطيران
الكويتية التي سأستقلها عائدا إلى القاهرة. في هذه الغيبات كان يحرص على
أن يكون معي أحد موظفي المكتب حتى يعود. سألته مازحا: جرى إيه يا نواف هو
انا تحت الحراسة ولا إيه؟ رد بانزعاج حقيقي : حاشا لله يا دكتور! لا أريد
أن أتركك وحدك، زميلي معك ربما تحتاج لشي. شرحت له أنني أمزح، ولكني
سألته: طيب فين الجواز؟ حاجزينه ليه؟ أنزعج مرة أخري : يا دكتور والله
راحتك هي أهم شيئ عندي. لن أجعلك تمر عبر إجراءات بوابات الوصول إلى
الطائرة. سأحملك بنفسي بشنطتك حتى المقعد. لذلك أحتاج الجواز لإنهاء
الإجراءات، ويكفي الإزعاج الذي سببناه لك. وهذا ما حدث، قبل الإقلاع
بدقائق حمل "نواف" حقيبتي ومررنا عبر كل البوابات الإلكترونية حتى المقعد:
مع ألف سلامة يا دكتور، شرفتنا ونعتذر عن الإساءة.
4- دخول الكويت بالصوت دون الصورة:الجهة الداعية هي مركز الحوار الثقافي (تنوير) وهو مركز أنشأه مجموعة من
المثقفين الكويتيين يتركز نشاطه في الإطار الثقافي والفكري وله موقع
إلكتروني:
www.kwtanweer.comضمن إطار الدعوة هاتفني الدكتور أحمد البغدادي الذي أعرفه من خلال كتبه
وآرائة ولم أشرف بلقائه. الدعوة لأي فعالية فكرية في أي مجتمع عربي تحتل
أولوية قصوى في ترتيب نشاطي، مهما كانت الدعوة متأخرة في التوقيت. في هذه
الحالة تلقيت الرسالة الأولى للدعوة في 21 أكتوبر، أي قبل أقل من شهرين من
الموعد المحدد. قبلت الدعوة مرحبا وتم الاتفاق على إلقاء محاضرتين يومي
16 و 17 ديسمبر 2009 : الأوالي بعنوان "الإصلاح الديني في الدولة
الدستورية"، والثانية بعنوان "قضايا المرأة بين الخطاب القرآني والرؤية
الفقهية". خلال فترة إقامتي المؤقتة في المطار لم يكف الهاتف عن الرنين من
رجال الصحافة والإعلام والمثقفين وبعض أعضاء البرلمان، وكلها مكالمات تبدأ
بالاعتذار وتؤكد المساندة والتأييد. اتصلت النائبة د. رولا دشتي والسيدة
ابتهال الخطيب والنائب الأستاذ صالح الملا والنائبة د.أسيل العوضي، وكلاهما
تقدم باستجواب لوزير الداخلية – بعد تجديد الثقة به من جانب الإسلاميين
الذين كانوا قد طرحوا من قبل حجب الثقة عن الوزارة كلها – لتقديم التبريرات
القانونية للمنع من الدخول. حين وصلت إلى مطار القاهرة بعد منتصف الليل
(صباح يوم 16 ديسمبر) وجدت مكالمات كثيرة ممن أعرف (طالب المولى، واحمد
البغدادي) وممن لا أعرف. لكن الوقت كان متأخرا، وأنا عادة أغلق تليفوني
المحمول في الساعة العاشرة مساء، ولا أرد على أي مكالمات على التلفون
الأرضي بعد ذلك إلا إذا كان الرقم الطالب هو رقم زوجتي الدكتوره ابتهال حين
تكون في القاهرة وأنا في هولندا.
في الصباح اتصلت بكل من "طالب مولى واحمد البغدادي" اللذين أبلغاني
قرارهما بإقامة الفعالية في موعدها مساء اليوم (16 ديسمبر) كما هو مقرر،
وطلبا مني ضرورة المشاركة عبر التليفون. وقد كان، وبهذا ثبت للمانعين عبثية
المنع في العصر الحديث.
في تمام الساعة السادسة مساء بتوقيت القاهرة – السابعة بتوقيت الكويت –
بدأت وقائع الفعالية بتقديم من الأستاذ "طالب المولى" استمعت إليه كاملا.
ثم جاء دوري فبدأت مداخلتي بتعليق على ما حدث لم يخرج على ما طرحته من أن
المشكلة الأساسية هي مشكلة صاحب القرار الذي خضع للابتزاز فداس على القانون
من أجل حماية كرسيه المزور. من حق أي جماعة أو أي شخص أن يعبر عن اعتراضه
على أي قرار يراه غير ملائم أو يراه ضارا بمصالح البلاد، لكن مهمة المسئول
الحفاظ على القانون. في حالة تأشيرة دخول المواطن المصري العربي "نصر
حامد أبوزيد"، تمت الموافقة على منح التأشيرة لعدم وجود مانع قانوني. هذا
الوضع لم يتغير، ولا يجب أن يتغير، باعتراض معترض، اللهم إلا إذا كشف
الاعتراض عن وجود خطر محدق من دخول الشخص يعرض البلاد لوباء مرضي أو وباء
سياسي/اجتماعي. وفي هذه الحالة الأخيرة من حق الشخص أن يعرف الأسباب
القانونية لمنعه من الدخول رغم سلامة إجراءات منح التأشيرة.
السياسي في بلادنا صار صدى باهتا للتطرف باسم الدين. التطرف يبتز ويهدد
والسياسي يذعن، فتسقط كل أقنعة الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي
يتجمل بها السياسي. يجب أن تكون معركة المثقف ضد السياسي، الذي هو الصدى
الباهت للتطرف الديني. جريمة ثقافية كبرى أن يتحالف المثقف مع السياسي باسم
محاربة التطرف والإرهاب، ذلك أن السياسي متطرف وإرهابي من نفس النمط.
متطرفان يكره كل منهما الآخر، وإرهابيان يرهب كل منهما الآخر، والضحية نحن:
الشعب بكل طوائفه ومنهم المثقفون المستقلون، ابناء البطة السوداء أو
العرجاء كما نقول في الأمثال المصرية. من هنا أؤكد دائما وفي كل مناسبة على
ضرورة أن يتمسك المثقف باستقلاله حتى لو تبنى السياسي منظور المثقف. على
المثقف أن يكون دائما حارس قيم وعليه أن يحذر أن يتحول بالتحالف مع السياسي
فيكون "كلب حراسة". علينا أن نتعلم من دروس التاريخ كيف تتحول الأفكار على
يد السياسي إلى أدوات قمع وسجن وتعذيب. لم يكن المأمون ليبراليا
ولاعقلانيا حين استخدم مقولات المعتزلة لامتحان البشر من الفقهاء والقضاءة
وتعذيبهم، ولا كان المتوكل عادلا حين قلب الموازين فاضطهد المعتزلة. في
الحالتين تم خداع المفكرين فدفعوا الثمن. أعظم الأفكار تلوثها السياسة، في
بلاد تعتبر "الحرية" فسادا، وترى المواطنين "رعايا"، في بلاد تضطهد
المخالفين في العقيدة كما تضطهد المخالفين في الرأي من المنتسبين لنفس
العقيدة.
قامت جريدة القبس بتغطية الفعالية بشكل طيب في عددها الصادر يوم 18 ديسمبر 2008.
http://www.alqabas.com.kw/Article.a…5- الكويت في بيتي:بعد هذه المقدمة بدأت موضوع محاضرتي – ستنشر فيما بعد – التي استغرقت
حوالي ساعة. وقبل أن استأذن في الانصراف – تليفونيا – نبهني الأستاذ "طالب
المولى" إلى أنه قادم للقائي في القاهرة يوم السبت 19 ديسمبر. في اليوم
التالي للفعالية يوم 17 ديسمبر أكد الأستاذ "طالب" أنه سيصل القاهرة يوم
الجمعة 18 على أن يلقاني يوم السبت 19 في بيتي. كان الرجل حريصا كل الحرص
على أن ألقاه في بيتي دون أن أتجشم أي عناء للقائه في المطار أو في الفندق.
ولما كنت أقيم في المدن الجديدة بمحافظة السادس من أكتوبر، حيث يصعب وصول
سائق التاكسي إلى المكان دون وصف تفصيلي دقيق، فقد استعنت بالصديق الدكتور
على مبروك لإحضار العزيز "طالب" وأن يحضر لقاءنا. كانت المفاجأة أن
الأستاذ طالب أحضر معه الهدية التذكارية التي تعطى للضيف الزائر بعد
الفعالية باسم المركز. سلمها لي وتكفل الدكتور علي بالتصوير، الصورة التي
ستؤكد لمن لا يفقه أنني دخلت "الكويت" صوتا وصورة رغم أنف المانعين. كان
يوما رائعا تعرفت فيه على مضيفي. وكانت الزيارة أكثر من رائعة، خاصة في
جزئها الثاني بعد أن عادت الدكتورة ابتهال من الجامعة وتعرفت على الضيف
العزيز وشاركتنا النقاش في قضايا الفكر الديني، المساواة، وحقوق المرأة.