نقتحم هذه القراءة بإبداء ثلاث ملاحظات أساسية:
أولا: عنوان الكتاب
أحمد المنصور: بدايات المغرب الحديث، الذي أصدرته الباحثة الإسبانية مرسيدس غارسيا أرينال باللغة الإنجليزية سنة 2009، يوحي بأن الأمر يتعلق ببيوغرافيةٍ للسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي الذي حكم المغرب في نهاية القرن السادس عشر. والحال أن الكتاب هو دراسةٌ حول المغرب زمن أحمد المنصور. وتعترف أرينال بصعوبة كتابة البيوغرافيا لأسباب أرشيفية. ذلك أن المصادر المعتمدة لا تمكِّن من ذلك. فالمصادر العربية تتحدث عن أحمد المنصور من حيث تكوينه الديني والعسكري وما خلفه من آثار، والمصادر الأوربية تركز على أسلوبه في الحكم.
ثانيا: إذا كان الكتاب ليس بيوغرافيةً، فإنه تمحور حول أحمد المنصور كأحد صناع التاريخ السياسي والعسكري والدبلوماسي في الحوض المتوسط عند نهاية القرن السادس عشر. ونشير بهذا الصدد أن الكتاب منشور ضمن سلسلة تسمى “صناع العالم الإسلامي” تصدرها منشورات “عالم واحد” بأكسفورد. وقد سبق لهذه السلسلة أن نشرت كتبا حول عدد من الشخصيات التي تركت بصمات كبيرة في تاريخ الإسلام السياسي أو الفكري أو الثقافي، مثل معاوية ابن أبي سفيان، ومحمد علي، وأبو نواس، والمتنبي، وابن حنبل.
ثالثا: تزامُنُ صدورِ كتاب أرينال مع ظهور عدد من الدراسات تمحورت إشكالياتها حول أحمد المنصور وعهده. ففي الفترة ما بين سنتي 2008 و2011 اغتنت المكتبة المغربية بالكتب الآتية:
1- “المغرب في القرن السادس عشر: على عتبة الحداثة” للمؤرخ الفرنسي بيرنار روزينْبِرْجي. وهذا الكتاب صادر بالفرنسية عن مؤسسة الثقافات الثلاث بإشبيلية سنة 2008.
2- “خلافة أحمد المنصور المتخيَّلة: السلطة والدبلوماسية بالمغرب في القرن السادس عشر” للباحث نبيل ملين، وهو صادر بالفرنسية سنة 2009 عن المنشورات الجامعية الفرنسية بباريس.
3- “مؤسسة المخزن على عهدي أحمد المنصور والمولى إسماعيل” للباحث محمد جادور، الصادر سنة 2011 عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء.
يتكون الكتاب من ثمانية فصول. خصّصت المؤلِّفة الفصل الأول لمعركة وادي المخازن، أو ما يسمى أيضا بمعركة الملوك الثلاثة، التي جرت وقائعها سنة 1578، وانتصر فيها المغرب على البرتغال، واحتل بفضلها أحمد المنصور واجهة المشهد السياسي بالحوض المتوسط. وتناولت في الفصل الأخير أزمات نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، من مجاعات وأوبئة ونزاعات على الحكم. وبين هذين الفصلين يجد القارئ إضاءات هامة، مكتوبة بشكل جيد، سلّطتها أرينال على الأهالي، والمدن، والنخب الدينية، والجيش، والعلوج، والموريسكيين، واليهود، والدبلوماسية، والصراعات مع الأتراك العثمانيين، والتجارة، وغزو السودان. وكلها فصول، يجد فيها القارئ تركيبا مشيَّدا بإتقان حول المغرب في عهد سلطانٍ ترك بصماته ليس فقط على تاريخ المغرب، بل أيضا على تاريخ الحوض المتوسط والسودان الغربي.
وفي كل هذه الفصول استندت أرينال، التي سبق لها أن اشتغلت على العهد السعدي، والموريسكيين بالخصوص، إلى مصادر معروفة، متداولة لدى المهتمين بالقرن السادس عشر، مثل كتب الأخبار والمناقب والتراجم، والوثائق الأجنبية، لاسيما المصادر الدفينة لتاريخ المغرب، والمراسلات الدبلوماسية وكتب الرحلات الأوربية. هذا بالإضافة إلى الدراسات الأنثروبولوجية حول الإسلام، خاصة تلك التي أنجزها إرنست غيلنر، وكليفورد غيرتز، وفِنسينت كورنيل. فهذا العمل لا يرتبط بكشف مصدري جديد، بل بقراءة نوعية لهذه المصادر وتقديم تركيب لهذا التاريخ.
تنطلقُ مرسيدس غارسيا أرينال من مناقشة فكرة المستشرق البريطاني بيرنار لِويس، التي مفادها أن المغرب ظل طوال تاريخه بلدا ضعيفا، ومنعزلا بسبب بعده الجغرافي عن المشرق، وتؤكدُ العكسَ، إذ تقول إن المغرب في عهد أحمد المنصور لم يكن كذلك، لا في ذهنية السلطان نفسه، ولا في تصور ملوك القرن السادس عشر. ترى أرينال أن أحمد المنصور تمكن من ثلاثة أمور أساسية:
أولا، استطاع أن يكُون مَلكا عظيما، كما هو الحال بالنسبة لمراد الثالث، السلطان العثماني، وفيليب الثاني، ملك إسبانيا، وإليزابيث، ملكة إنجلترا.
ثانيا، مكَّن المغربَ من احتلال مقدمة المشهد السياسي الدولي.
ثالثا، وضَع البلادَ على سكة التحديث.
هذه النقطة الثالثة هي التي تشكل الفكرة الرئيسية التي يتمحور حولها الكتاب. وتستعرض الكاتبة، في سياق تحليلها، مجموعة من الصور والرموز، تقيس من خلالها عظمةَ مُلك أحمد المنصور، وذلك على ضوء بعض النماذج المعروفة في أوربا. ونذكر من هذه الصور والرموز ثلاثةً:
1- غزو السودان سنة 1591. هنا تتعامل أرينال مع هذا الموضوع من زاوية الكنوز كمؤشر على العظمة، على غرار ما حصل في أوربا عندما تدفقت عليها المعادن النفيسة والأحجار الكريمة والتوابل من العوالم الجديدة خلال القرن السادس عشر.
2- قصر البديع بمراكش. ذلك أن بناء هذا القصر من الرخام الوارد من إيطاليا يجسد، برأيها، قوة الدولة وعظمتها، كما هو الشأن في أوربا عندما أقدم الملوك على تشييد قصورٍ ضخمةٍ مثلت رمزا للسلطة والغنى.
3- امتلاك حيوان عجيب. في هذه الصورة تورد أرينال قصة الفيل القادم من إفريقيا، الذي أدهش أهلَ مراكش، على غرار الفِيلَة الهندية التي أبهرت هي أيضا أهالي المدن الأوربية.
تحُثنا قراءة هذا الكتاب على إبداء ملاحظةٍ، خاصةً ما يتصل بمفهوم العصر الحديث. هل يمكن الكلام عن عصرٍ حديث، مع ظهور الأشراف السعديين، وتحديدا مع أحمد المنصور؟ صحيح أن المغرب برز في الساحة الدولية في نهاية القرن السادس عشر بفضل سياسة أحمد المنصور وحنكته الدبلوماسية عقب معركة وادي المخازن، صحيح أيضا أن هياكل الدولة صارت متينةً نسبيا بفضل التنظيم الجديد المقتبس عن الأتراك في مجالي الجيش وتدبير شؤون المخزن، لكن بعد وفاة أحمد المنصور سنة 1603 انهارت البلاد مثل قصرٍ من ورق بسبب الأزمات البيولوجية، من مجاعات وأوبئة، وتطاحن الأمراء على الحكم، وتنامي شوكة رجال الدين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن قوة البلاد ارتبطت بشخص السلطان أكثر مما ارتبطت ببنية الدولة. فقد عجز المخزنُ عن إحداثِ مؤسسات سياسية وإدارية منظَّمة بحكم القانون، وتأسيسِ نظامٍ قار لولاية العهد، كما عجز عن فرض وجوده على الفقهاء بصفة شاملة ودائمة. ثم إن العقليات ظلت متشبثةً بالتقليد، مناهضةً لكل جديد.
لقد بقيت بنياتُ البلاد، الاجتماعية والاقتصادية، وأشكال ممارسة السلطة، وأنماط التفكير، عتيقةً، غارقة في روح العصر الوسيط. ففي القرن السادس عشر، عصر التجارة والنهضة والبروتستانتية في أوربا، لم يكن المغرب قد شق طريقه لا نحو اقتصاد ميركانتيلي، ولا نحو دولة قومية، ولا نحو تفكير عقلاني. فإلى غاية القرن التاسع عشر، كان المغرب مازال يحافظ على نسقه الوسيطي، إذ لم يعرف ذلك المحرك الاجتماعي، أي البورجوازية التي غيَّرت وجه أوربا في مطلع العصر الحديث. لذلك، وإلى حدود رجة الاستعمار في القرن التاسع عشر، عاش المغرب وفق اقتصاد زراعي، معاشي، وفق نظام سياسي يحتكر فيه المخزنُ السلطةَ على نحو عمودي، وفق نسق فكري يؤطره الدين الإسلامي تأطيرا شاملا
هذه الملاحظة تتجاوز، ربما، إطار هذا الكتاب، لأنها تندرج ضمن إشكالية عريضة، هي إشكالية التحقيب، لكنها لا تقلل من شأنه. إن عمل مرسيدس غارسيا أرينال يشكل مساهمة هامة لفهم تاريخ المغرب في محيطه الدولي. فتقاطع المصادر، العربية والأجنبية، والمنهج المقارِن الذي مدَّ جسورا أفقية بين سلاطين المغرب، وجسورا عمودية بين ملوك القرن السادس عشر، والبعد المتوسطي للتوصيفات والتفسيرات، كلها أمور تضفي على الكتاب قيمة أكيدة.