سؤال عريض، يصعب التغلب عليه
بجرّة قلم، أو بجرّات أقلام. أمامنا خيار آخر هو أن نجزئه ونبسطه قليلاً:
هل الشعوب في حاجة إلى الأوهام، من أجل أن تعيش سعيدة، آمنة، مقاومة،
مبدعة، صانعة للحضارة، أو لمجرّد أن تعيش بسلام؟
نعم؛ يقول الكثيرون، من بينهم فلاسفة محافظون، من قبيل ليو شترواس
وألان بلوم، ورجال دولة بارزون، من قبيل جيمي كارتر وطوني بلير، ومحللون
نفسانيون، من قبيل كارل يونغ، وزعماء ثوريون، من قبيل علي شريعتي، ورجال
دين وأصوليون قادمون من كل فج عميق.
علاوة على ذلك، فإن الأسلوب الأمريكي في تدبير حقوق الإنسان، يعتبر
بعض الأوهام في عداد الحريات الأساسية للإنسان، ما يلزمنا باحترام معتقدات
الأفراد والجماعات، في السرّاء والضرّاء، ومن دون قيد ولا شرط. لا يقف
الأمر عند الحدود التي تحرمنا من مشروعية نقد وتفنيد الأوهام، لكننا أصبحنا
عاجزين عن مثل ذلك النقد، طالما أنّ الواقع نفسه مجرّد وهم كبير، كما يرى
فلاسفة موت الواقع، من أمثال جان بودريار.
ثم أن الأسلوب الجديد في منهجية المقاومة، كما تتبناه العديد من
حركات المقاومة في منطقة الشرق الأوسط اليوم، يعتقد بأنّ المقاوم يحتاج إلى
أن يتسلح ليس فقط بحقائق التاريخ وإنما بأوهامه أيضاً، لكي يقاتل بشجاعة
وإقدام.
وفي كل الأحوال، يجد العقلانيون أنفسهم في مواجهة السؤال: هل يمكن
للشعوب أن تجازف بالزحف نحو طريق التقدّم لو أنها لا ترمق أمامها في كل
مرّة، سراباً في نهاية الطريق؟
أحياناً تبدو الأوهام وكأنها ليست مجرّد حق من حقوق الإنسان، وإنما
هي فضلاً عن ذلك، واجب سياسي، وحاجة أخلاقية، وحقّ إنساني، وضرورة عقلية.
فماذا عن واجب الحقيقة، إذن؟ ذاك يبدو في اعتقاد الكثيرين، وكأنه كلام فارغ.
ماذا عن الوعي المطابق؟ تلك تبدو في عيون آخرين، حكاية قديمة!
قديماً كان أبو الهذيل العلاّف، وهو من شيوخ المعتزلة، يعتقد بأن
الأموات لا يقومون من رقدة الموت ولا ينهضون من حالة سكونهم، وإنما يظلون
ساكنين إلى أبد الآبدين، فلا يرون أكثر من صور مثل الأحلام، أو أنها أحلام
بالفعل، لكل نفس أحلامها بحسب أعمالها، وبحسب خيالها أيضاً.
أحلام الموتى، نصّ قوي من نصوص العالم السفلي، نص تلاشى قبل أن يكتب
له البقاء على أحرف الذاكرة والتراث، وقد كان بوسعه أن يمنحنا نحن
المسلمين، إمكانية إبداعية غير مسبوقة؛ حينها كان سيودع كل واحد منّا
عزيزاً في طور الاحتضار، فيقول له بصوت خفيض ونبرة هادئة: أحلام سعيدة.
فرصة أضعناها في الأوّل كما في الأخير، والخسارة تبدو مؤسفة
ومكلفة.. فأن يملأ الفكر العقلاني عالم الموتى بالأحلام وبرؤى الشعراء، خير
من أن يتركه يمتلئ بالأوهام ورؤى الدجالين.
كان العلاّف يُدرك أنّ لا شيء بوسعه أن يصمد في وجه العدم غير
الأحلام. فوحدها الأحلام لا تأكلها نار الصيرورة التي كان هيراقليطس أوّل
من اكتشفها.
لا تحتاج الشعوب إلى كثير من الأوهام لكي تصنع الموت لنفسها
وللآخرين، لأن القليل من الأوهام تكفي لتدمير حضارة بأكملها، لكن الشعوب
تحتاج إلى كثير من الأحلام، لكي تضع لبنة واحدة من لبنات ذلك الشيء الوحيد
الذي يدوم ويستمرّ عبر الأزمنة، ألا وهو التاريخ.
من هنا نفهم ما الذي تعنيه مقولة ماركس: إننا لا نعرف سوى علم واحد، وهو علم التاريخ.
هناك فخ ربّما هو الأخير، قد يضعه أنصار نظرية حق الإنسان في الأوهام:
هل يمكننا أن نحيى شيخوختنا وأن نتحمل عجزنا ويأسنا وأمراضنا وآلامنا وموتنا، من دون أوهام؟
حضارتنا الحديثة قرّرت أن تجعل سعادة الإنسان فوق كل اعتبار.
واستطاعت الحداثة السياسية أن تجعل السعادة حقاً من بين الحقوق الأساسية
للإنسان، وهذا ما فعلته على الأقل منذ وثيقة استقلال الولايات المتحدة
الأمريكية. وإذا تقرّر أن يكون الوهم مبعثاً للسعادة، فإنّ الحق في الوهم
يغدو من بين حقوق الإنسان. هنا تجد منظمات حقوق الإنسان نفسها أمام فخ يصعب
تجاوزه؛ حين تكون الحقيقة مبعثاً على الشقاء، لا سيما وأن الكثير من الشر
الذي شهده القرن الماضي، من قبيل الاستبدادين النازي والستاليني، نجم عن
هوس حماية الحقيقة من الزيف والبطلان، فإن احترام الأوهام يغدو واجباً
أخلاقياً ومطلباً إنسانياًً.
"الحقيقة"؛ هي الإسم الذي حملته أوّل جريدة أنشأها لينين
(البرافدا)، قبل أن تصبح الجريدة الرّسمية للاتحاد السوفياتي إبان مرحلة
الحرب الباردة.
أما الأنظمة الليبرالية فقد قرّرت بأنّ غاية الدّولة، تحقيق
السعادة، لا اكتشاف الحقيقة أو الكشف عنها. عندما انهار جدار برلين، كانت
دولة السعادة قد انتصرت على دولة الحقيقة.
نحن اليوم أمام مشكلة مستعصية؛ إذا كانت السعادة حاجة مقدّسة، فإن
الوهم، باعتباره باباً من أبواب السعادة، سيغدو حقاً من حقوق الإنسان.
من الناحية الموضوعية، يبدو هذا الفخ صعب التجاوز. فجميعنا نشك في
إمكانية أن يكون هناك واقع مادي يحقق السعادة بالفعل، يخامرنا الشك حول
وجود حقيقة لا تتضمن شيئاً من المرارة، وربما الرّاجح أن السعادة لا تتحقق
إلاّ في لحظات الانفصال الكلي عن الواقع المادي وعن الحقيقة، لحظات الشعر
أو الخمر أو اللعب بالأرجوحة، من هنا حاجة السعادة دائماً إلى الأوهام.
السعادة نسيان للوجود بأكمله.
هنا جوهر السؤال؛ هل ننطلق من واجب الحقيقة أم من الحق في السعادة؟ وما هي معايير الاختيار؟
في كل الأحوال هناك مسألة حسمها هيجل، من دون رجعة:
لن يكون الوعي المطابق للواقع سوى وعي شقي… والشعوب التي تبحث كثيراً عن السعادة تنتهي بأن تصبح خارج التاريخ.
أعتقد أنه درس ابن خلدون أيضاً. ويبقى لنا في الأخير، حقّ الاختيار.