حملت لنا وسائل الإعلام منذ أيام أحداثا يجب التوقف عندها، الأوّل عن
إعلان القسيس تيري جونز أحد قساوسة الكنيسة البروتستانتية في فلوريدا أنه
سيحرق القرآن يوم 11 سبتمبر تخليداً لذكرى ضحايا حادثة تفجير البرجين في
مانهاتن، الحدث الثاني عن المجندة الإسرائيلية "عيدين افرجيل" التي نشرت
صورتها على صفحة موقعها الالكتروني على "الفيس بوك"وهي تتلذذ بآلام
المعتقلين الفلسطينيين، وقالت بأنها غير نادمة أو آسفة على نشر تلك الصور،
بل وتضيف أنها لو أتيحت لها الفرصة مرة ثانية فهي ستستمتع بقتل العرب، بل
وحتى ذبحهم!؟أمّا الحدث الثالث فإقدام شابّ على طعن سائق سيّارة أجرة في
مدينة نيويورك مجرّد جريمة، إلا أنَّ تزامن الحادثة مع الجدل الدائر حول
خطة بناء مسجد ومركز ثقافي بالقرب من مكان انهيار البرجين، أعطى الحادثة
أبعادًا أخرى، وخصوصًا أنَّ المعتدي أميركيّ الجنسيَّة والمعتدى عليه مسلم
الديانة. والحدث الرابع تصريحات عوفاديا يوسف الزعيم الروحي لحزب شاس
الديني المتشدد في إسرائيل، وأحد أبرز ركائز الائتلاف الحكومي برئاسة
بنيامين نتنياهو. قال الحاخام يوسف في كلمة بثتها إذاعة الجيش الإسرائيلي
"ليختف كل هؤلاء الأشرار الذين يكرهون إسرائيل مثل أبو مازن والفلسطينيين
عن وجه الأرض وليضربهم الطاعون"!
ونلاحظ أن الأحداث السابقة كلها يجمع بينها مشاعر الكراهية الجماعية !
والسؤال كيف تنتج مشاعر الكراهية الجماعية المتبادلة بين البشر؟ ولماذا؟!
وفى محاولة الإجابة على هذا السؤال حرصت على الاعتماد على نتائج دراسات
دكتور Niza Yanay وهو محاضر بارز في علم النفس الاجتماعي في قسم العلوم
السلوكية بجامعة بن جوريون بإسرائيل. وهو حاليا أستاذ زائر بمركز دراسات
القيم الإنسانية في جامعة برينستون بالولايات المتحدة الأميركية، وكان
اختياري لهذا الباحث مرتكزا على عدة أسباب أولها أنّه يمثل الآخر بالنسبة
للقارئ العربي، ثانيا هو يعيش فى إسرائيل، ومجتمع مثل إسرائيل، حيث حدوده
المشتركة هشة ومعقدة، مجتمع يتبادل الكراهية مع محيط جيرانه العرب . ثالثا
لأنّ هذا الباحث له عدة دراسات قيّمة عن الكراهية، وخرج منها بنتائج
موضوعية اعتمدنا عليها فى إجابة السؤال الذى تطرحه هذه العجالة: كيف
تنتج مشاعر الكراهية الجماعية ؟!
الكراهية Hatred فى رأى Yanay لم تكن عادة موضوعا للبحث في ميدان علم
النفس الاجتماعي ، على الرغم من أنّ العديد من المكونات التي تجسّد
الكراهية تمت دراستها على نطاق واسع في هذا المجال، ونشرت الآلاف من
الدراسات التي أجراها علماء النفس الاجتماعي على القضايا ذات الصلة
بالكراهية، مثل السلوك العدواني، التحيز والتفوق العرقي، والعداء والتعصب
بين المجموعات . وعلميا الكراهية الجماعية تعنى فشل عملية التوسط بين
التشابه والاختلاف، وتعنى الانغلاق والفصل العرقي والعزلة . ومع ذلك تطمح
الجماعات الدينية والقومية التى تمارس الكراهية إلى الاعتراف بها كجزء من
الإنسانية.
ومنذ هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي والبنتاجون، أصبحت
الكراهية الجماعية موضعا أكثر أهمية للدراسة والبحث فى العلوم الاجتماعية.
وقد تم تعميم وانتشار هذا المفهوم، مفهوم الكراهية الجماعية بداية من
البيت الأبيض ووسائل الإعلام إلى شوارعنا ومنازلنا، حتى وصلت تلك
الكراهية إلى القلوب! وبالتالي انتقلت مشاعر الكراهية الجماعية إلى
محادثاتنا، وأفكارنا، ومشاعرنا. وفوجئنا واندهشنا باكتشاف اتجاهات كراهية
قوية تجاه أمريكا ! حتى أصبح مفهوم الكراهية يستخدم الآن من قبل كل الأطراف
بكثرة وحرية، ويستخدم كبديل لمفاهيم مثل العنف والعدوان. ومن ناحية أخرى
يوحي التحول من العدوان إلى الكراهية، بأنّ في أوقات الصراع والنزاع
والنضال يبحث الناس عن الدوافع النفسية الداخلية لتفسير أعمالهم، فيجدون
صعوبة فى التصور والغفران. ومع ذلك، فإنّ دخول الكراهية في خطابنا اليومي
لا يساعد على توضيح الآليات التي تعمل بها مشاعر الكراهية.
الكراهية كممارسة عاطفية: يرى دكتور Niza Yanay أنّ الكراهية الجماعية هى الممارسة العاطفية التي
تحافظ على العلاقات الاجتماعية الحميمة عندما ينهار التفاهم بين مجموعتين
تكافح من أجل تحديد الحدود والهويات. وعندما لا يمكن للمرء الفعل بدون
الآخر يسود سوء تفاهم عميق لدرجة اعتبار الكراهية شكلا من "العلاقات الآمنة
المطلوبة لإحداث التوازن النفسي! والمحلل النفسي Wilhelm Stekel
كتب عام 1929 في علم نفس الكراهية والقسوة يقول : ليس هناك حبّ بدون كراهية
! وذهب Stekel إلى القول بأن "هذا المبدأ لا يزال أسهل على الفهم من القول
لا توجد كراهية بدون حب". وتستند وجهات نظر Stekel على فرويد فى مبدأين
أساسيين :
(1) الكراهية هى جزء من الطبيعة البشرية.
(2) وإذا كانت الكراهية تعبيرا عن نبض الحياة، فقد زعم Stekel أنّ الحبّ لا ينفصل عن الحقد والكراهية.
وفى دراسة Niza Yanay عن مشاعر الكراهية فى سياق الاحتياجات الإنسانية والدوافع واللغة فى المجتمع الإسرائيلي، خرج بثلاث مسلمات :
1- إنّ أقسى عبارات الكراهية لها دلالة على الحاجة إلى مشاعر المودة والآلفة والعلاقات الحميمية، والرغبة فى الاتصال !
2- تنشأ الكراهية عندما ينهار الاتصال بين مجموعتين وتتسع الفجوة بين
أفكارهم ومعتقداتهم وقيمهم، وموقفهم الأخلاقي، وهو ما لا يمكن تجاوزه.
3- عندما تعتمد المجموعتان على بعضهما البعض في تحديد هويتهما، وحدودهما الجماعيّة.
الكراهية والخطاب الديني: وفي دراسة أخرى (Yanay، 1996)، اختبر فيها العلاقة بين تفاعل أنواع الخطاب
الوطني (العلماني والديني ) مع تجربة عاطفية (الكراهية)، وبناء (المرأة)
الذاتي . واعتمد على مقابلات متعمقة مع المراهقات، ما يقرب من 50 فتاة
يهودية، نصفهنّ من العلمانيات حيث وجد أنّهن يملكن أدنى معدلات الكراهية
تجاه العرب. أمّا نصف العينة الآخر اللاتي ينتمين إلى الحركة القومية
والدينية وجدت الدراسة أنّهن يملكن أعلى معدلات الكراهية تجاه العرب.
فالبعد الديني العلماني أنتج أنماطا معينة من الذاتية التي تختلف في درجة
التسامح حول التناقض والمخاطر. وكشفت الدراسة عن أنّ الاعتقاد الديني بين
الفتيات المتديّنات بأنّ "أرض إسرائيل" تابعة لليهود فقط، تشكل المنطق
الأساسيّ ضدّ جميع المطالبات الأخرى لحقوق فلسطينية مشروعة مقرّرة اعتبرت
ضدّ الخطاب الديني الوطني الإسرائيليّ، وفى رأى الفتيات المتدينات أنّ
المطالبات الفلسطينية غير منطقية، وخطيرة وغير عادلة ! وهنا الفتيات غير
قادرات على الفهم أو التعاطف مع حاجات وكفاح الفلسطينيين. فالخطر الذى
يتهدّد الأرض يدمج فى النفس البشرية ويعتبر تهديد تتعرض له الأنفس البشرية
التى تعيش عليها، ويسهل ذلك الإحساس بمشاعر الخوف والاستعلاء في نفس الوقت،
والتي غالبا ما تنتج معا الكراهية.
وفى عينة الفتيات العلمانيات ظهرت لغة التناقض عندما أقررن بأنه يجب
المحافظة على الواقع، والعمل تجاه وضع جديد لتحديد الهوية، و كلّ ما يثبت
هويّة المرء. وتضارب المواقف والاتجاهات في رأى الباحث، هو جزء لا يتجزأ من
نغمات عديدة للخطاب الصهيوني العلماني، فهذا الخطاب يثير بعمق عواطف
نشطة يمتزج فيها الخوف والغضب، ولكن أيضا الفهم. فيقلن لقد كنا أيضا
إرهابيين ذات مرة ! ومع ذلك يملكن حساسية تجاه الفلسطينيين الذين يريدون
دولتهم الخاصة، وفى نفس الوقت يشعرن بغضّ النظر عن اختلاف الفلسطينيين عن
اليهود بأنّهم جميعا لديهم خبرات واحتياجات مشتركة كونهم كائنات بشرية.
الكراهية والخطاب الاجتماعيّ: وبينت الدراسات التجريبية أنّ الكراهية ليست متأصّلة في الشخصية أو في
جوهر البنية العقلية والنفسية، بل هى بنية اجتماعيه وممارسة عاطفية من خلال
مجموعة واسعة من الخطابات الوطنية، والدينية، والسياسيّة. ويقرر دكتور
Yanay أنّ في حالة الكراهية بين الأفراد، فإننا لا نستطيع عزل مشاعر
الكراهية عن الخطاب الاجتماعي، حتّى عندما تتشكل مشاعر خاصة جدا، فهي في
حدود القيود المفروضة على المسؤولية الاجتماعية وتحديد الهوية، ومدى
توافقها مع عميق اقتناع طبقة الفرد، والدين أو الانتماء القومي. وإنّ
الكراهية كممارسة عاطفية هي فعل اتصالي حين يفشل التفاهم والتواصل.
فالكراهية تحافظ على خيط رفيع من الروابط (حتى لو كانت سلبية وخفية) مع شخص
آخر (أو مجموعة) عندما يكون التفاهم خطيرا للغاية أو يهدّد وحدة الجماعة
أو المجتمع . وبعبارة أخرى، تنشأ علاقات الكراهية لأسباب نفسية مختلفة
نابعة من الأوضاع السياسية أو الاجتماعية. وفى المقابل يعتبر التفاهم
العاطفي شكلا لعلاقات اجتماعيه تمثل وضعا مشتركا وعامّا للحكم على الأشياء
والمواقف للتفاوض، ولإدارة المعاني والمقاصد، لكن عندما يحدث تنافر في تلك
الأوضاع وينكسر الاتصال نجد الغضب والكراهية يتصاعدان.
وبالمثل عند التنسيق بين مختلف أنماط فشل التفاهم والتفاوض بين المطالبات
المنطقية المتنافسة والمتضاربة من أجل تعطيل العدالة وكسر الحقيقة
باستمرار، يبرز العنف ويحلّ محلّ الحلول الأخلاقية. ويوضح Yanay أنّ مفاهيم
مثل فشل التفاهم وانهيار الاتصال، والاعتماد المتبادل أو عدم التمايز
مهمّة للغاية لفهم الكراهية، وأنّ الحوار الناجح بين الذات والآخرين يعتمد
على الاعتراف المتبادل، وتفهّم أنّ الآخرين رعايا أيضا في الدولة، ولديهم
حقوقهم المختلفة والمتشابهة في نفس الوقت. ويذكرنا Yanay بمقولة فرويد "
إنّ الناس يصنعون العدوّ حينما يتبنّون المناورة والخداع النفسي بالإسقاط
فيتصوّرون الفكرة وكأنّها حقيقة موضوعية. " وعلى نفس المنوال، يمكن القول
إنّ الجماعات والأفراد يدافعون عن أنفسهم ضدّ الأفكار غير المقبولة،
والاحتياجات والمخاوف أو من خلال تصوّر وتخيّل الكراهية على "الآخر"
المحتمل للحفاظ على نظام اتصال آمن. وإذا قبلنا هذا التناقض الظاهري،
يمكننا، إذن، وضع استراتيجيات من شأنها تقويض العوامل المنتجة للكراهيّة
الجماعيّة. لكن ما هي هذه الاستراتيجيات؟ يزعم الباحث أنّها التفاعلات
المتناقضة بين الاحتياجات المؤسّسية والهيمنة الأصوليّة للخطاب اليوميّ
التي يجب إصلاحها، بل يجب أن نكسرها من أجل تغيير الكراهية، سواء كانت
عرقية أو قوميّة أو دينيّة أو بين الأشخاص.