المتشائل: لقد علَّمنا إميل حبيبي أن المتشائل يقف بين المتشائم والمتفائل، وأن
التشاؤل مزاجٌ فُكاهيٌّ سوداويّ مُبكٍ مُضحك؛ شيءٌ يقترب من الكوميديا
السوداء. إنه الانطلاق من اليأس إلى الأمل، أو نحو ما سيأتي؛ إنه الخاتمة
السعيدة التي تُخيِّب ظن المتشائم دائماً.
بهذه الروح المُتشائلة سأُعيد قراءة مقطعٍ صغير لمحمد الماغوط يقول فيه:
"الشجرة قصيرة والظل طويل، إنه الغروب."
ماذا لو قلبنا هذه الجملة لتُصبح:
"الشجرة قصيرة والظل طويل، إنه الشروق." ؟
في جملة الماغوط تقف الشمس أمام الشجرة التي تتأمل ظلها الطويل، الذي
صار وراءها، فتدرك أن نهاية النهار قريبة وأن الليل لن يلبث أن يُرخي
سدوله. في جملتنا نحن تقف الشمس وراء الشجرة التي تتأمل ظلها الطويل
فتقول: ها هو النهار قد بدأ ولا يزال الأمل يمتد أمامي فلأتفاءل ببلوغ ظلي
إذن!
***
أخلاق السادة وأخلاق العبيد: كتب أُنسي الحاج في خواتمه: "واحدةٌ تعطيك جسدها دون روحها لتحفظ
روحها، وأُخرى تُعطيك روحها دون جسدها لتحفظ جسدها. أيهما أكثر فضيلة؟"
أدهشني سؤال الحاج! لقد كان عليه أن يقول أيهما أقل فضيلة. إن من
تعطيك جسدها دون روحها لا تمارس أية فضيلة فهي تبيع جسدها، أو هي مُكرهةٌ
على منح هذا الجسد كما تفعل معظم نساء الشرق المُجبرات على تلبية غرائز
الرجل الزوج أو السيّد. إن من تعطيك جسدها دون روحها تُقدِّم لكَ جثةً
هامدة، ولحماً رخيصاً لا يليق إلا بآكلي لحوم البشر.
أما من تُعطيك روحها دون جسدها لتحفظ جسدها فليست أقل عبودية من
الأولى؛ هي تُمارس كل أنواع الحرمان والرقابة البوليسية بكل عُقدها على
جسدٍ لا تمتلكه ولا يمتلكها. إنها مُجرَّد سجّانٍ للحرية على جسدٍ ليس
ملكاً لها، بل هو رهينةٌ عند شرف العائلة الذي قد يُلطّخ بالعار أو لزوج
المُستقبل الذي ستُقدم له حينها جسداً دون روح فتتلاقى الحالتان. إن كلتا
الحالتين هما وجهان لعملةٍ واحدة فهما تتخبطان في رذيلة الفقر، فقر الروح
وفقر الجسد.
***
لا أُحب قصة لافونتين عن النملة والصرصور، وأُفضِّل عليها كثيراً قراءتها المعكوسة على يد الروائية فرانسواز ساغان. يُصوِّر لنا لافونتين الصرصور متسولاً ذليلاً في أيام الشتاء الباردة،
حيث لم يبقَ لديه ما يأكل بعد أن أمضى صيفه في اللهو والغناء والمرح،
فيلجأ إلى جارته النملة التي أمضيت الصيف كله في العمل لتؤمن مؤونة
الشتاء. لكن نملة لافونتين هي نملةً بخيلة قاسية القلب « la Fourmi n’est
pas prêteuse » لا تأبه لتوسلات جارها الصرصور وتقول له بكل سخريةٍ باردة:
إذا غنيّتَ كل الصيف ولم تؤمن مأونة الشتاء، فلم يبقَ لكَ سوى أن ترقص
الآن. لا شك أن القيمة التي يحاول لافونتين إبرازها هنا هي قيمة العمل على
حساب حياة المتعة واللهو وإضاعة الوقت.
تُظهر ساغان، في قراءتها لهذه الحكاية، نملةً جشعة قد عملت كل الصيف
وملأت مخازنها، وها قد انقضى الشتاء وعاد الصيف من جديد ولا تزال مخازنها
تفيض بالحبوب فتلجأ عندها إلى جارها الصرصور ليشتري منها محصولها ويسدده
لها في أي وقتٍ يشاء. ولكن الصرصور غير الجشع يسخر منها قائلاً: بما أنك
عملتِ كل الصيف فلم يبقَ لكِ الآن سوى أن تُصفّي بضاعتك. وما تحاول ساغان
إبرازه هنا هو مثالب الطمع والجشع. إن ما فعلته فرانسواز ساغان هنا هو
الانتقام من نملة لافونتين وتحويل قيمة العمل عندها إلى قيمة سلبية هي
الجشع والطمع، وبمعنى آخر فقد قامت بقلب القيمة فحسب دون أن تعير انتباهاً
إلى الصرصور وقيمه النبيلة. رغم القراءة والقراءة المعكوسة تظل أخلاق
النملة محور الحكايتين. ولكن ماذا عن الصرصور؟ كان الأجدر بساغان أن
تُركِّز على أخلاق السادة التي لدى الصرصور؛ فهو يعيش سيداً على أيامه غير
عابئٍ بخطر ما قد يكون. إنه سيد يومه وسيد لحظته، إنه يحاول أن يستثمر
حياته القصيرة وأن يعيش دائماً على حافة الخطر كما يليق بالسادة وأخلاقهم،
لا أن يُصبح عبداً لمخاوف الفقر أو خادماً لأطماعه.
***
يقولون لكَ منذ تفتحت مداركك: "خبئ قرشكَ الأبيض إلى يومكَ الأسود؟" تأكد أن من يقول لك ذلك ينتمي إلى العبيد وأخلاقهم الوضيعة! من يخبأ
قرشه "الأبيض" ليومه "الأسود" لا يستطيع أن يحيا بسعادة السّادة. إنه لا
يستطيع أن يكون سيِّداً على ما يملك، بل عبداً لمخاوفه وهواجسه السوداء.
إنه ينتظر كارثةً ستحل على رأسه يوماً ما؛ إنها تطارده كظله أو هو
يستدعيها بمحاولة اتقاء شرِّها.
***
ما أشد تناقضي مع نفسي وإعجابي بما لستُ أنا. لقد سبق وانتصرتُ للأرنب
على حساب السُّلحفاة، ومع أن لدي نزق الأرنب وقلة صبره إلا أنني أسير ببطء
السلحفاة. وها أنذا أتغزل بحياة المرح واللهو، وأصفها بأخلاق السّادة،
وأنا أعمل ليل نهار كالنملة ولا أجد وقتاً كبيراً للمرح ولإتلاف الوقت
الذي أُقدسه.
كم كنتُ ساذجاً عندما اعتقدتُ أنني أتوارى وراء كلماتي وأنني أكتب
بالسِّر عن نقيضي. وها أنا الآن أقف عارياً بعد أن أدركت أن نقيضي هو من
يكتبني، وأن الكلمات التي أتوهم الاختباء خلفها هي نفس الكلمات التي
تفضحني…..
الخميس فبراير 04, 2010 4:59 pm من طرف حياة