ملاحظة ثاقبة على
الجزء الأول من هذا المقال دفعتني إلى تغيير ما تبقّى من سطوره. لماذا نؤنّث الأمّة
ونذكّر الدولة؟ هكذا تساءل الأستاذ أحمد الأتاسي في تعليقه. يبدو السؤال
مشروعا للغاية. في الثقافة العربية نظرة إلى "الأمّة" بالمعني اللغويّ
الصرف باعتبارها أنثى. يرافق المؤنّث دائما لفظة الأمّة. فالأصل المعجميّ
للأمّة يشير إلى الأصل. أُمُّ الشيء أي أصله (النساء كأصل بيولوجيّ مثلا)
وقس على ذلك باقي المفردات، فمكّة هي أمّ القرى، والأمُّ هي الوالدة، وقوله
تعالى "هنّ أمّ الكتاب".
عملية تأنيث الأمّة إذن ليست غريبة من حيث اللغة عن الثقافة العربية.
ولذلك حين ارتحلت الفكرة القومية- ذلك المنتج الرأسمالي- إلى بلادنا، فقد
رافقت رحلتها عملية التأنيث. حتى في النماذج العالمثالثية (الهند وتركيا)
ارتبطت عملية بناء الدولة القومية بإنتاج جملة تصوّرات تماهي ما بين الأمّة
والمؤنّث.
في القارّة الأفريقية جرى توظيف التأنيث ليخدم مهمّتين تاريخيتين. حشد
الجهد وراء مناهضة الاستعمار علاوة على جمع التركيبات الإثنية واللغوية
والدينية في بوتقة واحدة هي الدولة الجديدة. ونشطت في سياق مثل هذا الرمزية
الطاغية التي تشير إلى أفريقيا بوصفها الضحيّة الأنثى. في عمل الطيب صالح
"موسم الهجرة إلى الشمال"، تجاوز للعلاقة الظاهرة ما بين "الرجل" الذي
يمثّل الشرق و"المرأة" التي تمثّل الغرب. فعلى امتداد الرواية صيغ مباشرة
حول تحكّم الغرب "الذكوري" بالشرق "الأنثويّ" وسيطرته عليه. تحكّم لا فكاك
منه. تحكّم لا ينتج إلا العجز في نهاية المطاف. ألم ينظر مصطفى سعيد إلى
أفريقيا باعتبارها المؤنّث الضحية حين ألّف كتابا حمل عنوان "اغتصاب
أفريقيا". تأنيث "القارّة" ودولها لم يكن حكرا على الأدب. فقد طغت عملية
التأنيث على السجالات الفكرية. خذ مثلا الباحث الماركسيّ الأشهر افريقيّا
سمير أمين الذي لم يخف لوعته من عمليات النهب الاستعماري القديم والجديد
لـ"أفريقيا المسكينة".
الفكرة الرئيسة هنا أنّ عملية انتقال الفكرة الثقافية الممثّلة في تأنيث
الأمّة جرت بنجاح. جرى إنتاج الممارسة أوروبيّا وسافرت كـ"نظرية مهاجرة"
على حدّ تعبير إدوارد سعيد في واحد من مقالاته الشهيرة (عام 1982).
تهاجر الأفكار والنظريات مثل البشر. تهاجر في الزمان والمكان. لكنّ المشكل
الحقيقيّ في هذه الهجرة يرزح تحت نير طبيعة هذه الهجرة وطبيعة القوى التي
توظّف هذه الفكرة أو تلك. "على المرء أن يمضي قدما لتحديد أشكال الحركة
المتاحة (للأفكار المهاجرة)، بغية الاستفسار حول ما إذا كانت أيّ فكرة أو
نظرية تتزايد قوّة أو تتناقص بفعل ارتحالها، وما إذا كانت نظرية ما في فترة
تاريخية وثقافة قومية محدّدة تستحيل كلية إلى نظرية مغايرة تماماً في عصر
أو سياق آخر"، هكذا كتب إدوارد سعيد.
مغزى الإحالة إلى سعيد هنا يكمن في أنّه يقدّم لنا مرشدا للظروف التي أفضت إلى تبيئة عمليات تأنيث الأمّة.
في الجزء الأوّل من هذا المقال معالجة سريعة للغاية للظاهرة في المرحلة
التي تسمّى بالليبرالية في التاريخ المصريّ. وهي تنطبق ربّما على نماذج
مشابهة عربيا في سوريا والعراق كما تنطبق على نماذج غير عربية في الهند
وتركيا. لكنها تواجه صعوبة بالغة في أن تطبّق على السودان مثلا.
الخلاصة أنّه كانت هناك مقايضة لعمليات تأنيث الأمّة بتوظيف جملة السياسات
العامّة والقوانين في التركيز على ذكورية الدولة. ثم مرحلة طويلة وبطيئة
من عمليات خلخلة ذكورية المجال العام، وخلخلة حدود الدولة في السيطرة على
حركة النساء.
تاريخيا بدأت هذه العملية في الفترة التي اتسعت فيها مساحات الحيز
العلماني في أوربا الغربية. والحيز العلماني هنا لا يعني مجرّد الفصل
الوظيفيّ بين الدين والدولة، ولكن بمعنى انحسار مساحة المفردات الدينية في
المجال العامّ.
إلا أنّ الحيز العلمانيّ الجديد هذا لم يتخلّ كلية عن الموروث القديم.
احتفظ بالنظرة المشيطنة للنساء. أي أنّه احتفظ بالآليات القديمة لصناعة
"الآخر" أو "الغيرية" (Otherness or Alterity ).
لهذا السبب راجت عمليات تأنيث الأمّة وتذكير الدولة. يحتاج "المركز"
الممثّل في الرجل الأبيض إلى خلق "أطراف" أو "أغيار" لا يزاحمونه في سيطرته
الطبقية أو العرقية أو النوعية، لكنهم يحتاجون في نفس الوقت إلى مساعدته.
تحتاج المستعمرات (الآخر العرقيّ) إلى الغرب الأوربي، فتلك هي مهمّة وعبء
الرجل الأبيض. تحتاج النساء إلى الرجال، فالنساء هنّ المجال الخاص الذي
يجري فيه تداول طائفة منوّعة من الانفعالات والمشاعر التي ينبغي للرجل-
المجال العامّ السيطرة عليها. الأمّة هي المؤنّث التي تحتاج من أجل بقائها
الرجل- الدولة.
النساء في هذا الصدد أغيار. ولم يكن العصر الوسيط، بمعنى عصور تحكّم
الكنيسة، هو المحتكر لصيغة "غيرية النساء" وشيطنتهنّ، ذلك لأنّ العصر
الحديث- سواء تماهى مع عمليات النهضة أو التنوير- قد ذهب بعيدا هو الآخر في
التأكيد على النساء كـ"آخر".
نعم تجاوز "الغرب" بالمعنى الثقافي صيغة الأمّة "الأمّة المسيحية" التي
كان ينظر إليها بوصفها سورا يعزلها عما عداها من أقوام وفضاءات. إلا أنّ
هذا الغرب خلق أغيارا جددا. النساء أغيار وكذلك الإسلام ومعه الشرق.
قدّم إدوارد سعيد في "الاستشراق" عملا في "الجنوسة" Gender . نعم كان همّ
الكتاب الرئيس هو فحص ممارسات الإنتاج الخطابي للمعاني الكولونيالية التي
تتمحور حول الثنائية الحدّية ما بين الشرق والغرب. إلا أنّ عملية "تأنيث
الشرق" لم تكن خافية.
في حوار أجرته مجلة "الفلسفة الراديكالية" مع صاحب الاستشراق، قال سعيد
إنّه لا يشكّ لحظة في صيغة التأنيث الغالبة في الاستشراق. وحسب سعيد فقد
اتّخذت عملية تأنيث الشرق بعدين، الأوّل نجده في استخدام الكتّاب الرجال في
أوربا صيغة المؤنّث للإشارة إلى الشرق. أمّا الثاني فيتمثّل في الوقت الذي
شبكت فيه الحركات النسوية في الغرب يدها في يد الحركات الاستعمارية.
الحركة النسوية الغربية في موجتها الأولي انجرفت إلى صناعة "الآخر" وأعطت مسحة شرعية لهذه الممارسة.
وتصوّر المؤرّخة الأمريكية أنطوانيت بيرتون في كتابها "أعباء التاريخ" كيف
تماهت نسويات العصر الفيكتوري مع الصيغة "الذكورية" في خلق الآخر، حين
وظّفن صورة النساء الهنديات ممّن يمتهنّ البغاء كنقيض لهنّ. النسوة الهنود
في هذا السياق مجرّد موضوعات ولسن ذوات، مجرّد ضحايا لا يمتلكن من أمرهنّ
شيئا.
نقطة التميّز في تحليل بيرتون تكمن في دراسة قلب الامبراطورية وليس
المستعمرات، حسب هذه الفرضية فقد جرى تشكيل التاريخ البريطاني المحلّي من
خلال الدمج القسريّ للمستعمرات. وجرى تعريف الامبراطورية من خلال تعريف
المستعمرات. في هذا الفهم، يحمل الهنود رجالا ونساءً خلافا جوهريا عن رجال
الفضاء الغربي ونسائه. وعليه لا يمثّل تصويت النساء البريطانيات في
الانتخابات مجرّد الحقّ في هذه الممارسة أكثر من كونه علامة فاصلة ما بين
التحضّر البريطاني والتخلّف الهندي.
نقف هنا عند صيغة التفاوض التي طرحتها نسوة العهد الفيكتوري التي ترسم
الحدود ما بين المركز/الأطراف، وما بين الغرب/الشرق وما بين الذكر/الأنثي.
في التاريخ المصري نسخة مشابهة لهذه الثنائيات. دافع الزعيم الوطني مصطفى
كامل في أواخر القرن التاسع عشر عن تجارة الرقيق (التي ألغيت عام 1877) ذلك
لأنّ الإماء السودانيات سيتعلّمن التحضّر الغائب في الفضاء الذي وفدن منه
(نفس الصيغة الاستعمارية البريطانية). الإماء هنا مجرّد ضحايا في حاجة إلى
من يدافع عنهنّ. مؤسّسة العبودية هنا مؤسّسة للذكور تدافع عن حضور النساء
كإماء.
نفس الصيغة (وإن كانت أقلّ درجة) جرى تطبيقها على حضور النساء في المجال
العامّ، حيث رافق خروج النساء المصريات إلى العمل المأجور محاولات لتقييد
هذا الخروج (خاصة فيما يتعلق بالبنية القانونية أو اللائحية).
وحتى في المساحات التي لعبت فيها النساء دورا ربما يكون مركزيا على غرار
التمريض في جمعية الهلال الأحمر المصرية فقد جرى إقصاؤهنّ تماما من عملية
اتخاذ القرار.
نعرف أنّ الرائدة ملك حفني ناصف بادرت بالذهاب إلى ليبيا مساهمة منها في
تخفيف الألم عن ضحايا العدوان الإيطالي. كانت خطوة شجاعة للغاية، لكنها لم
تكن لتغيّر ما حدث لاحقا من محاولة تعديل النظام الأساسي للجمعية بحيث
أقصيت منه النساء مقابل وضع الملكة رئيسة للجمعية. أي تذكير العمل العامّ
بمعنى الفعل واتخاذ القرار، وتأنيثه من خلال الوجود الرمزيّ لزوجة الملك
(تشغل سوزان مبارك زوجة الرئيس الحالي منصب رئيسة الجمعية).
في هذا الإجراء فهم ما لطبيعة الفصل ما بين المجال العام/المجال الخاص.
تبحث الدولة في صيغة تمكّنها من السيطرة على المجالين، تعمد إلى استراتيجية
لتأنيث الأمّة والتأكيد على رمزية حضور النساء- الوقتي- في المجال العامّ.
هذه ممارسة سادت وما زالت في الفضاء الاجتماعي. آخر تجلّياتها كان في
حادثة رفض الجمعية العمومية لقضاة مجلس الدولة تعيين النساء قاضيات. كان
الخطاب الكامن وراء الرفض مزيجا من التحقير وفرض الوصاية. المرأة تلد وتحيض
لهذا فهي غير مؤهلة للجلوس على منصة القضاء، هذا في الوقت الذي ينبغي على
عالم الرجال حماية النساء من أخطار كونهنّ قاضيات بمعنى تعرّضهنّ إلى ما قد
يجرح مشاعرهنّ في نظر هذه القضية أو ذاك.