إنهيارات الحق والقانونإنهيارات الحق والقانون/1
يتأسس القانون الذي يعتبر الإطار التنظيمي لتثبيت الحقوق الفردية والجماعية
على مبادئ أولية إنسانية مشتركة ومسلمة، وهذه المبادئ تمثل الدعامات
الخلفية والمرجعيات الأولى للقانون، وهي ما يطلق عليه "الحق"، فنحن البشر –
بغضّ النظر عن مذاهبنا ودياناتنا وأعراقنا وتوجهاتنا – نتوافق على أنّ
العدل حسن والظلم قبيح، بمعنى أن نفوسنا تستحسن العدل، وإن كانت تخالفه في
الكثير مما يقتضيه، وتستقبح الظلم، وإن كانت توافقه في الكثير مما يستدعيه،
وإنطلاقاً من هذه الأوليات المسلمة والمتعارف عليها نضع القوانين التي
تستهدف بالأساس تنظيم تداول الحقوق والقيام بالواجبات وفق متطلبات العدل
وبعيداً عن مقتضيات الظلم.
وفي مقابل الدور الذي يقوم به القانون في المجتمع البشري, يحدِّد الدين
"الشريعة" بوصفها الإطار التنظيمي للقيام بتلك الوظائف، فالشريعة إذن هي
تحديدات إلهية المصدر تستهدف تحقيق نفس ما يستهدف تحقيقه القانون البشري
الوضعي، وإن كانت تختلف معه في أن شرعيّة وضع التحديدات في القانون هي بيد
البشر، سواء كانوا أفراداً أو هيئات أو دول، بينما تحديدات الشريعة كما هو
معلوم لا يمكن أن تأتي إلاّ من مصدر إلهي، وهو ما أفاده تعالى بقوله عن
مجمل الرسالات والأديان والشرائع والكتب السماوية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ
فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
(الحديد/ 25).
ولكن الحق، وما يستند إليه من قانون, سيشهدان هشاشة تطالهما على مستوى
الفهم والإلتزام، وهو ما يلمح إليه الرسول الأعظم (ص) بقوله: "يا سلمان إن
عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وائتُمِنَ الخائن ويخوَّن
الأمين، ويُصدَّّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق، قال سلمان: وإنّ هذا لكائن يا
رسول الله؟ قال: إي والذي نفسي بيده".
وأيضاً، نجد إشارة مماثلة في حديث الإمام الصادق (ع) يقول فيها: "فإذا رأيت
الحق قد مات وذهب أهله، ورأيت الجور قد شمل البلاد، ورأيت القرآن قد خلق
وأحدث فيه ما ليس فيه ووجه على الأهواء، ورأيت الدين قد انكفئ كما ينكفئ
الماء، ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق، ورأيت الشر ظاهراً لا
ينهى عنه ويُعذَّر أصحابه).
ولا شك أنّ الإنهيارات الخطيرة التي يشهدها الإنسان المعاصر في حقلي الحق
والقانون، هي الأكثر دلالة على مدى السقوط والهشاشة ومستوى الإنهيار الذي
يعيشه عالمنا المعاصر، لأنّ الحق والقانون هما الأساسان الأوليان لكلّ
التدبيرات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية والمعيشية التي
ترسم صورة الوضع الإنساني في المجتمع، والرسول الأكرم (ص) من خلال نصه
المتقدم يرسم لنا صورة عن إنهيارات الحق والقانون في حركة المجتمعات
البشرية الأخيرة، والتي نعتقد أن مجتمعاتنا المعاصرة هي الأقرب إليها، إن
لم تكن عينها، وفي هذا المجال يسهم (جاك أتالي) في تقديم صورة أكثر تفصيلاً
عن هذه الإنهيارات حينما يتحدث عن المفهوم الذي سيكون عليه الحق والقانون
في القرن الحادي والعشرين بالقول: "الحق هو تنظيم العلاقات الخاصة بين
الأفراد، وسوف يفرض نفسه في وجه القانون الذي ينظم العلاقات بين الأفراد في
المجتمع. وهو بذلك يحدّ من دور الدولة ويؤمّن نظاماً دولياً ظاهرياً من
خلال شبك معقدة من المعاهدات والمواثيق التي تشدّ الدول بعضها إلى البعض
الآخر"، هذا هو المفترض أن يكون عليه الحق والقانون، ولكن ما هو الواقع
الذي سيكون عليه الاثنان في عصرنا الراهن؟ هو ما ستجد الإجابة عليه فيما
يأتي...
* إنهيارات الحق والقانون/ 2
في الواقع لم نحتج ونحن نلج مطلع القرن الحادي والعشرين إلى وقت طويل لكي
نعرف ما الذي سيكون عليه مصير الحق والقانون في حياة الإنسان في هذا العصر،
فلقد شكّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001 صفّارة الإنذار
لهبوب رياح عاتية على كلّ العالم قادرة على إقتلاع أقوى دعائم الحق
والقانون ثبوتاً ورسوخاً، فعبر شعار "الحرب على الإرهاب" أضحت أمريكا
تستبيح كلّ قوانين العالم، وتنتهك كلّ حقوق البشر، وهو تطور رصده البعض من
الإستراتيجيين حتى قبل حدوث أحداث 11/9، ففي دراسة قيِّمة صدرت مطلع العام
2001 أشار صاحبها إلى أن هناك العديد من التقارير التي تؤكد تحضير
الإستخبارات الأميركية نفسها لهذه اللحظة التي تبرر لها إستباحة القانون
على مستوى العالم كله، وقد صدرت عدة إشارات بهذا الإتجاه، ومن تلك الإشارات
نشرة صدرت في العام 1993 عن جهاز الإستخبارات التنفيذية الأمريكية (EIR)
ذكّرت بتحضيرات تجري للتخطيط لإشعال حرب مع التطرف الإسلامي (وذكرت النشرة
كذلك أن من نماذج هذه الحرب ضد التطرف الإسلامي التي يجري التخطيط لها
"التوريط المتعمد عبر تسهيل وصول متطرفين مسلمين إلى السلطة، في دولة ذات
أهمية إستراتيجية وسياسية خاصة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية،
بحيث يعطي هذا التطور مبرراً لإتخاذ أقصى الإجراءات على إمتداد العالم
بأسره).
ويفصح "أتالي" عن طبيعة هذا الصراع، الذي من خلاله (ستنشب معركة تتواجه
فيها مختلف أشكال الحق، لاسيما بين جانبي الحضارة الغربية, إذ سيتواجه
المفهوم الأميركي الذي يسلّم بالإستقلال الذاتي اللامحدود للفرد، مع
المفهوم الأوروبي الذي يعتبر أن حقوق الفرد، مسؤولياته تجاه الغير
والجماعة).
ومن الطبيعي حينما يلتبس مفهوم الحق على أناس أن يلتبس عليهم تطبيق القانون
وتحديد ضروراته، وهو ما سيتبلور كمعطى من معطيات غياب مفهوم إنساني محدد
وواضح للحق، وهو ما يبعد القانون بالضرورة عن سمة الإرتباط بالحق والإنبثاق
منه، إلى أن يتحول محدداً وموجهاً للحق، وهي الخطورة التي تكمن وراء
الإنهيارات التي يشهدها قرننا الحالي في ما يفرزه من مفاهيم نفعية ضيقة
للحق، وبالتالي فيما يمارسه من تطبيقات منحازة للقانون، مما يغيب الصفة
الإنسانية العالمية للحق والقانون خلافاً لكلّ الإدعاءات الفارغة بتحرك
العالم لتكوين تحديدات عالمية شاملة للحق والقانون كما يحلو لمناصري
العولمة أن يدّعوا، وهو ما يدعو أتالي للقول: "القانون ضروري لحسن سير
مجموعة ما إذا توصلت إلى تطبيقه ومعاقبة أولئك الذين لا يطبقونه. غداً،
سيؤدِّي ضعف الدولة وهيمنة السوق إلى عدم تطبيقه في الغالب. وسيستبدل
بالعقد الذي يربط أفراداً أو أشخاصاً معنويين، بمعايير تضعها لجان أخلاقية،
أو، حيث ما يكون ممكناً، بإتفاقات دولية أو أنظمة قارية. وربّما، ذات يوم،
إذا ما أصبحت الديمقراطية بلا حدود، سيتقدم القانون على الحق".
إذن.. فالآمال المعقودة على الدول القوية ذات النفوذ السياسي والعسكري
والإقتصادي في عالمنا المعاصر أن تسهم في بلورة حقوق وقوانين مشتركة بين
البشر، ولكن رغم إدّعاء الكثير من هذه الدول، لاسيّما المدعوة ديمقراطية،
بإهتمامها المتزايد بحقوق الإنسان إلا أن "حقوق الإنسان" أضحت اليوم شعاراً
تتاجر به هذه الدول القوية من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول
الضعيفة، وفرض أنظمتها السياسية والإنسانية على تلك الدول بمنطق القوة
والهيمنة الإعلامية التي تتميّز بها، ولذلك وكما يقول أتالي: "ستفرض طبيعة
التكنولوجيات الجديدة ومقتضيات السوق المفهوم الأميركي على العالم"، مما
يضعف من إمكانية إستعادة دور الحق والقانون في حياتنا.
الإثنين نوفمبر 07, 2011 12:55 pm من طرف هذا الكتاب