مفهوم الانسان العربي الجديد* د. الأخضر شريط
إنّ الغرض من هذا الموضوع هو إبراز الكيفية التي يجب أن يُعرف بها الإنسان
كمفهوم سبق لأهل العلم والفلسفة الأولين أن تناولوه. ومنه نأتي على معنى
الإنسان العربي في أتم صورة عنده للوقت المعاصر. وهي الصورة التي يجب أن
تخضع ــ في نظرنا لعمليتين: عملية تنحية لرواسب عصر ما بعد الموحدين.
وعملية بناء للدلالة الثقافية التي يجب أن يسبغ بها. تلك الدلالة التي لا
نراها إلا في عملية تنمية.
أولاً: لمحصوله التاريخي.
وثانياً: لمحصوله الاجتماعي.
على هذا الإنسان أن ينتقي الأفكار الصحيحة والصالحة، من الراهن الذي يحيط
به. فإذا كان هذا الإنسان قد قام بدور ما يشبه إرهاصات النهضة ومنه لم
يتمكن من تطوير المجتمع العربي. فإن ما يقوم به هذا الإنسان الجديد هو
عملية ثقافية جد معقدة .
وإذا كان هذا الأخير يحتوي على الجذور والأوراق للتنفس. فما هو السباب في عدم إقلاعه الثقافي؟
لمعالجة إشكالية هذا الموضوع سوف نتخذ من التحليل النفسي منهجا للذات العربية دون أن نكون عبيدا له.
كما أننا نستعين بالدراسات الاجتماعية التي حللت المجتمع العربي كنموذج دون
أن نُمكنها من تصورنا لهذا الإنسان الجديد. وعليه سوف تمكننا الأتنوغرافيا
من الولوج إلى خبايا هذا المجتمع ومنه خفايا هذا الإنسان.
- في المفهوم الكلاسيكي للإنسان:
لقد قال الفلاسفة قديما إن الإنسان حيوان ناطق وهم يعنون بذلك انه الوحيد
الذي تميز بخاصية التفكير وخاصية اللغة، والبحوث المعاصرة تؤكد على أن
الإنسان (ذلك المجهول)(1) هو مفهوم لا يخضع لتعريف واحد وحسب، بل من الممكن
أن يكون جملة تعار يف تشترك فيها مختلف التخصصات العلمية. كأن نعثر على
التعريف الفيزيائي للإنسان كما أننا نعثر على التعريف الكيميائي له
والبيولوجي والاجتماعي والنفساني والاقتصادي وإلخ … والمهم هنا أن الإنسان
هو تظافر التعاريف هذه كلها على مختلف موضوعاتها. وصدق الشاعر العربي حين
قال:
وتحسب أنك جرم صغير*****وفيك انطوى العالم الأكبر
ومن هنا ما هي دلالة أو مفهوم الإنسان العربي؟ وما المقصود بالجديد. ذاك ما سنتناوله في النقطة الموالية.
- مفهوم الإنسان العربي الجديد:
كي نصل إلى إعطاء مفهوم يضبط هذا التحديد لا بد وأن نستعين بالتاريخ
الثقافي لهذا الإنسان دون أن نكون عبيدا له. كما أننا سوف نستعين بأهم
الدراسات الاجتماعية التي أقيمت حول هذا الموضوع، وكذا الحال بالنسبة
للدراسات التربوية والاقتصادية. بمعنى أننا سوف نقوم بعملية تحليل لمختلف
الدراسات هذه من أجل تنحية ما يتنحى منها، بغرض الوقوف على مفهوم الإنسان
العربي الجديد. وسوف نقوم بعملية بناء أيضا تصب في الغرض نفسه.أولا ماذا عن
التاريخ الثقافي للإنسان العربي؟
فبل الخوض في هذا بودنا أن نتفحص أولا معنى ودلالة عربي، كما تفحصنا دلالة الإنسان في السابق.
عندما نتحدث عن هذه الدلالة نجدها تعني في ما تعني أنها نسبة إلى العرب،
وهذه الأخيرة إنما هم ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل وصار ذلك اسما
لسكان البادية (قالت الأعراب آمنا) الآية. و(الأعراب أشد كفرا ونفاقا)
الآية. (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) وقيل في جمع الأعراب
أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذووا فخر بإفكٍ وألسنةٍ لطافٍ في المقال.
والأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوبين إلى سكان البادية، والعربي:
المفصح، والإعراب: البيان، يقال: أعرب عن نفسه. … والعربي الفصيح: البين من
الكلام، قال الله تعالى (قرآنا عربيا)….والعربي إذا نسب إليه قيل عربي
فيكون لفظه كلفظ المنسوب إليه، ويعرب قيل هو أول من نقل السريانية إلى
العربية فسمي باسم فعله.(2).ويقابل معنى عربي لفظ أعجمي ” والعجمة خلاف
الإبانة، والإعجام الإبهام، واستعجمت الدار إذا بان أهلها ولم يبق فيها
عريب أي من يبين جوابا، ولذلك قال بعض العرب: خرجت عن بلاد تنطق، كناية عن
عمارتها وكون السكان فيها.والعجمي منسوب إليهم، والأعجم من في لسانه عُجمة
عربيا كان أو غير عربي، اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم ….(3).
وإذا ما تفحصنا مقدمة العلامة بن خلدون نجده يعطي الدلالة تقريبا نفسها
لكلمة العرب يقول: إن العرب، لا يزالون موسومين بين الأمم بالبيان في
الكلام، والفصاحة في المنطق، والذلاقة في اللسان، ولذلك سموا بهذا الاسم
فإنه مشتق من الإبانة، لقولهم: ”أعرب الرجل عما في ضميره، إذا أبان
عنه…”(4).
بينا في السابق ان النطق خاصية الإنسان وبينا كيف أنها على علاقة متينة
بالتفكير، وبينا كيف أن العربي موسوم بين الأمم في البيان في الكلام، بمعنى
أنه بالسليقة واضح المعاني، كما أنه واضح التفكير وسنبين كيف أن التاريخ
تحدث عنه أنه قاد تلك الحضارة التي خلفت للإنسانية إرثا وتراثا أقل ما يقال
عنه أنه ساهم في بناء الحضارة المعاصرة بشهادة الآخرين له(5) وتغيرت
الصورة التي كان ينظر منها للعربي من الحالة التي كان إذا طلعت هامة قال
الإفرنجة أنها هامة أبو الفداء الرحالة الجغرافي العربي، إلى وضع مقلوب
تماما، ولعله في نظرنا يتحمل مسؤولية هذا الانقلاب الهائل (ما فعله) عصر
الانحطاط في هذا العربي، كما يتحمل القرن التاسع عشر(6) عبء المسؤوليتين:
1 ـ مسؤولية أن العربي بقي غير مكترث بما فعله به الاستعمار ولم يغير الآليات التي تمكنه من الإقلاع في التنمية الحقيقية
2 ـ مسؤولية أنه لم يستغل فرصة الإنهاك الذي تعرضت له تلك العجوز الشمطاء-
بعد استقلاله- لصالح تنمية وتطوير تلك الذات العربية التي كانت بحاجة ماسة
أكثر من أي وقت مضى. ومن هنا رأينا أن مسألة تطوير وتنمية الإنسان العربي
تنمية مستدامة هي أولا وقبل كل شيء تنمية وتطوير للذات العربية، ولكن وكيف
ذلك ؟ تلك هي المحاولة التي سوف نكشف عن خيوطها في النقاط التالية:
بعد تذليلنا لما يمكنه أن لا يوضح المقصد ننظر الآن في عمليتي التنحية والبناء الثقافي لمفهوم الإنسان العربي الجديد.
أولا: يحدد لنا أحد المفكرين المعاصرين مفهوم الإنسان، فهو في نشأته يوجد
على شكله الطبيعي، أي تكون مجموع الصفات البيولوجية هي التي تصنع سمات
شخصيته سوء أكانت هذه الصفات صفات جسمانية، كالطول أو القصر، والسمنة
والنحافة، وضخامة البنية الجسدية … إلخ. ” أو كانت هذه الصفات صفات وراثية،
كوراثة الصفات السائدة من الآباء والأجداد والصفات الخاصة بالجانب الطبيعي
في الإنسان.
والإنسان بهذه الحالة شبيه بعالم الحيوان من حيث الخاصة البيولوجية، لكنه
يختلف عن هذا العالم الحيواني كليا، إذ أكد اليوم علماء البيولوجيا أنّ
عالم الإنسان اليوم بيولوجيا غير عالم الحيوان، والمهم هو أن الخاصية
الطبيعية في الإنسان لا توجد سوى في الحيوان. وهكذا فإن الحياة الطبيعية في
عالم الإنسان لا تؤهله فقط أن يلبي حاجياته البيولوجية، لكن إلى جانب ذلك
تُوجد فيه أيضا مجموع الاستعدادات الفطرية التي تُمكّن الفرد من عمل
التغيير. فالطبيعة عندما تأتي بالنوع الإنساني تأتي به كما هو بيولوجيا فقط
– بينما- حتى يكتمل دور الإنسان وحتى لا يبقى الإنسان مجرد فرد بل يتحول
إلى شخص – هناك عمل آخر ينتظر هذا الإنسان، هذا العمل هو القيام بعملية
تغيير وشحن للملكات الفطرية فيه، كي يوجهها نحو أهداف نبيلة ونحو غايات
ترضي الإنسان في جانبه القيمي، الأخلاقي خاصة. إن هذا العمل هو ما يقوم به
الفرد من عملية تغيير نفسي تتماشى والوجهة التي تحددها له الشرائع
والإيديولوجية الخاصة به. والإنسان بهذا الحال يمكن له أن يتغير من فرد إلى
شخص عندما يغير.
أولا: الجانب الذاتي فيه، من حالة ” الطين ” إلى حال ” العقل “. حينئذ
يمكنه أن يغير الواقع المحيط به، ثم أن عملية التغيير هذه تكون وفق شروط هي
:
أولا : أن يقتنع الإنسان بالفكرة الموجهة لمنهجه في الحياة.
ثانيا: أن يُقنع الآخرين بهذه الفكرة.(7)
وإذا قام الإنسان بهذا العمل الثنائي، فإنه يستطيع أن يكون مساهما إلى حد
ما في صنع التاريخ. وبالتالي نستطيع أن نقول عنه أنه شخص مساهم في صنع
الحضارة.
إن عمل التغيير الذي يحول الإنسان من كونه فردا ” INDIVUDU ” إلى كونه شخصا” PERSONNE ” يقتضي أيضا عدة شروط :
أولا: على الإنسان أن يتمكن من فهم نفسه، ومن فهم الواقع المحيط به.
ثانيا: أن يكون متفهما للفكرة التي توجهه في فهم ذاته وفي فهم ذاك الواقع الذي يحيط به.
والحقيقة أن المراد من هذا اللفظ هو أن الإنسان هذا يكون جديدا بما يتوفر
عليه من مبرر ثقافي يؤهله لهذه الجدة، هذا المبرر الثقافي هو الذي بإمكاننا
أن نعثر عليه في جملة المعطيات التي أشرنا إليها سابقا، والتي تؤهله أولا
تؤهله لهذه، الصفة أي صفة الجدية.وإلا وقعنا كمجتمع عربي في ما آل إليه
وَاقع أوروبا من فقدان لهذه المبررات الثقافية التي عبرت عنها مثلا حنه
أرنْدت فقالت : «لقد احتقر مدعوا الثقافة الموضوعات الثقافية بادئ الأمر
لأنها عديمة الفائدة إلى أن التقفها دعي الثقافة كعملة يشتري بها مركزا
رفيعا في المجتمع أو يكتسب بها درجة أعلى من الاعتداد بالنفس، أي أعلى مما
يعتقد أنه يستحق بطبيعته أو بمحتده. وفي هذه العملية اعتبرت القيم الثقافية
كغيرها من القيم الأخرى، فكانت كسائر القيم، قيما للتبادل، وبتنقلها من يد
إلى يد بليت كقطع النقود القديمة. إنها فقدت القدرة التي تتميز بها كل
الأشياء الثقافية في الأصل، قدرة استرعت انتباهنا وإدارة عواطفنا. فلما حدث
هذا بدأ الناس يتحدثون عن (تخفيض قيمة القيم). وجاءت نهاية هذه العملية
كلها بمجيء (سوق تصفية القيم (Ausverkauf der werte في العشرينيات
والثلاثينيات في ألمانيا، والأربعينيات والخمسينيات في فرنسا، حين بيعت
القيم الثقافية والخلقية معا بأكملها»(8)… ونقصد بالمبررات الثقافية. تلك
المجموعة الهائلة من الأفكار والعلوم والفنون والمعارف التي يمكنها أو لا
يمكنها أن تساهم في إنتاج الفرد الأنموذج أو الفرد المثال. ولعلنا ونحن
بصدد تحليلنا لهذا الكل يتبين لنا مدى قابليتها للقيام بالدور المنوط بها
لدى الفرد العربي.
الإنسان العربي والبناء الاجتماعي الثقافي
قلنا إن «الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو
المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من
أشكال الحياة الراقية هو منا نطلق عليه اسم الحضارة».(9). ومن هنا باتت
العودة إلى التاريخ ضرورية، فإذا قمنا بتحليل للموروث التاريخي للإنسان
العربي نجد أنه يتوفر على المعطيات التالية:
أولاً: إن الإنسان العربي بات ومنذ الهزة الأولى التي تعرض لها في تاريخه؛
تلك التي اصطلح على تسميتها بـ:«الفتنة الكبرى»(10) يفرق بين من هو من
أتباع معاوية أو ما إن كان من أتباع (علي رضي الله عنه ) وبالضبط على أيام
معركة صفين سنة 37 هـ. إذن كانت تلك بداية الهزة التي تعرض لها ضمير
المسلم. إلا أن تلك الهزة لم تكن لتأثر في عقله بالسرعة التي افتعلتها
حكاية غاليليو والكنيسة المسيحية(11). ومن هنا رأينا أن العقل تمتع بما
يليق له من الازدهار والنمو والتطور إلى أيام ابن خلدون حيث باتت مثلا
مقدمته حروفا ميتة أمام رجل ما بعد الموحدين- حسب تعبير ابن نبي ـ الشيء
الذي جعل المحاولات التي تلت هذا العصر تشوبها شوائب عصر الانحطاط، ومن ثمة
فلا مكان لتقلد مهام التاريخ أمام هذا المجتمع الذي كنا نراه آنذاك تارة
مترهلا وجامدا تارة أخرى( حيث ضاعت العقيدة بين جاحد وجامد). ومؤرخو الفكر
العربي يعودون بمحطته إلى نقطة البداية في النهضة والتي كانت حسبهم تعود
إلى صيحات كل من المدرستين : المدرسة الإصلاحية، والمدرسة الحديثة. وأن كل
من هاتين المدرستين بقيت تراوح مكانها في إيجاد المخرج للنهوض وللتطور.لكن
هيهات، والسبب يعود إلى أنه يجب فهم الذات العربية ومنها المجتمع العربي
والإسلامي وذلك بإعادة بنائه الاجتماعي.
وللحقيقة نقول إن البناء الاجتماعي إنما يتم من البناء النفسي. أي بمعنى أنه لا بد من توفر عمليتين:
أولاها أن نبني ذات الفرد البناء الذي يتحول الفرد بموجبه إلى شخص.
ثانيها ذاك الذي يتم في تطابق تام مع هذا البناء والذي (هو البناء
الاجتماعي). فيا ترى ما هي مقومات البناء النفساني أولا؟ ثم ما هي مقومات
البناء الاجتماعي؟
للحقيقة نقول إنه كي يتم البناء النفسي للذات العربية لا بد من عمليتين يجب
أن تتمتع بهما هذه الذات: العملية الأولى وهي عملية تنحية لما علق بها من
شوائب رجل ما بعد الموحدين، ذاك الذي لا يزال بيننا يحمل صوره وأفكاره، كما
أن التنحية هذه تتطلب ما يسمى بالتغيير الجذري للأفكار وللعادات التي
ورثناها من ذاك العصر. ولعل اجتهاد المفكر زكي نجيب محمود في هذا الباب
جدير بالملاحظة في كتابه (تجديد الفكر العربي) إلا أن هذا الأخير بات طرحه
متعلقا بتغيير في المنهج قبل الموضوعات، أي في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع
الأشياء( 12). إلا أننا نقول إن التغيير هذا وإن كان جذريا فإنه ليس من
قبيل «مستقبل الثقافة في مصر»(13). لسبب بسيط هو أنه جرب كمنهج وأثبت فشله.
ثم انه التغيير الذي هو مقام على أرضية صلبة أي على قواعد أساسها الغنى أي
غنى النفس، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المفلس قال
«ليس المفلس من لا درهم له ولا دينار، وإنما المفلس هو الذي يأتي يوم
القيامة وقد شتم هذا وضرب هذا و..».
أو كما قال. من هذا الحديث نفهم أن الرسول الكريم كان بقوله هذا يريد بناء
ذات الفرد، ومن هنا فإن جملة شروط أخرى تكون في مقدمة هذا البناء، أولاها
البناء الفكري، علينا أن نرسخ في الأجيال أن غنى الفرد من غنى أفكاره وأن
إفلاسه من إفلاس أفكاره. كأننا نسترشد بالقاعدة التي تقول «كّون لي جيلاً
من الأشخاص (بل من الأفكار) أقول لك من أنت».
إن التقويم الفكري للذات العربية مهم للغاية، وهو الآخر يتطلب بناء لعاملي
الجذب والاطراد النفسي. أردت أن أقول إنه علينا في الوقت الذي نهتم فيه
بتصحيح وتوجيه علاقات الفرد مع غيره، علينا أن نهتم بانعكاس هذه العلاقة
على ذاتية الفرد نفسه. وهو ما يتطلبه منا العمل التربوي. يقول مالك بن نبي
في هذا المعنى «فكما أن الفرد والمجتمع – في الظروف العادية – يعملان في
نفس الاتجاه، فإن هناك تبادلا بين الانعكاس الفردي والعلاقة الاجتماعية،
وبفضل هذا التبادل ينبغي أن نتوقع تدخل الواقع الديني في هذا الجانب الجديد
من المسالة»(14). ومن هنا فإن البناء النفسي هو في الحقيقة كما أسلفنا
عملية تنحية وعملية بناء من جديد: عملية تنحية لمفاهيم ولأفكار ولسلوكات
ولعادات ولتقاليد، أثبتت تاريخيا أنها بالية، ومن الأمثلة على ذلك السلوكات
التي تجعل الفرد محاطا بهالة من القمامة تطارده أنى ما حل، هذه السلوكات
لابد من توجيه جمالي يقومها. وكذلك فكرة تكديس الأشياء، كأن يكدس الفرد
مجموعة هائلة من الأشياء وليكن مثلا هذه المرة مجموعة من الهواتف في مكتبه،
هذا السلوك المشين لا يتقبله العقل وترفضه السلوكات المتحضرة، فعلى عامل
التوجيه الثقافي أن يحل محله، أي أن يمارس مهامه بل أن يتدخل بقوة السلطان
لأن «الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن». وكذا الحال مع تسيير وتيرة
العمل في المصانع وفي المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى
المؤسسات الكبرى لأي بلد من بلداننا العربية، فلابد من حسن استعمال الوقت
وهو أيضا عمل شاق لان به عملية تنحية لما لصق بالذات العربية التي كانت
تبنى على أيام العباسيين، وأصبحت مترهلة على أيامنا (مقارنة بوتيرة العمل
والإنتاج التي تعرفها البلدان المتقدمة) إن المجهودات (الجبارة) التي بذلت
في ميادين التنمية لم تصل إلى المستوى المطلوب (لما نعلم أن ميناء روتردام
Rotterdam يصدر10 أمثال ما تصدره كل الدول العربية مجتمعة).
إذن إن الانسان العربي يعيش المسغبة والغبن رغم ثراء طبيعته.هذا الثراء الذي سبب له مشاكل؟
وليس المشكل في أنها «شفيت عرجاء» كما يقال، وإنما المشكل في أن نتمادى في
تركها وشأنها .على الذات العربية هذه أن توفر القيام بالواجبات قبل
المطالبة بالحقوق، وهي المعادلة التي باتت تؤرق سياسيينا لسبب بسيط هو أن
هذه الذات العربية، نسيت أو تناست أن القيام بالواجب سابق على المطالبة
بالحق، أو الاقتصار على هذه المطالبة فقط، طبعا لما لحق بهذه الذات من
شوائب الانحطاط، في هذا المجال، والذي بدوره سبب الانطفاء النفسي، فلم تعد
النفس هذه أو الذات العربية هذه فعالة بالكيفية المطلوبة منها. وهو مرض كان
قد أشار إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يوما ما حين قال: «نعمتان
مغبون فيهم بني آدم الصحة والفراغ». والقانون الشاقولي بهذا الشأن ينزل
كالصاعقة كلما دب في الأنفس هذا المرض.ومنه فلكي نتحول من هذا الوضع بالذات
العربية لا بد من مسايرة الأجرومية للمنطق العملي بهذا الشأن.
وأما عن البناء الاجتماعي ونقصد به ما يمكن أن يقوم به المجتمع للإنسان العربي الجديد هذا.
هناك قاعدة تقول «والفاعلية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع
وأنشط الحركات وأقوم التوجيهات» (15). فإذا كانت الماركسية قد جعلت من
الفرد بمثابة الخلية من الجسم من دافع تغليبها للكل على الجزء، فإننا نقول
أن هذا الكل أي المجتمع لا يقوم إلا انطلاقا من فعالية أفراده. والمجتمع
العربي يواجهه تحدي في مجاله الاجتماعي هذا التحدي هو أن علاقاته
الاجتماعية قد تعرضت للتمزيق مع ذاك العهد(عهد الانحطاط) الذي لا زلنا
نعاني من ترسباته في هذا الشأن.وأما اليوم فإن تلك الحالة لازالت معنا
تطاردنا أنى ما حللنا.
ومرة قيل «إن الفرد للمجموع والمجموع للفرد». ومعنى هذا أن المجتمع يكون في
عملية مد لعلاقاته بالأفراد فيه.- طبعا حتى لا تخلق تلك الهوة السحيقة
التي عبرت عنها حنة أرندت حيث قالت: «…وبما أن المجتمع بمعنى المجتمع
الصالح اشتمل على مجموعة السكان التي لم يوجد لديها المال فقط، بل وجدت
لديها إلى جانب ذلك أوقات الفراغ، أي الوقت الذي يخصص للثقافة، فإن المجتمع
الجماهيري يدل بلا ريب على وضع جديد تحررت فيه جمهرة السكان من عبء العمل
المضني جسديا، فأصبح لديها هي أيضا من أوقات الفراغ ما يكفي للثقافة، إذن
فالمجتمع الجماهيري والثقافة الجماهيرية ظاهرتان مترابطتان، لكن القاسم
المشترك بينهما ليس الجمهور بل المجتمع الذي أدمج فيه الجمهور أيضاً…»(16).
أعود وأقول هؤلاء الأفراد هم الذين يزودون المجتمع بما يملك من أفكار ومن
قيم ومن مادة اقتصادية. وسنأتي على تحليل لهذا الكل لنبين مدى إمكانية
مساهمة الإنسان العربي في التنمية.
بداية قلنا إنه كي ينطلق هذا المجتمع العربي، ومنه الإنسان العربي، لا بد
له من عملية تنحية للقوارض الاجتماعية التي غالبا ما تأتي على تمزيق
علاقاته الاجتماعية. بمعنى لا بد من تربية المجتمع وكيف يعيش للأفراد فيه،
فنحن نشاهد أن الإنسان العربي يترهل في تقديمه للقيمة الخلقية أو للمادة
الاقتصادية للغير، وأن هذا الغير غير مبال بما يقدم له مما يخلق نوعا من
النكوص للذات الاجتماعية. هذه الأخيرة التي عليها واجبان؛ واجب حماية
الأفراد، وواجب انتقاء المجتمع المدني.
ولنبدأ بواجب حماية الأفراد: إن العلاقة هذه تشبه إلى حد ما العلاقة
العضوية التي تربط الآباء بالأبناء في الأسرة، فكما أنه من واجب الآباء على
الأولاد حماية أبناءهم فكذلك من واجب المجتمع حماية أفراده وذلك بتوفير
الرعاية اللازمة لهم من تراحم وتواد ومن قيم أخرى تزيد هذه العلاقات متانة.
وكذلك من واجبه أن يقدم لهم العون على نوائب الدهر. أعني أن يقدم لهم
المادة الاقتصادية التي تساعد على التنمية، وبهذا يكونون مكونين للمجتمع
التاريخي.
إن الإنسان العربي عليه أن يبني أيضا عالم أفكاره الخاص به، كأن يتميز بلون
يرسم من خلاله الفكرة التي تقود نشاطه الثقافي والعلمي والفني وكذا
القيمي.وأن تشترك كل الوحدات السياسية في هذا اللون.
إن كل مجتمع يرسم قبل انطلاقه استراتيجيته كأن يسطر لنفسه أن يرتقي إلى
مصاف الدول المتقدمة، أو كأن يرسم معالمه الخاصة به التي قد تجعله متطورا
إلى المنتهى.
فبالنسبة لنا نحن في العالم العربي لا زال مشكل تحديد هذه الاستراتيجية غير
وارد بسبب أننا لا زلنا نعاني من عدم امتلاك الأفكار التي تؤهلنا لذلك.
هذه الأفكار مع الأسف لا هي منمية للأفكار التي اتفق على تسميتها بالأفكار
اليسارية في الوصف السياسي، ولا هي بالأفكار التي اتفق على وصفها بالأفكار
اليمينية. وذلك لسبب واحد ووحيد هو أن التاريخ الحديث والمعاصر أكد فشلها،
والذي أكده الفشل لا ينتج سوى الفشل، كما أن العدم لا يؤتي سوى العدم. ومن
هنا يطرح السؤال الذي من واجب العرب أن يفكروا فيه: لماذا فشلنا في حين نجح
غيرنا؟
إن المسألة تتعلق إذن بإعادة النظر في البناء الثقافي للعالم العربي، هذا
البناء الذي يتطلب تصحيح الأفكار كما أشرنا، وسوف نسوق أمثلة نوضح من
خلالها فشلنا في الفكرة.إننا نتذكر هزائمنا المتتالية في المجال السياسي
وفي المجال العسكري وفي المجال الاقتصادي وحتى في المجال الاجتماعي. لقد
سيقت إلينا كل تلك الهزائم بسبب أننا نملك في كثير من الأحيان البرامج
ولكننا لا نملك الفكرة أو الإيديولوجيا «فالمفهومية أو الإيديولوجية هي
النشيد الذي يقود عمل الشعب بأسره، فهي الصوت الحيادي الذي يضبط إيقاع
مجهود الأمة، كي تتظافر على إنهاض مصيرها، فهذا النشيد لا يمكن أن ينبعث
إلامن روح الشعب، إنها من تقاليده، من تاريخه، ومن ما يجعل عمله أو نضاله
مقدسا في ناظريه»(17).
وهو يعني بذلك أن المفهومية هي ذاك النسق من الأفكار الوظيفية من أجل
القيام الجماعي للعمل المشترك في الاريخ.ولكي تتحقق هذه المفهومية أو
الأيديولوجية لا بد من توفر شرط وهي:
أولاً: الإجماع، لأن الإجماع هو بالتالي المقياس الجوهري الذي يميز سياسة
ناجعة(18)، غير أن هذا الإجماع لا يكون مجديا هو الآخر إلا إذا تجانس عمل
الفرد مع الدولة، وإلا فإن العكس ــ أي التضارب الذي يقع بين الأفراد
والدولة ــ يؤدي حتما إلى أن تكون السياسة ديكتاتورية، وهو ما يحصل حاليا
في بلدان العالم الثالث.
ثانياً: التعاون بين الدولة والفرد على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي
والثقافي. إن التعاون هذا في جميع هذه المجالات، هو المحفز للسياسة المؤثرة
في واقع الوطن، وإذا ما تصورنا أنه حدث العكس، فإن التشتت والتمزق هو الذي
يأكل مصير الأمة، وهذا ما يحدث في بعض البلدان العربية بكل أسف: لبنان،
الجزائر… : مما يعني معه أنه لا عمل سوى ” عدم الانسجام وعدم التناغم
ومعارضات طاعنة في فوضى شاملة يسودها شعار «عليك بخاصة نفسك». ويضيف مالك
بن نبي أن التجانس بين الفرد والدولة في نطاق التعاون له شرط آخر هو أن هذا
الأخير «يتحقق في ضمير الفرد ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية، وحكما من
ناحية أخرى. إن وجود هذا المحكمة (الضمير) كشاهد وممثل، هو الذي يقوم قتله
في نظام الحكم حين يكون من قبيل ما يعبر عنه ” ابراهام لنكون ” رئيس
الولايات المتحدة ــ إن التغرير بفرد ممكن دائما، والتغرير بشعب ممكن بضعة
أيام إلا أنه غير ممكن كل يوم»(19).
هذه الواقعية هي التي أملت على واحد كلينين في روسيا أن يوقعن شعارته:
السلم للجندي، والخبز للعامل، والأرض للفلاح، ولم يكن ليقدم للشعب الروسي
رأس المال كنظرية، ولكنه ترجم فحواها، على صورة هي في متناول الإدراك
الشعبي(20).
ولكن هيهات لتلك الشعارات أن تبقى حين دقت ساعة الكلخوز؟!
يقول مالك بن نبي في هذا المعنى «إن الإيديولوجية التي لا تتضمن كأفكار
موجهة ــ إلا مصالح عاجلة، فإنها وإن كانت محترمة، سوف لا تفتح الطريق لغير
سياسة قصيرة محدودة المدى على قدر الشعارات التي دفعتها»(21).
- نتائج البحث:
وخلاصة القول إن الإنسان العربي الجديد يمكنه أن يكون كذلك بأحد الشروط:
أولا: أن يقوم بعملية تنحية لما لصق به من عادات فكرية أردته إلى سفح
الحضارة. ومن هنا فالتنمية هي أولا وقبل كل شيء هي تنمية للموارد البشرية
في العالم العربي حتى نتمكن من إيجاد هذا النموذج الذي يقتدى به.
ثانياً: أن الإنسان العربي الجديد يحتاج هو الآخر لعملية بناء في عالمه
الثقافي. ذاك العالم الذي يجب أن يرسم بداية معالمه الأخلاقية الموجهة من
التعاون الذي يحصل بينه وبين الدولة التي تدير شؤون الفرد، من جهة، ومن جهة
أخرى لا بد من استثمار الجوانب الأخرى في الإنسان العربي، والتي هي:
ـ جانب التوجيه العملي؛ يجب أن نُعلّم هذا الإنسان أن الواجب يتقدم على
المطالبة بالحق من أجل أن يضمن اكتفاءه الذاتي اقتصاديا ـ كما أنه لابد من
ضمان مراعاة التوجيه الجمالي للإنسان العربي.
والمسألة هنا تأخذ طابعها الثقافي أيضا وعلينا أن لا نعلم الناس أن يقولوا
أو يكتبوا أشياء جميلة وإنما علينا أن نعلمهم فن الحياة مع زملائهم أعني أن
نعلمهم كيف يتحضرون.لأن الجمال هو وجه الوطن لذا لا بد من الاعتناء بهذا
الجانب الذي يحتج هو الآخر إلى توجيه.
ثالثاً: لابد من البناء الاجتماعي للإنسان العربي ذاك البناء الذي لا
يمكننا أن نرى صورته إلا في ذلك الشكل من التعاون بين العالم السياسي
والعالم الاجتماعي في ذات الفرد. وهي في نظرنا تنمية للجانب الإنساني للذات
العربية. تلك الذات التي ما انفكت تتلألأ بحضارة كانت لها لتصبح اليوم
تتلألأ باللاّحضارة. ومنه فإن عملية إنشاء لمعالم التنمية في هذه الذات
مهمة للغاية، حتى يكون الإنسان العربي الجديد قادراً على أن يعود إلى حلبة
التاريخ.. وعليه نستطيع أن نقول أنه سيبني تاريخه الخاص به وحضارته
الخصيبة.