التاريخ والتراث والسياسة.. دراسة في ثلاثية معاصرة* د. حسن حنفي
1- مقدمة: المفاهيم الثلاثة
يبدأ بعض المفكرين العرب المعاصرين بعدة مقولات تتأسس على مشاريعهم الفكرية
مثل (نقد العقل العربي)، (نقد العقل الاسلامي)، (من التراث إلى الثورة)،
(التراث والتجديد)، ويفضل البعض الآخر البداية ببعض المقولات الأساسية
كنقاط بداية مثل (التاريخ، التراث والسياسة). والغالب على البعض منها في
كلتا الحالتين الإيقاع الثلاثي، إما كبنية طبيعية في الذهن كما هو الحال
عند كانط، أو في الجدل مثل هيجل، أو في الموقف الحضاري مثل ثلاثية الموروث
والوافد والواقع المعيش، ومنها (التاريخ والتراث والسياسة).
وقد توالت عدة أجيال من المفكرين في المغرب الأقصى عن أصحاب المشاريع التي
بدأت معظمها بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 أو قبلها بقليل مواكبة للثورة
العربية في النصف الثاني من القرن العشرين ابتداءً من الخمسينات. ويمكن
التعرف على أجيال ثلاثة: الأول جيل محمد عزيز الحبابي الذي طوّر مشروعه
ابتداءً (من الكائن إلى الشخص) انطلاقاً من مونييه إلى (الشخصانية
الإسلامية) لإعادة اكتشاف الشخصانية في الموروث بدلاً من نقلها من الوافد
حتى (العالمية الثالثية) في مراحل ظهور كتلة العالم الثالث إبان الستينات
وصولاً إلى (الغادية) بعد ازدهار علوم المستقبليات. والثاني جيل عبدالله
العروي (1935) الذي تطور أيضاً من (تاريخ المغرب) إلى (الإيديولوجية
العربية المعاصرة) إلى (العرب والفكر التاريخي) خاصة المثقفون العرب والغرب
إلى تحليل المفاهيم مثل: الإيديولوجيا، والحرية والعقل، والتاريخ. وينضم
إليه محمد عابد الجابري (1936) في رباعية (نقد العقل العربي) التكوين ثم
البنية ثم تطبيقهما في السياسة والأخلاق. والثالث علي أومليل (1940)
انطلاقاً من التاريخ والتراث والسياسة ومعه طه عبد الرحمن (1940) ابتداءً
من اللغة والمنطق والجدل والمناظرة أو نقيضها في الإلهامات الصوفية
والإشارات الإلهية وتحت مصطلحات جديدة مع إزاحة الأجيال السابقة لإفساح
المجال للجيل الجديد لفرض نفسه على الساحة الفكرية والفلسفية. وفي الدول
الشابة تتلاحق الأجيال ربما كل عشر سنوات وليس كل أربعين عاماً كما قال
قدماء اليونان وابن خلدون.
والعنوان (التاريخ والتراث والسياسة) من تطور المؤلفات الستة الرئيسية:
اثنان في التاريخ: (الخطاب التاريخي.. دراسة في منهجية ابن خلدون) 1977،
(الإصلاحية العربية والدولة الوطنية) 1985. واثنان في التراث: (في التراث
والتجاوز) 1990، (في شرعية الاختلاف) 1991. واثنان في السياسة: (السلطة
الثقافية والسلطة السياسية) 1996، (مواقف الفكر العربي من المتغيرات
الدولية.. الديمقراطية والعولمة) 1998.
وهي أيضاً مقولات أولية في (رسالات الخطاب التاريخي)، فمن التاريخ –
المقولة الأولى – تنبثق منذ البداية المقولتان الأخريان التراث والسياسة.
فالتاريخ هو بالضرورة تاريخ التراث وتاريخ سياسي في آن واحد، والتراث هو من
وضع التاريخ، ويعكس الصراعات السياسية. والسياسة هي التاريخ في تفاعلاته
التي تنتج تراثاً بعد التدوين. التاريخ يحفظ التراث، والتراث يدون التاريخ.
والتراث من تدوين السلطان السياسي، وهو الفاعل في التاريخ. يدرس التراث
بمنهج تاريخي، والتاريخ هو تاريخ التراث. فالتاريخ منهج وموضوع. وفي
التاريخ تقع النزاعات اللاتاريخية مثل التصوف الذي يريد الخروج من التاريخ
ثم اللحاق به والعودة إليه بصورة أخرى.
2- التاريخ:
أ) يبدأ التفكير في التاريخ منذ رسالة الدكتوراه الخطاب التاريخي:
دراسة في منهجية ابن خلدون، وهي من أكبر المؤلفات، ويبين فيها العقل في
التاريخ بتعبير هيجل ولكن على أساس نقدي، والعقل في الجغرافيا أي النظرية
الجغرافية المعروفة عند مونتسكيو وهردر. كما يصف أغلاط المؤرخين السابقين
ويبين ضرورة نقد الروايات قبل استعمالها كمصادر للتاريخ، تحولاً من النص
إلى الواقع، ونقد منهج الإسناد الذي يجعل صحة الخبر مشروطة بصحة الإسناد.
وابن خلدون جزء من الثقافة العربية في المغرب ومنهجية العقلانية التي يتسم
بها الفكر المغربي. وتتجاوز الدراسة عرض المقدمة كما يفعل المشارقة
وتكرارها، بل يبين نموذج انبثاق السياسة من التاريخ والتحول من القبيلة إلى
الدولة مع دقة المقاربة في التحليل والتنظير كما هو الحال عند ابن رشد
وابن خلدون، ونموذج المشارقة ابن سينا والغزالي. وفي نهاية كل فصل
(استخلاص)، بالإضافة إلى الإستخلاص العام الذي في نهاية الدراسة حتى يعي
القارئ النتائج الجزئية والكلية وليس فقط مجرد العرض بطريقة المشارقة.
ويتأكد التركيز على التاريخ في ثنايا الدراسة قبل ابن خلدون وبعده مثل
الرؤية التاريخية للتاريخ عند الطبري، والصلة بين تاريخ المغرب والتاريخ
العام، وما هو الخاص في التاريخ وما هو العام، وأهمية ابن خلدون في العودة
إلى الواقع وإلى التجربة التاريخية ونهاية بتفسير التاريخ. وتحاول الدراسة
إدخال المقدمة في تصنيف العلوم اعتماداً على إحصاء العلوم للفارابي في إطار
علوم الحكمة. وقد بدا ذلك صعباً للغاية لأن الفارابي لا يدخل التاريخ ضمن
إطار علوم الحكمة، كما يصعب اعتبار التاريخ ضمن هذه العلوم، إنما المقدمة
تند عن التصنيف لأنها تعبّر عن نهاية المرحلة الأولى للحضارة الاسلامية،
مرحلة النشأة والتطور والاكتمال ثم النهاية في القرون السبعة الأولى قبل أن
تبدأ المرحلة الثانية عصر الشروح والملخصات في القرون السبعة التالية
والتي انتهت بعصر الإصلاح الديني والنهضة العربية الأولى قبل أن يَكبُو
تدريجياً حتى هذا الجيل.
وفي الفصل السادس يقدم نموذجاً تطبيقياً لبنية المقدمة ليتحقق من صحتها
انطلاقاً من مسار البدو من القبيلة إلى الدولة والخلافة حتى الحضارة
والتدهور مع التركيز على دور التصوف في التاريخ، وبيان الاستثناءات في
التاريخ، وحدود البنية لرصد وقائع التاريخ الكلي.
ب) الإصلاحية العربية والدولة الوطنية:
وهنا يتم الانتقال من التاريخ القديم إلى التاريخ الحديث، من ابن خلدون
نهاية العصر القديم إلى الإصلاح بداية العصر الحديث، ومن الخلافة إلى
الدولة الوطنية.
كانت هناك مقدمات للإصلاح وذلك بانتشار بعض المفاهيم مثل الدستور لتقييد
سلطة الملك أو الأمير، فأقصى ما كان ينادي به الإصلاح هي الملكية المقيدة
بالدستور، ومثل الاستبداد العادل الذي دافع عنه الأفغاني كنوع من الإصلاح
للدولة العثمانية، ومثل الحسبة، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند
الإسلاميين كنوع أيضاً من الرقابة على الحاكم، ويكون المصلحون مثل الغرباء
الذين يصلحون في الأرض عند فساد الناس، هم العلماء ورثة الأنبياء، وهم
الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة لتجديد الدين.
ويقوم الإصلاح على تأكيد الفطرة والحالة الطبيعية من أجل إعادة النظر في
نظام المجتمع. ويحال إلى مصادرها القديمة لدى (حي بن يقظان) لابن طفيل،
وابن خلدون، والشاطبي في مقاصد الشريعة، والحُسن والقبح العقليين عند
المعتزلة. فالطبيعة خيرة وعاقلة والتسامح جزء من الفطرة، يعطي حق الخلاف
والاختلاف. وهو ليس مفهوماً محايداً، مجرد تعبير عن الفطرة، بل هو أساس
الإصلاح ضد التسلط والتفرد بالرأي.
وبمجرد أن خبا الإصلاح، نشأ الصراع بين السلفيين والعلمانيين، وبين
السلفيين والليبراليين. حاول الإصلاح الجمع بينهما في سلفية جديدة قابلة
للحداثة، أو علمانية جديدة قابلة للحداثة، أو علمانية جديدة قابلة لأن تمتد
جذورها في الموروث العقلاني الطبيعي القديم. وبالرغم من دراسة الموضوعات
نفسها دون الأشخاص إلا أن علي أومليل يفصّل مشروع طه حسين العلماني ويبرز
التقابل بين الديني والمدني.
ومع الدولة الوطنية بدأ السؤال حول دور الإسلام فيها. فقد خرجت معظم حركات
التحرر الوطني من جبّة الإصلاح الديني. فلما نشأت الدولة الوطنية تم
استبعاد الحركة الاسلامية في خضم الصراع على السلطة. هكذا نشأت مشكلة
الجزائر والحرب الدائرة الآن بين الاسلاميين والدولة. كما نشأت أيضاً مشكلة
الهند وانفصال باكستان باسم الاسلام عن الهند العلمانية. وما زالت
الإصلاحية العربية الليبرالية أو الاسلامية في مشكلة مع الدولة التي تحكم
باسم السلطة ولا تطلب من الناس إلا الطاعة. وهو ما يرفضه الليبراليون
والاسلاميون.
ويظهر ابن خلدون من جديد نموذجاً للمثقف المغربي. ومع ذلك يحضر الغزالي
أيضاً في المغرب العربي وكان المغرب قد جمع بين النقيضين، التصوف للشعب
والعقل والتاريخ للنخبة. كان من الطبيعي أن يلجأ الغزالي إلى التصوف كحركة
إحياء للإيمان في القلوب أثناء الحرب الصليبية الأولى دون ذكرها أو الإشارة
إليها في أي من مصنفاته.
وكما كان المثقف العربي بين ثقافتين العربية والغربية، فقد تمّت المقارنة
بينهما في تحليل الفطرة والإشارة إلى هيجل، وفي تحليل الطبيعة والإشارة إلى
روسو مع تعريب بعض الألفاظ مثل (ريفورم) أي الإصلاح، و(توليرانس) أي
التسامح.
وقد تبدو هذه التحليلات النظرية خالصة بلا هدف أو قصد مثلما هو الحال عند
بعض المفكرين الغربيين المعاصرين إيغالاً في التحليل وبحثاً عن المتناهي في
الصغر، إلا أنها في الوقت نفسه تكشف عن وعي عميق بمسار الأمة الإسلامية في
التاريخ ليتواصل حاضرها في ماضيها. وربما يظل السؤال قائماً: لماذا التوقف
عند الدولة الوطنية دون اختيارها الليبرالية أو الإشتراكية؟ وهل جمع
المؤلف بينهما كما فعل العروي من قبل في (العرب والفكر التاريخي) في
الماركسية العربية أو الماركسية التاريخانية أي الماركسية الليبرالية؟
3- التراث:
أ) في التراث والتجاوز (1990):
وهي قضية المفكرين العرب المعاصرين. كيف يمكن تحليل التراث باعتباره
مخزوناً نفسياً وموروثاً ثقافياً من أجل تجاوزه، والتحرر من عقاله، ليصبح
باعثاً على التقدم بدلاً من أن يكون عائقاً عنه؟ يكتفي بعض المفكرين بالوصف
والتحليل مثل مشروع (نقد العقل العربي) و(نقد العقل الإسلامي) دون التجاوز
الصريح، وإن كان يمكن استنباط التجاوز الضمني.
ويعرض أومليل في دراسته عن (التأويل والتوازن عن ابن رشد) لمدى تحقيق هذا
الآخر تجاوزاً للمفاهيم الأساسية في التراث. فإذا كان التراث يقضي بإرجاع
الفرع إلى أصل سابق، وبالتالي يكون الأصل هو الأساس وأن ما اتفق معه يضم
إلى التراث وما اختلف معه يصبح بدعة، فإن التأويل اجتهاد يعتمد على المقاصد
الكلية للشريعة يتجه إلى الأمام وليس إلى الخلف. والأصل ليس نصاً يختلف
عليه المتأولون، بل هو قصد وغاية وقيمة ومبدأ.
وتلك أصالة الفكر الخلدوني. ولما كانت الفلسفة هي أيضاً تأملاً في المجتمع
وتحليلاً له، فإنه تم التركيز عند أومليل على (مفهوم المجتمع في الفكر
العربي) – وهو عنوان أحد أبحاثه – وذلك من خلال الدرس الاجتماعي في المشرق
والمغرب. فقد غاب هذا المفهوم في بداية نشأة الجامعة المصرية، ثم شاع في
منتصف القرن الماضي بالرغم من وجود مفاهيم الاجتماع والجماعة في الفكر
الفلسفي الاسلامي القديم عند الفارابي وابن سينا وابن باجة وفي الفكر
الفقهي. لذلك كان علي أومليل أقرب المفكرين العرب إلى الفكر الاجتماعي
والسياسي.
ب) في شرعية الإختلاف (1991):
وهو ما سمي الحق في الاختلاف وعدم شرعية التفرد بالرأي وضرورة الاستشارة.
فالكل راد والكل مردود عليه. وهي دعوة موجهة للطرفين المتنازعين، للأخوة
الأعداء السلفيين والعلمانيين، في المعارضة أو في الحكم. فالسلفيون يرفضون
شرعية الاختلاف، ويحتكرون الرأي إلى حد قد يصل إلى التكفير، والعلمانيون
يخوّنون السلفيين. والسؤال هو: كيف يكون للفريقين حق الوجود الشرعي والتحرك
في إطار الشرعية؟ إذا كان العلمانيون في الحكم باسم الدولة الوطنية كيف
يعطى للسلفيين في المعارضة حق الشرعية؟ وإذا كان السلفيون في الحكم باسم
الحاكمية كيف تسمح للمعارضة بالوجود الشرعي؟ حق الاختلاف إذن مرفوض في
الحالتين، بمنطق الإبعاد المتبادل، والإقصاء المزدوج لصالح فريق واحد يدّعي
امتلاك الحقيقة كلها دون الآخر الذي هو في ضلال مبين. مَن هي الفرقة
الناجية، وهي في الغالب فرقة السلطان؟ ومَن هي الفرقة الضالة الآفكة وهي في
الغالب أحزاب المعارضة؟ إن حق الاجتهاد مكفول للجميع، فمن الذين أغلق باب
الاجتهاد؟ مَن الذي يملك المفتاح لغلقه أو فتحه؟
والنموذج التاريخي لذلك هم الموريسكيون الذين صمدوا في إسبانيا ضد محاولات
التنصير أو التهجير. وهم الذين حملوا لواء المعارضة داخل إسبانيا المسيحية،
نصارى في الظاهر، ومسلمون في الباطن. رفضوا تحريف الكتاب المقدس وحرفية
التفسير، وهو ما زال يحدث في الفكر العربي المعاصر، قراءة للماضي في
الحاضر، وللحاضر في الماضي، وتحليلاً لحاجات العصر وتأصيلها في الموروث
القديم كنوع من حوار الحضارات أو حوار الأديان، جمعاً بين هموم العلم وهموم
الوطن. وموضوع الفكر الموريسكي من الموضوعات الجديدة التي لم يتطرق إليها
معظم المفكرين العرب المعاصرين. تبرز قضيته في تاريخ الأديان المقارن في
قراءة تقوم على التعددية الفكرية، وتؤكد على الخلاف بين المذهب الواحد وليس
فقط بين المذاهب وتجمع بين هموم القدماء وهموم المحدثين. كما يعرض الكتاب
موضوعاً رئيسياً هو أسباب النزول أو تاريخ فوق التاريخ وأن الوحي نزل في
المكان والزمان، المكان في أسباب النزول، والزمان في الناسخ والمنسوخ،
فالأحكام تتغير بتغير المكان، والزمان له تاريخ في التاريخ.
والمنهج المتبع هو المنهج التحليلي الميكرسكوبي لرؤية المتناهي في الصغر
كرد فعل على الأحكام العامة في المشرق والتنظيرات المجردة في المغرب، والتي
تستعمل بعض المفاهيم الغربية الأثيرة عند بعض المفكرين المغاربة مثل
القطيعة المعرفية، مع أن الإسلام يقوم على التواصل، فالمسيحية قراءة روحية
لليهودية، والاسلام اختيار حر بين الشريعة والمحبة (وإن عاقبتم فعاقبوا
بمثل ما عوقبتم به، وإن صبرتم لهو خير للصابرين) مما يبدو عندهم إغراقاً في
الحداثة، وغلبة الحداثة على الموروث القديم، وبعض التشيع في العلم،
واستئصال موضوع من تربته لغرزه في تربة أخرى. وتلك صعوبات أمام الباحث
والفكر العربي المعاصر وهو يستكشف الطريق بين القديم والجديد، بين تراث
الأنا وتراث الآخر، والمقارنة بين ثقافتين دون مراعاة اختلافهما في
المسارين التاريخي، الأولى في مرحلة ما قبل الحداثة والثانية في مرحلة ما
بعد الحداثة.
4- السياسة:
أ) السلطة الثقافية والسلطة السياسية (1996):
يبدو أن المقولة الثالثة السياسية هي مركب الموضوع، التاريخ كموضوع والتراث
كنقيض موضوع. ويتعرض المفكر المغربي لموضوع شائك في الفكر العربي المعاصر
وتأصيل جذوره في التراث القديم وهو سلطة المثقف وعلاقته بالسلطة بالتعبير
المعاصر، أو الكاتب بالسلطان بالتعبير القديم. ويعطي نماذج من الماضي سياسة
الكتّاب تجاه السلاطين وسياسة السلاطين تجاه الكتّاب. فقد امتهن الجاحظ
مهنة الكتابة. ووقف التوحيدي على باب الله وعلى باب السلطان في آن واحد.
وأحاط السلاطين أنفسهم بمجالس الفقهاء والأدباء والحكماء والشعراء
والظرفاء. وانتحل الكتّاب عهوداً ورسائل وأشعاراً تبين قدرتهم على الإبداع.
كل ذلك من أجل الإجابة على سؤال كيف تنشأ السلطة العلمية في المجتمع؟ كان
النسق عند القدماء أن الدين والملك توأمان أي الجمع بين السلطتين الدينية –
الثقافية والسياسية، وكما قال الفارابي سواء قلت النبي أو الملك أو الإمام
أو الفيلسوف فإنني أعني الشيء نفسه.
ثم طبق هذا النموذج على الفلاسفة باعتبارهم النموذج القديم للمفكرين
المعاصرين. فقد صاغ بعضهم مدناً مثالية بعيداً عن نقد النظم السياسية
القائمة. فالخيال أفضل من الواقع، في حين آثر ابن رشد نقد ثقافة السلطان.
ودافع عن الفلسفة إيجاباً في (فصل المقال) من أجل التأكيد على حق النظر
ووجوبه بالشرع. كما دافع عنها سلباً في (تهافت التهافت) بعد أن أقصاها
الغزالي لصالح السلطان. ونقد علم الأشعرية وهو الأساس النظري الذي قامت
عليه الدولة الموحدية، وأعاد إقامة الفقه على أسس خلاقة. وكتب، الكليات في
الطب، وفي العلم الخالص، وفي العقل والتجربة كأساسين للوحي.
ويتم استعراض القضية نفسها ابتداء من التراث الغربي لمعرفة كيفية ظهور سلطة
المثقفين في الغرب، خاصة في فرنسا وألمانيا للمقارنة مع ظهور سلطة
المثقفين في تاريخ العرب الحديث. وتتردد أسماء القدماء أكثر من أسماء
المحدثين مثل المختار السوسي وأبي الحسن اليوسي والرازي وابن باجة
والفارابي وابن سينا وابن رشد ومن قبلهم سقراط.
ومع ذلك تظهر رؤية جديدة لعلاقة المثقف بالسلطة أكثر مما هو معروف في
النظريات الثلاث الشهيرة: المثقف ضحية للسلطة أو عميل لها، أو تجسير الفجوة
بين المثقف والحاكم، أو تجسيرها بين السلطة والشعب لتخفيف أخطار السلطة
وتحقيق ما يمكن ت حقيقه من مصالح الشعب.
الدراسة جديدة تشبه دراسة بعض المفكرين الغربيين المعاصرين مثل دريدا في
علم الكتابة وليست دراسة ميتافيزيقية نظرية خالصة تجمع بين القدماء
والمحدثين، وتقرأ الحاضر في الماضي والماضي في الحاضر، جمعاً بين المحلية
والعالمية، بين التاريخ الخاص والتاريخ العام.
ب) مواقف الفكر العربي من المتغيرات الدولية والديمقراطية والعولمة:
وأصل هذا الكتاب محاضرة ألقيت في عمان وجمعت الردود والتعقيبات عليها
وتتطرق إلى بعض الموضوعات الجديدة في الفكر العربي المعاصر مثل التحديث،
ودلالة التجربة الاقتصادية الآسيوية. فالتحديث قضية الجميع والليبرالية
نموذجاً لها ومع ذلك هناك فرق بين السوق أي حرية سيولة البضائع في نظم تقوم
على الاقتصاد الحر، وليبرالية الفكر والنظم السياسية، حرية الفكر
وديمقراطية الحكم، وهناك نموذج التجربة الآسيوية التحديث من خلال الدولة
والقيم الآسيوية، والتخطيط الاقتصادي.
وأخيراً، تعرض الدراسة للعولمة ومستقبل الدول القطرية. فالعولمة تقتضي
إسقاط الحدود الجمركية وتقليص سيادة الدولة الوطنية وتنشيط القطاع الخاص
وتقوية مؤسسات المجتمع المدني. فالدولة القطرية ما زالت متمسكة بسيادتها
الوطنية وحماية صناعتها الوطنية والرغبة في المشاركة في السوق بالإنتاج
وليس فقط بالاستهلاك.
فهل يستطيع العرب ذلك عن طريق ايجاد سوق عربية مشتركة وتعاون متبادل من أجل
خلق سوق إقليمي في مواجهة السوق الأوروبية المشتركة والسوق الأمريكية
المتملثة في الشركات المتعددة الجنسيات؟ وهل العرب إستثناء؟
إن صاحب الثلاثية ما زال يمثل واحداً من قوى اليسار العربي، ولم يتغير
بتغير الأحداث والتحول مائة وثمانين درجة. ما زال يكتب للمثقفين العرب. لا
للمتزمتين ولا للعامة وإن ظهرت بعض المصطلحات المعربة مثل (اللائكية) أي
العلمانية. وهو يربط بين المغرب والمشرق بالرغم من الدعوة العامة في المغرب
إلى التمايز بين جناحي الوطن العربي، وسوء استعمال مفهوم (القطيعة
المعرفية) عن قصد أو عن غير قصد، يثري الثقافة العربية والفكر الفلسفي
العربي الحديث بين رياسة الملك ورياسة الحكمة بين الملك والفيلسوف