لا أتذكر بالتحديد أول مرة بكينا فيها معا. ومر وقت طويل منذ ذلك الحين..
لم نكن معاً بالقدر الذي نحب ولكن ها هي هناك جالسة في جناح الكنيسة..
الرأس الأحمر المستطيل في البدلة الأنيقة، إيلين أعز صديقاتي.. فلقد أصبحنا
صديقتين مذ كنا صغيرتين، قضينا معظم الوقت معاً.. نتقاسم الأسرار، اللعب،
بل والضحكات حتى أن والدي أسمانا ابنتيه الثرثارتين واليوم بهذه الكنسية
وكلانا أقرب ما يكون إلى الدموع.. هلت على ذاكرتي أوقات بكائنا معاً.. لكن
إيلين احتفظت بوجهها أجمل مما فعلت بوجهي.. ها هي مشرقة بشعرها الأسمر
المحمر الذي لا يبدي أي مظهر للشيب.. ها هي ترمقنى الآن.. أعرف أن لديها
ذات المشاعر التي لدي، أومأت إليها في محاولة مني لتجاهل هذه
المشاعرالشائكة .
أشاح كلانا بوجهه إلى حيث مدخل الكنيسة.. لا أتذكر
بالتحديد أول مرة بكينا فيها معاً.. على الرغم من أن والديّ ذكّراني
مراراً بذلك حين أتت إيلين ووالدتها للإقامة إلى جوارنا كان ذلك قبيل عيد
ميلادي الثالث، ولأننا فتاتان وفى نفس العمر كان هراءً أن نلعب سوياً بلطف،
ومع ذلك حين أتت إيلين إلى منزلنا لأول مرة حملقت فيها ثم انتزعت منها
أفضل دمية كانت لدي وضممتها بإحكام إلى صدري.. أما إيلين – كما تروى أمي –
فلقد هزت كتفيها الصغيرين وذهبت رأساً إلى صندوق لعبي وأخرجت منه محركاً
خشبياً لم ألعب به من قبل قط ولم يلفت حتى إنتباهي - كما تروى أمي وهي تهز
كتفيها تعجباً-.. لكنك رميت بدميتك وصرخت بأعلى صوتك وانتزعته من بين يدي
الطفلة المسكينة التي جرت إلى أمها وتنهدت بحسرة أما أنا فلا أتذكر هذه
الحادثة ولكن حفيدتي – تلك الشقراء القصيرة القلقة ذات الوجه الوقور إلى
جواري - تفخر الآن بملكيتها للدمية والمحرك الخشبي.
من هذه البداية القاسية بدأت صداقتنا.. لعبنا معاً وذهبنا إلى المدرسة
معاً.. أول ما أتذكره ذكريات البكاء مع إيلين عندما مات (سنويّ) فلقد
أشركتني إيلين حبها لفأرها المدلل بعد أن شاركتني حنان والدي إذ كانت
محرومة من أن يكون لها أب، لقد أحبت إيلين والدي كثيراً حتى أنها في إحدى
صورها معه كانت تتعلق بقدمه بينما كان يراقص أمي في إحدى حفلات الكريسماس
كانا ينظران إلى فتاة الثلاث سنوات وهما يتضاحكان.. ولقد أحبها أبي كما لو
كانت ابنته.. ولقد أحب كلانا (سنويّ) لذا اعددنا من أجله كل شيء.
بينما كان بيتر الولد الصغير الذي كان يجاورنا يقول أن الفئران كثيرة النسل
فهي لا تمضي يوماً دون أن تلد فيه فامتلأنا فرحة أنا وإيلين، حتى أننا إذا
غبنا ولو ساعة عن (سنويّ) كنا نلتهم الطريق إليه نجده في قفصه لعلنا نجد
له صغاراً قد ولدوا.
وكم كنا نبتني الآمال في طريق عودتنا من المدرسة نمني أنفسنا بصغار (سنويّ)
التي سنلهو معها ونتناقش كيف سنتولى أمرها إذا ما فاق عددها توقعاتنا
لكننا ما إن نحدق في قفص (سنويّ) حتى تخيب كل هذه الآمال ..! فثمة أحد لم
يخبرنا أن الأمر يستلزم أن تكون لـ (سنويّ) فأرة أنثى كي يحدث هذا.. فلقد
كان ذكراً...!
وذات يوم ونحن نحدق في قفصه وجدناه راقداً بلا حراك هادئاً كما لم نعتده.. لم نصدق ساعتها والدة إيلين حيث أخبرتنا أنه.. قد مات!
حتى أن والدي ووالدتي أكدا ذلك، لكننا في أخر الأمر صدقنا بيتر حين أخبرنا –
رغم أنه نبوءته بشأن صغار (سنويّ) لم تتحقق، بكينا أنا وإيلين حين أخرجت
والدتها (سنويّ) من قفصه وبكينا حين ضمته في لفائف القطن ووسدته في أرض
الحديقة على حافة حمام السباحة, بكينا وبكينا كلما مررنا حيث كان قفصه،
الآن بعد هذه السنين كأن في حلقي غصة كلما فكرت في (سنويّ). ولقد عرفنا
نوعاً آخر من البكاء – كما تروي والدة إيلين – حين كانت تحكي لنا قصة
(بائعة الكبريت) أتذكر حتى مذاق دموعي واحتضاننا البعض أنا وإيلين وبكائنا
معاً حين نتخيل تلك الفتاة الصغيرة التي تجمدت من البرودة بعد أن أشعلت آخر
عود ثقاب لديها ثم فارقت الحياة! كلانا أحب تلك الفتاة وقصتها رغم أنها
تبكينا إلا أنها كانت قصتنا المفضلة.. نظرت إلى إيلين ورأيت دموعها وتساءلت
أترى لديها منديل الآن؟ فعندما كنا صغاراً كان من المعتاد لديها أن تفقد
مناديلها وكانت أمي ترسلني إلى المدرسة ومعي منديلان واحد استعمله والآخر
للطوارئ غير أن الطوارئ دائما كانت إيلين...! حتى في مراهقتنا بكينا..،
بكيت عندما وعدني جيلارد بمقابلتي خارج السينما وأخلف وعده! وبكت إيلين
عندما أقسم جوني أن يخلص لها للأبد ثم تركها لأنها أطول منه بما لا يسمح له
بالبقاء معها - كما تعلل - رزقنا أول أطفالنا في نفس العام على الرغم من
أنني تزوجت قبلها بأقل من عام... وبكينا حين رزقنا أطفالاً أخر (ابنتيّ
التوأم ديان، ميشيل) وكانت ميشيل قليلة شعر الرأس كوالدها ورزقت إيلين
بمولود رائع أحمر الرأس أسمته (ستيفين) كم تمنينا أن نرزق أطفالاً من نفس
الجنس لتمتد صداقتنا عبرهم لكننا لم نأس لذلك.. ولم ترزق ايلين بأطفال أخر.
ورزقت بابنتي الثالثة منذ ثلاث سنوات. أما هذه الطفلة التي تتململ بجانبي
فهي حفيدتي، أتت للعيش معي بعد أن أبدى زوج ابنتي ميشيل عدم استعداده
لتربيتها. أرى الآن إيلين تتحسس في حقيبتها.. ودموعها تتهادى إلى وجنيتها
فرحت أبحث في حقيبتي.. ومضيت إليها وأعطيتها منديلاً.. فمسحت دموعها
وشكرتني.. لاحظتني حفيدتي وشق سؤالها هدوء الكنيسة.. ما الذي يبكيك يا
جدتي؟ لكن والدتها وضعت يدها على فم الصغيرة لتسكتها.. أما أنا فعندما أهدأ
سوف أهمس لها.. أبكي لأني سعيدة وسأشير إلى حيث تقف ابنتي الكبرى إلى جوار
ابن ايلين سأخبرها أن الناس تبكي في لحظات الفرح وأشرت إليها أن تنظر إلى
حيث يقف ستيفين ابن إيلين بشعره الأحمر المسمر يتحسس حجاب عروسه ميشيل
بينما ينحني مقبّلاً إياها. وقفت حفيدتي مندهشة للحظة ثم ضغطت يدي وعادت
بناظريها إلى الزوجين السعيدين. وقفنا أنا وإيلين امرأتين كانتا فتاتين
مشاغبتين والآن أصبحتا والدتين لعروسين. فرغنا لتناول الحلوى ومشاهدة
العروسين يرقصان ثم نثرت مزقاً من الأوراق الملونة على الراقصين.. وتحررت
حفيدتي من ركبتيّ أمها وتعلقت بأرجل العريس.. تأبى عليه أن يذهب وهنا
رمقتني إيلين بنظرتها وانفجرنا في الضحك. مما لفت انتباه الحاضرين في صالة
الكنيسة وفرغنا من تناول الحلوى ثم تعلق كلانا بالآخر في محاولة لكتم
ضحكاتنا ثم صهلنا بصوت مسموع، توقف الراقصون حتى الصغيرة القصيرة التي
تتعلق بساق العريس أبدت دهشتها، أشارت إيلين إلى الصغيرة ضاحكة.. لكننا
بدأنا في البكاء وفتحت كلانا حقيبتها بحثاً عن مناديلنا.
الأربعاء أكتوبر 26, 2011 11:28 am من طرف تابط شرا