(عمان)
كتب
الشاعر يوسف أبولوز في جهة الشعر عن الشاعر والكمبيوتر : كل شاعر يكتب
شعره على الكومبيوتر يضحك على نفسه، جميل أن نضحك على أنفسنا أحياناً..
أعادتني القراءة إلى ذكرى سهرة لطيفة لمّ شملها زيارة قاسم حداد لمسقط،
ولأننا نرى في قاسم حداد أيامها ممثلاً للكتابة على الأنترنت كنت شغوفاً
لأسأله عن العلاقة مع الورق بعد الآن، وكان هو مؤمناً بأهمية ما يفعله،
وهذا ما أثبتته السنوات التي تلت، أنه سؤال قديم هل مات الورق مقابل
الكومبيوتر ؟، على الأقل إلى الآن لم يمت، بالعكس أثرت التكنولوجيا وأخصبت
كل عمليات إنتاج الكتاب ابتداءاً من كتابته إلى يد القارئ، وقبل أن نتحدث
عن الورق بوصفه زميل عمل الشاعر الذي لا غنى له عنه ألا نلتفت إلى الشاعر
نفسه : الشاعر بلا أدوات أليس شاعراً ؟.
يذكر أدونيس في إحدى لقاءاته أنه لا يزال يعمل على الورق ويفضل الورق،
كثر هم من لا يزالون كذلك وقبل أسبوع فقط من قرائتي مادة الشاعر
والكومبيوتر ليوسف أبو لوز في جهة الشعر قرأت لعقل العويط في ملحق
النهاركان يتحدث عن علاقته القديمة لأكثر من عشرين عاماً مع الكتابة على
الآلة (ابتداءاً من الطابعة الميكانيكية فالكهربائية فالكومبيوتر) وهي كلها
لوحات مفاتيح متشابهة، ورغبته العميقة في الورق والمديح، الورق يستحق
المديح (وصيفات آلهة الكتابة) كل ذلك أراه كالحنين، كما تجلس في أحد مقاهي
المدينة وتشتاق البر الفسيح والريف وظل الشجر، أو الشاطئ الرملي، أو صحبة
الجبال والوديان، حنين له جدوى شعورية وجميل، لكن هل بالضرورة أننا نحتاج
الورق كي نكتب الشعر ؟.
شعراء كثر في عصر ما قبل التدوين العربي لم تكن أشعارهم محفوظة في كتب
ودواوين بل في أفواه الناس، يعجبني الشاعر الشعبي لدينا : (باهتبي كلي انا
واستوي في حلوق الناس خرّوفه) كلام وأساطير، طرفه مثلا أحد فحول شعرنا
العربي، هل كان يدون أشعاره ؟، كيف سيدونها أصلاً حتى لو عرف القراءة
والكتابة، يمكننا أن نتخيل ديوان طرفه مجمعاً من جلود وأكتاف مربوطة مع
بعضها تزن عشرة كيلوجرام، وفي قصة موته ونجاة خاله إشارة إلى عدم إلمامه
بالقراءة، يمشي وموته في يده : الشاعر.
وأقدم من ذلك لو عدنا لنص جلجامش هل كتب على ورق ؟، الكتابة المسمارية
لم تعرف الحبر والورق، لا رائحة، وأبعاد الألواح التي كتبت عليها النصوص
العراقية القديمة لم تكن ورقاً أو لها شبه بالورق، نص جلجامش استلزم كم
لوحاً لكتابته ؟ لو مددنا ألواح النص لصار لدينا سور صغير يصل دجلة بغابة
الأرز.
ليست علاقة الشعر (والكتابة عموماً) بالورق هي محك كتابته، وما
من رابط بين النصوص ومستواها، والورق الذي يكتب عليه، ولو سلمنا بذلك لقلنا
أن من يكتب بالباركر نصه أفضل ممن يكتب بالpic،
ومن يكتب على ورق الكونكورد مستوى نصوصه أكثر إبداعاً ممن يكتب على ورق
التواليت، الخصوبة أكثر ثراءً بالتعدد، لا أقلل من أهمية الورق والكتابة
على الورق ولست مضطراً لذلك، الكتابة هي الكتابة، نحن التحقنا بالعازفين
الآن، العازفون وصلوا قبلنا إلى لوحة المفاتيح نحن تأخرنا وحان أن نلتحق
بهم : نعزف كتابتنا عزفاً، نضيف للكتابة ميزة العزف.
أما تهمة سقوط المستوى الشعري المتأخر ونسبة ذلك إلى خطأ الكتابة بلوحة
المفاتيح فليس إلا مغالاة في حب الورق ـ الذي يستحق ـ، لكن مستوى الشعر لا
دخل له، فما زلنا نجد شعراء يذهلوننا كما أقرأ مثلاً لماهر شرف الدين ـ وإن
متأخراً ـ ما يعني أن الكتابة الجيدة تفرض نفسها حتى بدون أدوات.
الكتابة تزداد غنىً : كانت نقشاً وكانت رسماً وكانت قلماً على كتف، على
رقعة، على ورق : خطوطا ملتوية لها معنى، صارت الكتابة الآن على لوحة
المفاتيح كل الأصابع تتراقص كاتبة، اليدان معاً، لا أعسر بعد لوحة
المفاتيح، اليدان تكتبان، الكلمة خارجة من كامل شعور الأيدي، مبثوثة من ذات
العقل الذي بث للوحة المسمارية، للهيروغليف المصري والبردى، للنقش للورق
للوحة المفاتيح، ونحن على استعداد لما يأتي أيضاً وأيضاً، الشعر ليس رهين
المادة : يخترقنا احتراقاً هذا الأثيم.