** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 عازفة البيانو ألفريده يلنيك

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

عازفة البيانو  ألفريده يلنيك Empty
17102011
مُساهمةعازفة البيانو ألفريده يلنيك

ترجمة: سمير جريس

عازفة البيانو  ألفريده يلنيك 11-1aإريكا،
الزهرة البرية. من هذه الزهرة حصلت المرأة علي اسمها. عند التفكير في هذا
الاسم تراءي أمام عيني الأم قبل الولادة شيء خجول ورقيق. ولكن، عندما تأملت
قطعة الطمي النازلة من رحمها، شرعت علي الفور _ دون أن تتورع عن فعل أي
شيء في تشكيلها كالنحات، كي تكتسب النقاء والنعومة اللازمة. هناك تستبعد
قطعة، وهناك أيضا. كل طفل يميل بالفطرة إلي القذارة والبراز، إذا لم يمنعه
المرء عن ذلك. مبكرا قررت الأم أن تكون مهنة إريكا لها علاقة بأي شكل من
الأشكال بالفن، حتى تستطيع استحلاب المال بحسها المرهف الذي حصلت عليه بعد
مشقة بالغة، بينما يقف العاديون من الناس حولها معجبين بالفنانة ومصفقين
لها. أخيرا انتهت الأم من تشكيل إريكا الرقيقة، والآن عليها أن تدفع عربة
الموسيقي إلي الأمام، وتشرع في التفنن.

مثل هذه الفتاة لم تخلق كي تقوم بمهنة فظة، أو بعمل يدوي صعب، أو بأعمال
منزلية. لقد خلقت حتى تتقن أسرار الموسيقي والغناء والرقصات الكلاسيكية.
عازفة بيانو ذائعة الصيت في العالم كله، هذا هو حلم الأم: ولكي تجد الطفلة
طريقها حتى وسط المؤمرات والمكائد، فإن الأم تدق في كل زاوية علامات ترشدها
إلي الطريق الصحيح، تضرب بالشاكوش العلامات في الأرض، وتضرب إريكا أيضا
إذا لم تكن ترغب في التمرين. تحذر الأم إريكا من أسراب الحاسدين الذين
يحاولون دوما الشوشرة علي الناجحين، وتوضح لها أن معظمهم من الجنس الخشن.
لا تسمحي لأحد بتشتيت انتباهك! لم يسمح لإريكا بالركون إلي الراحة عند أي
درجة تبلغها، ممنوع عليها أن تستند علي القمة الجليدية لالتقاط الأنفاس.
عليها أن تواصل علي الفور. إلي الدرجة التالية. حيوانات الغابة تقترب منها
اقترابا مهددا لحياتها، الحيوانات تبغي ضم إريكا إلي سربها المتوحش.
المتنافسون يودون لو اجتذبوا إريكا إلي صخرة ناتئة، متذرعين بحجة أن
يطلعوها علي المنظر الرائع. ولكن ما أسهل السقوط! تصف الأم الهاوية وصفا
مجسما، حتى تحترس الطفلة وتنأي بنفسها عنها. هناك، علي الذروة، الشهرة
العالمية التي لا تصل إليها الأغلبية. هناك تهب رياح باردة، ويشعر الفنان
بالوحدة، بل ويصرح بذلك. طالما تحيا الأم، وطالما تنسج بيدها مستقبل إريكا،
فليس أمام الطفلة سوي شيء واحد: بلوغ قمة العالم كله.

تدفع الأم من أسفل، فهي تقف راسخة بكلتا قدميها مادة جذورها في الأرض.
عما قريب لن تقف إريكا علي الأرض الموروثة من الأم، بل علي ظهر شخص آخر
تكون قد اجتذبته إليها بالحيلة والمكر. يا لها من أرضية هشة! تشب إريكا
وتقف علي كتفي الأم بأطراف أصابع قدميها، وتتشبث بأصابع يديها المدربة،
ولكن سرعان ما يتضح أن القمة ليست سوي نتوء في الصخر، قمة وهمية:
إريكا
تمد يديها وتحاول أن تشد نفسها لأعلي، لأعلي. الآن تري ما وراء الحافة،
ولكن عينها لا تري إلا صخرة جديدة، أشد وعورة من سابقتها. مصنع ثلج الشهرة
له فرع هنا أيضا. إنه يخزن منتجاته في قوالب، وبذا يدخر المرء تكاليف
التخزين. إريكا تلحس أحد القوالب، وتقيم كونسيرا مدرسيا، وبه تفوز في
مسابقة شومان. تعتقد أنه لا ينقصها سوي مليمترات، وعندئذ تتربع علي القمة!

الأم تنهر إريكا وتعنفها بسبب تواضعها الجم. أنت دائما الأخيرة! التعفف
النبيل لن يجلب لك شيئا. لا بد أن يكون المرء علي الأقل بين الثلاثة
الأوائل، كل من يأتي بعدهم يجد مكانه في صفيحة الزبالة. هكذا تتحدث الأم
التي لا تريد إلا مصلحة طفلتها، ولذلك لا تسمح لها بالنزول إلي الشارع حتى
لا تشارك الآخرين في اللعب، وتهمل التدرب علي العزف.

لا تحب إريكا أن تلفت الأنظار. بنبلي تتعفف وتنتظر أن يصل الآخرون إلي
شيء بدلا عنها، هكذا تشتكي الأم المجروحة. تشكو الأم بمرارة أن عليها أن
ترعي وحدها كل شؤون ابنتها، ثم تهلل وتزج بنفسها إلي ساحة النزال.
تجلس
إريكا بنبل مهملة، دون أن تكافأ حتى بحفنة من القروش تشتري بها جوارب أو
كيلوتات. تتفاخر الأم بحماس أمام الأصدقاء والأقارب _ وهم ليسوا كثيرين علي
كل حال، إذ أن المرء قد انفصل تماما مبكرا عن الآخرين، وعزَلَ الطفل أيضا
عن تأثيرهم _ بأنها أنجبت طفلة عبقرية. تلاحظ ذلك بوضوح يزداد يوما بعد
يوم، هكذا يقول منقار الأم. إريكا عبقرية في العزف علي البيانو، لكنها ما
زالت في انتظار من يكتشف موهبتها. لو وجدت من يكتشفها، لكان نجم إريكا قد
سطع منذ سنوات، وصعد فوق الجبال. مقارنة بها، كان ميلاد الطفل يسوع شيئا
تافها لا يستحق الذكر.

الجيران من ناحيتهم يقدمون المساندة اللازمة. إنهم يحبون أن يصغوا إلي
عزف الابنة عندما تتدرب. مثل الراديو، لكنها مجانا بدون رسوم. لا يحتاج
المرء سوي إلي فتح النوافذ، وربما الأبواب، وعندئذ تنساب النغمات إلي
الداخل، وتنتشر مثل الغاز السام، وتصل إلي آخر ركن وزاوية. لكن هناك من
يعلن انزعاجه، ويلاحق إريكا في كل خطوة، طالبا منها الكف عن الإزعاج. الأم
تحكي لإريكا عن الجيران المتحمسين لعزفها الرائع. حماس الأم يجرف إريكا مثل
غديري يجرف في طريقه بصقة. فيما بعد ستستغرب إريكا عندما يشتكي أحد
الجيران. لم تذكر الأم في يوم كلمة واحدة عن الشكاوي!

بمرور السنين تفوقت إريكا علي الأم في الازدراء بالآخرين. رأي الرعاع
غير الدارسين ليس مهما يا ماما، أحكامهم فجة، أيضا مشاعرهم لم تنضج بعد،
المختصون فقط هم الذين يعتد بهم في مهنتي. الأم ترد: إياك أن تتهكمي علي
مديح البسطاء الذين يسمعون الموسيقي بقلوبهم، ويسعدون بها أكثر من أولئك
المتشبعين، المدللين، المتخمين! الأم نفسها لا تفقه في الموسيقي شيئا،
لكنها تجبر ابنتها علي المضي في هذا المجال. منافسة ثأرية شريفة تنشأ بين
الأم والطفلة، لأن الطفلة سرعان ما تدرك أن قامتها أعلي من الأم في مجال
الموسيقي. الأم تعبد ابنتها عبادة، ولا تطلب مقابل ذلك سوي رسوم ضئيلة:
حياتها. تريد الأم أن تستغل حياة ابنتها كما يحلو لها.

ليس مسموحا لإريكا أن تختلط بالبسطاء من الناس، ولكن عليها دوما أن
تبتهج لمديحهم. المختصون للأسف لا يمتدحون إريكا. القدر الأحمق الذي لا
يفهم في الموسيقي اصطفي زميلتها أرريش، وزملاءها جولدا وبرندل وبوليني،
وآخرين غيرهم. لكن القدر مصر علي أن يشيح بوجهه عن كوهوت.
القدر يريد
أن يظل علي الحياد، وألا ينخدع بيرقة لطيفة. إريكا ليست جميلة. وإذا أرادت
أن تكون جميلة، فسوف تمنعها الأم علي الفور. عبثا تمد إريكا ذراعيها تجاه
القدر، لكنه لا يريد أن يصنع منها عازفة بيانو. ستقع إريكا ورقة صفراء في
مهب الريح. لا تفهم إريكا لماذا يحدث لها ذلك، فهي منذ أمد بعيد وصلت في
العزف إلي مرتبة العظماء.

ثم تحقق إريكا ذات مرة فشلا ذريعا في كونسير ختامي مهم في أكاديمية
الموسيقي، تفشل أمام الأقارب الكثيرين الذين جاءوا مع منافسيها، وأمام أمها
التي جاءت وحدها: أمها التي صرفت آخر ما لديها من مال علي مكياج إريكا في
هذا الكونسير. بعد الحفل تصفع الأم اريكا، حتى الشعب غير الدارس لاحظ فشل
إريكا، إنْ لم يكن لاحظه من يديها، فمن وجهها. كما أن إريكا لم تختر مقطوعة
تناسب الجمهور العريض الوافد إلي الصالة، بل معزوفة من ¢المسيا¢، وهو
اختيار حذرت الأم بحزم من عواقبه. لن تستطيع الابنة بهذا الاختيار أن تغزو
قلوب الجمهور الذي كانت الأم والابنة تقابله دوما باحتقار:
الأولي
لأنها كانت طيلة حياتها جزءا صغيرا غير ظاهر من ذلك الجمهور، والثانية
لأنها لم تكن تريد أن تغدو في يوم من الأيام جزءا صغيرا غير ظاهر من
الجمهور.

تحت سيل من السباب راحت إريكا تترنح وهي تهبط من خشبة المسرح، وتحت سيل
من اللعنات استقبلتها المرسَل إليها، الأم. حتى معلمتها، وقد كانت في
السابق عازفة بيانو مشهورة، أنٌبت إريكا بعنف علي ضعف تركيزها. فرصة كبيرة
لم تستَغل، ولن تعود أبدا. وسيجيء قريبا اليوم الذي لن يحسدها فيه أحد علي
مصيرها، ولن يتمني أحد أن يكون في مكانها.
ماذا يتبقي أمامها سوي تغيير
مادة التخصص؟ خطوة قاسية للعازف الممتاز الذي يجد نفسه فجأة وسط جماعات
المبتدئين، والمتقدمين بلا روح. إن الكونسرفتوار والمدارس الموسيقية، وأيضا
المدارس الخاصة، تفتح صدرها بصبر لكل من هب ودب، لكل مَن كان مكانه
الطبيعي مقلب الزبالة، أو في أفضل الأحوال ملعب كرة القدم. ما زال شبان
كثيرون يندفعون إلي طريق الفن، وكما كان الحال في الأزمنة الغابرة، أغلبهم
يدفعون دفعا من والديهم، لأن الوالدين لا يفقهون في الفن شيئا، ولا يعرفون
سوي بوجود شيء اسمه الفن. ومن أجل ذلك يشعرون بالسعادة الكبيرة! لكن الفن
يلفظ كثيرين، فالحدود لا بد منها. علي مر سنوات عملها في التدريس الموسيقي
كانت إريكا تهوي أن ترسم الحدود بين الموهوبين وغير الموهوبين، الفرز
يعوضها عن أشياء كثيرة: ألم تستبعد هي يوما مثل كبش بين الحملان؟ إن تلاميذ
إريكا وتلميذاتها خليط فظيع من كل الأنواع الممكنة. لم يخبرهم أحد من قبل
بحدود قدراتهم، ولا حتى علي سبيل التلميح. نادرا ما تكون بينهم وردة حمراء.
من بعضهم تنتزع إريكا في السنة الدراسية الأولي بنجاح تام سوناتا قصيرة
مبسطة للموسيقار كلمنتي، بينما يظل آخرون يحاولون بمشقة بالغة عزف الجمل
الموسيقية الأولي في مقطوعات تشيرني، ثم يفصلون بعد امتحان الفترة الأولي،
لأنهم لا يميزون بين السلم الموسيقي وسلم البيت، بينما يعتقد الوالدين
اعتقادا راسخا أن أبناءهم سيأكلون الشهد قريبا.

المتقدمون في الدارسة، الماهرون في العزف والمجتهدون هم بهجة إريكا، وإن
كانت بهجة تعكرها بها الشوائب. من هؤلاء تنتزع سوناتات شوبرت وشومان
وبيتهوفن، تلك الذرا الموسيقية في حياة تلميذ البيانو. آلة العمل، بيانو
ماركة بوزندورفر، تقوم بفرز مختلف أنواع الأقمشة: وبجانبها بيانو المعلمة،
بوزندورفر أيضا، الذي لا تعزف عليه سوي إريكا، إلا في حالة التدرب علي
مقطوعة لآلتي بيانو.

بعد ثلاث سنوات يجب علي تلميذ البيانو أن ينتقل إلي المرحلة الأعلى:
ولهذا الغرض عليه أن ينجح في امتحان النقل. معظم الشغل في هذا الامتحان
يلقي على كاهل إريكا التي تجد نفسها مجبرة علي الضغط علي دواسة البنزين
بقوة، كي تزداد سرعة محرك التلاميذ البطيء. في بعض الأحيان لا يستجيب
التلميذ الاستجابة التي تتوقعها المعلمة، لأنه يفضل أن يفعل شيئا آخر
تماما، شيئا ليس له علاقة بالموسيقي، إلا لو اعتبرنا الكلمات التي يسر بها
في أذن الفتيات نغما موسيقيا. لا تحب إريكا أن تري أشياء كهذه، وتمنع
حدوثها ما استطاعت إلي ذلك سبيلا. كثيرا ما تعظ إريكا تلاميذها قبل
الامتحان، وتقول لهم إن ارتكاب الخطأ في العزف أقل ضررا من عزف المقطوعة
كلها عزفا بعيدا عن روح العمل: لكنها تعظ آذانا صماء سدها الخوف. بالنسبة
لكثيرين من تلاميذها فإن الموسيقي هي سلم الارتقاء من حضيض طبقة العمال إلي
ذرا الإبداع الفني الطاهر. فيما بعد سيعملون أيضا مدرسين ومدرسات للبيانو.
يخشون أن تنزلق أصابعهم الوجلة العرقانة إلي المكان الخاطئ علي البيانو
أثناء الامتحان. تستطيع إريكا أن تتحدث عن تفسير العمل الموسيقي كما يحلو
لها، ولكن هم كل تلاميذها سيظل العزف الصحيح حتى نهاية المقطوعة.

ببهجة تتجه أفكار إريكا إلي السيد فالتر كلمر، الشاب الأشقر الوسيم. في
الفترة الأخيرة هو أول من يأتي في الصباح الباكر، وآخر من ينصرف في المساء.
لا بد من أن تعترف إريكا أنه شبل مجتهد. طالب هندسة، يدرس التيار
الكهربائي ومميزاته الخيرية. في الآونة الأخيرة ينتظر انصراف التلاميذ
كلهم، ابتداء من الذين يمرنون أصابعهم بوجل لأول مرة، وحتى الخبطة النهائية
في ¢فانتازيا¢ شومان رقم 49 من مقام فا صغير. يبدو أن لديه وقتا كثيرا
فائضا عن حاجته، وهو شيء غير محتمل بالنسبة إلي طالب في المرحلة النهائية
من دراسته. ذات يوم سألته إريكا، أليس من الأفضل أن يتدرب علي أعمال
شونبرج، بدلا من أن يجلس هكذا عاطلا؟ أليس لديه شيء يستذكره؟ لا محاضرات،
ولا تمارين، لا شيء؟ تسمع كلاما عن إجازة دراسية، لم تكن في حسبانها، رغم
عملها في التدريس. فترات الإجازة في معاهد البيانو تختلف عن الإجازات في
الجامعة: وإذا أخذنا الأمور علي نحو صارم: ليس هناك إجازة من الفن، إنه
يطارد الفنان في كل مكان، وهو شيء لا يمكن إلا أن يتفق مع طموحه.

تتعجب إريكا: لماذا تواظب علي المجئ مبكرا هكذا، يا سيد كلمر؟ إن مَن
يدرس أعمال شونبرج اللانغمية، مِن المستحيل أن يعجَب بالأغاني التقليدية.
لماذا تنصت إلي ذلك إذن؟ كلمر المجتهد يكذب ويقول إن المرء بإمكانه أن
يستفيد من كل شيء وفي كل مكان، حتى لو كانت الاستفادة هينة. المرء يتعلم من
كل شيء، يقول هذا الغشاش الذي لا يعرف كيف يقضي وقته علي نحو أفضل. إنه
يدعي القدرة علي التعلم من أصغر أخوته وأقلهم شأنا، طالما أن المرء يتحلي
بالفضول. ولكن علي المرء أن يتخطي ذلك بسرعة حتى يواصل التقدم. وعلي
التلميذ ألا يظل محصورا في القليل والهين، وإلا تدخل معلموه.

بالإضافة إلي ذلك، فإن الشاب يحب الإصغاء إلي معلمته عندما تعزف شيئا،
حتى لو كانت أغاني ساذجة، مكتوبة وفق السلم الموسيقي التقليدي. تقول إريكا،
لا تجامل معلمة البيانو العجوز يا سيد كلمر، الذي يجيب قائلا: لا تقولي
¢عجوز¢، كما أن "المجاملة¢ ليست الكلمة الصحيحة، لأن ما أقوله هو قناعتي
الكاملة والصادقة والأصيلة! في بعض الأحيان يلتمس هذا الشاب الوسيم، شديد
الطموح، أن يسمح له بعزف مقطوعة أخري ليست في المنهج. يتطلع إلي معلمته
بترقب، وينتظر أن تومئ بالموافقة. يتربص بإشارة من أصبع. المعلمة، فوق صهوة
جوادها العالية، تقلل من حماس الشاب، وتقول له بسخرية لاذعة إنه لم يصل
بعد إلي إتقان أعمال شونبرج كما يتخيل. كم يود التلميذ أن يسلم عنان نفسه
إلي مثل هذه المعلمة، حتى لو نظرت إليه باستهانة، وهي تقبض بحسم علي لجامه.


يبدو لي أن هذا الشاب اللطيف واقع في حبك، تفح الأم بمزاج سيء عندما
أتت إلي الكونسرفتوار، حتى تقوم السيدتان بتمشية في وسط المدينة، يتأبطان
فيها ذراع بعضهما ويتشابكان تشابكا معقدا. الطقس يتلاءم مع التمشية، تقول
السيدتان. في نوافذ العرض أشياء كثيرة تستحق الفرجة، وهي أشياء غير مسموح
لإريكا أن تتفرج عليها تحت أي ظرف من الظروف، ولهذا جاءت الأم لاصطحابها.
أحذية أنيقة، شنط، قبعات، حلي. تشتت الأم انتباه إريكا، وتقودها إلي طرق
بعيدة عن المحلات، ثم تختلق أنهما يأخذان هذا الطريق البعيد لأن الجو جميل.
الزهور يانعة في كل مكان في الحدائق، خصوصا الورد والتيوليب: هي أيضا لم
تشتر ثيابها. تتحدث الأم مع إريكا عن الجمال الطبيعي الذي لا يحتاج إلي
زينة اصطناعية. الزهور جميلة بطبيعتها، يا إريكا، وأنت أيضا. فلماذا إذن
الزخرفة والبهرجة؟

ها هو الحي الثامن المتواضع الأليف يلوح في الأفق، في الحظيرة لم يجف
الدريس بعد. تتنفس الأم الصعداء، وتسحب الابنة مارة بالبوتيكات، وصولا إلي
شارع ¢يوزف شتيتر¢. تشعر الأم بالسعادة لأن التمشية لم تكلف هذه المرة أيضا
غير نعل حذائها. نعل بال خير من أن يضحك بائع علي السيدتين كوهوت.
هذا
الحي السكني، بالنظر إلي سكانه، قد بدأ يشيخ. وبصورة خاصة نساء عجائز. لحسن
الحظ استطاعت هذه السيدة العجوز، والدة كوهوت، أن تقتنص لها تابعة شابة،
تستطيع الأم أن تفخر بها: تابعة ستعتني بها إلي أن يفرق الموت بينهما. لن
يفصل بين الاثنتين إلا الموت. علي ملصق حقيبة إريكا مكتوب ¢الموت¢ كميناء
وصول. يحدث أحيانا أن يشهد هذا الحي سلسلة من جرائم القتل، ويلقي عدد من
¢النسوان¢ العجائز حتفهن في جحر الثعلب الذي يقطنونه، والمكدس حتى آخره
بالأوراق القديمة. لا يعلم إلا الله أين وضعن دفاتر التوفير. القاتل الجبان
يعلم أيضا، لأنه نظر تحت الحشية. الحلي، القليل، اختفي أيضا. والابن
الوحيد، مندوب شركة لأدوات المائدة، لا يرث شيئا. الحي الإداري الثامن في
مدينة فيينا حي محبب لدي القتلة. ليس من العسير أبدا الاهتداء إلي مسكن هذه
السيدة العجوز. في واقع الأمر تسكن في كل بيت علي الأقل أم عجوز مثل هذه،
تستهزئ ببقية الساكنين وتفتح باب البيت دون أدني ممانعة لمحصل شركة الغاز
الذي يكذب ويقدم نفسه علي أنه موظف حكومي. كثيرا ما وجه إليهن التحذير،
ولكنهن ما زلن يفتحن قلوبهن وأبوابهن، لأنهن يشعرن بالوحدة. هكذا تتحدث
السيدة كوهوت مع الآنسة كوهوت، كي تردعها عن ترك أمها وحيدة في يوم من
الأيام.
غير ذلك لا يسكن الحي سوي موظفين حكوميين صغار، ومستخدمين
هادئين في شركات خاصة. الأطفال قلائل. أشجار الكستناء تزهر، وفي مدينة
الملاهي ¢البراتر¢ تورق الأشجار من جديد. في الغابة الفيناوية اخضرت
الكروم. ولكن علي آل كوهوت أن تصرفا النظر عن كل أحلامهم بالتجول في الغابة
والتفرج علي أشجارها، فهما لا تملكان سيارة.

غير أنهما كثيرا ما تركبان الترام إلي محطة اختاراها بعناية في نهاية
الخط، حيث تنزلان مع كل الركاب الآخرين، وتبدأن التجول. الأم وابنتها
تحملان مخلاة المأكولات، وكأنهما تمثلان في فيلم من أفلام الرعب أو من
الرجال المتنكرين علي شكل نساء. هذا معناه أن الابنة تحمل مخلاة، وفيها
تحفظ أيضا زاد الأم القليل، وتخفيه عن أعين الفضوليين. تلبسان صنادل متينة.
ولا تنسيان كما ينصح دليل التجول السترات الواقية من المطر. الاحتياط خير
من الإحباط. السيدتان تتقدمان بهمة ونشاط. لا تدندنان بأغنية، لأنهما _
وهما خبيرتان بعض الشيء بالموسيقي _ لا تريدان الإساءة إلي الموسيقي
بغنائهما. كما في عصر الكاتب أيشندورف، تدندن الأم، لأن المهم هو الروح، هو
الموقف من الطبيعة! ليست الطبيعة هي المهمة. هذه الروح لدي السيدتين.
حيثما توجد الطبيعة، ينشرح قلبهما. إذا صادفهما غدير رقراق، تشربان من مائه
علي الفور. عسي ألا تكون غزالة تبولت فيه. أما إذا صادفهما جذع شجرة ضخم
أو فروع كثيفة منخفضة، فبإمكان إحداهما عندئذ أن تتبول، علي أن تحرس الأخرى
المكان حتى لا يأتي عابر وينظر بوقاحة.

بهذا النشاط تعيد السيدتان كوهوت شحن بطاريتهما، استعدادا لأسبوع عمل
جديد، تعمل الأم أثناءه قليلا، في حين يمص التلاميذ دم الابنة. هل سمحتي
لهم بأن يخرجوك عن طورك؟ تسأل الأم العازفةَ المجهولة العبقرية إريكا في كل
مساء. لا، ماشي الحال، تجيب الابنة التي ما زالت تشعر بالأمل، الذي تقطف
الأم أوراقه علي مهل. تشكو الأم من نقص الطموح لدي الطفلة.
الطفلة تسمع
هذه النغمة النشاز منذ أكثر من ثلاثين عاما. الابنة، التي تتظاهر بالأمل،
تعرف أن كل ما تنتظره، لن يزيد عن لقب ¢البروفيسور¢ وهي تستخدمه من الآن
الذي سيمنحه لها رئيس الدولة. في احتفال بسيط تقديرا لخدماتها الطويلة. وفي
يوم ما، لم يعد يبعد كثيرا، سيأتي التقاعد. بلدية فيينا تتميز بالسخاء،
ولكن التقاعد يصيب الموظفين الفنانين كالبرق. إنه يصيب، من يصيب. بلدية
فيينا تنهي على نحو متوحش عملية إيصال الفن من جيل إلي جيل. كلا السيدتين
تقولان إنهما تنتظران بفارغ الصبر تقاعد إريكا! أعدا خططا كثيرة لهذا
اليوم. حتى ذلك الحين ستكون الشقة التمليك قد أجثت وفرشت عن آخرها، ودفعت
كل أقساطها. وستقتنيان قطعة أرض أخري في النمسا السفلي، حيث يمكنهما
البناء. بيت صغير، للسيدتين كوهوت وحدهما. من يخطط، يكسب. والقرش الأبيض،
ينفع في اليوم الأسود. ستبلغ الأم عندئذ المائة، وستكون بالتأكيد ما زالت
تتمتع بالصحة والعافية.

تتأجج ألوان الغابة الفيناوية في المنحدر تحت أشعة الشمس الساطعة. هنا
وهناك تجرؤ زهور الربيع علي الظهور، لكنها سرعان ما تقطف وتختفي في الكيس
الذي تحمله الأم وابنتها. عن حق يحدث لها ذلك. لابد مِن معاقبة حب
الاستطلاع، هذا هو مبدأ الابنة كوهوت، وعنه تدافع. هذه الزهور الصغيرة
تتوائم تماما مع الزهرية الكروية الشكل، ذات اللون الأخضر الفاتح، أليس
كذلك يا إريكا؟

تعيش المراهِقة في محمية طبيعية يحرٌم فيها الصيد طوال العام. تحمَي من
التأثيرات الغريبة، وتبعَد عن الإغراءات. لا تتمتع بالحماية في أوقات
العمل، بل فقط في أوقات المتعة. عند قدميها تقف الأم ومعها الجدة، كتيبة
نسائية، وتشهران السلاح لحماية المراهقة من الصياد الذكر الذي يتربص بها،
وفي حالة الضرورة تستخدم القوة لتحذير الصياد. بأعضائهن التناسلية الضامرة
اليابسة تنطرح كلا المرأتين المسنتين أرضا أمام أي رجل حتى لا يعتدي علي
عنزتهما الصغيرة. لا يجب أن يمس الحيوان الصغير سوء من جراء أشياء كالحب أو
اللذة. الشفران المتصلبان لدي العجوزين يصلصلان أثناء انغلاقهما مثل كماشة
جعران محتضر، لكنهما لا يقبضان علي فريسة. لذا تتشبثان بلحم الابنة
والحفيدة البض، وتقطعانه علي مهل إربا إربا، بينما تدافعان بدروعهما عن
الدماء الشابة كيلا يأتي حيوان آخر ويسممها. للأم والجدة بصاصات منتشرات في
محيط واسع، يتجسسن علي سلوك الأنثى الشابة خارج البيت: ثم في البيت، أمام
أولياء الأمر من النساء ومع فنجان قهوة، يستفضن في الكلام. يحكين كل شيء،
ومع الكلام يأكلن الجاتوه البيتي. عندئذ تقول المستطلعات ما رأته عند
الخزان القديم: الطفلة الغالية مع طالب من جراتس! لن يسمح للطفلة بعد اليوم
بالخروج من الغلاف المنزلي إلي أن تتوب وتعلن ندمها، وتقلع عن هذا الرجل.

البيت الريفي يطل علي وادي، تسكن فيه الجاسوسات اللائي تعودن أن ينظرن
في المنظار المكبر. عندما يصل أهل العاصمة إلي هذه المنطقة أخيرا، لأن
الصيف قد حل، فإنهن يتوقفن عن الاهتمام بشؤونهن الخاصة، ويهملن تدبير أمور
البيت.

بين المروج يسري خرير ماء الغدير. دون تمهيد تقطع شجيرات البندق طريق
الغدير، وتنهي مساره بالنسبة للرائي، أما فيما وراء الشجيرات فإن الغدير
ينساب دون أن يراه أحد وسط مروج الفلاحين الجيران. إلي يسار المنزل يصعد تل
معشوشب إلي الأعالي، وينتهي إلي غابة لا يملك المرء إلا جزءا منها،
والبقية ملك للدولة. حول المنزل تضٌيق الغابات الصنوبرية مجال الرؤية، ولكن
المرء يري بدقة ما يفعله الجار، وهذا يري أيضا ما يفعله المرء. البقر يسير
في طريقه إلي الكلأ. وفي الخلف، إلي اليسار، كومة من الحطب المعد للتفحيم،
ثم إلي اليمين مشتل فراولة. في الأفق سحاب، طيور، وصقور ونسور أيضا.

الصقر ماما، والنسر تيتة يمنعان الطفلة المعهود أمرها إليهما من مغادرة
الوكر. يستأصلان من بدنها الحياة. يقطعان شرائح سميكة، والجارات تقمن بجهد
مشكور في عملية تقطيع شرفية. كل شريحة تنبض فيها الحياة، تستبعد علي الفور
باعتبارها تالفة عفنة. التمشية والتفرج علي المحلات، تعوق الدراسة وتضر
بالعازفات. في الوادي، عند الخزان، يقف الشبان ويتحادثون، تشعر بنفسها
منجذبة إلي هناك. إنهم يقهقون ويتبادلون المزاح. هناك يمكن أن تبهر أولاد
الفلاحين. لقد تدربت علي إبهار الآخرين. تعلمت أنها الشمس التي يدور حولها
كل شيء: ليس عليها سوي الوقوف ساكنة، وستسرع الأقمار في الحج إليها، وتقديم
فروض الولاء والطاعة. إنها تعلم: هي الأفضل، لأنهم يقولون لها ذلك دوما.
ومن الأفضل ألا يختبر المرء صحة ما يقال.
رغما عنها تَدفع الكمان الآن إلي الذقن، وتَمسك بها بذراع ممتعضة كارهة.
ثغر
الشمس يفتر في الخارج عن ابتسامة عريضة تغري بالسباحة. الشمس تغري المرء
بخلع ثيابه أمام الآخرين، وهو ما تحظره العجوزتان في المنزل حظرا تاما.
تشعر بالألم يسري في الأصابع اليسرى التي تضغط علي الأوتار المصنوعة من
الصلب في عنق الكمان. روح موتسارت المعذبة تهرب من جوف الآلة متأوهة محشرجة
الأنفس. روح موتسارت تصرخ من الجحيم، لأن العازفة لا تشعر بشيء مما تعزفه،
لكنها مجبرة علي استخراج النغمات دون توقف.
تهرب النغمات من الآلة وهي
تزمجر وتدمدم. ليس علي العازفة أن تخشي النقد، المهم أن تعلو نغمات، أي
نغمات، فهذا هو الدليل علي أن الطفلة صعدت السلم الموسيقي، ووصلت إلي أجواء
عليا، وأن الجسد بقي في الأسفل غلافا ميتا. القشرة التي تخلعها الابنة عن
جسدها تفحص بعناية بحثا عن آثار ذكرية، ثم تنفض نفضا قويا. بعد العزف
يمكنها أن ترتديها نظيفة طاهرة، جافة ومنشاة. جامدة، لم ينتهك أحد ملمسها.

الأم ترمي ابنتها بملاحظة لاذعة. إنها، إذا تركت لحالها، ستظهر حماسا
بالغا لشاب أكثر مما تفعل في عزف البيانو. لا بد من ضبط أوتار هذا البيانو
كل عام، لأنها تفقد انضباطها الرائع في هذا الطقس الفظيع السائد في جبال
الألب.
الذي يضبط البيانو يأتي بالقطار من فيينا، ويصعد الجبل لاهثا
ليضبط آلات وضعها أصحابها في بيت علي ارتفاع ألف متر فوق سطح البحر. يتنبأ
الرجل أن هذا البيانو لم يتبق له علي قيد الحياة أكثر من عام أو عامين،
عندئذ سيكون الصدأ والعفونة والفطريات في النادي الموسيقي قد التهمته
بتؤدة. تبذل الأم جهدها للحفاظ علي أوتار الآلة في حالة جيدة، كما أنها لا
تتوقف عن ضبط فقرات الطفلة، ليس اهتماما بمزاج الطفلة، بل بتأثير الأم علي
هذه الآلة الحية العنيدة التي تستجيب بسرعة للمؤثرات الخارجية.

تصر الأم علي فتح النوافذ علي مصراعيها أثناء ما تسميه ب¢الحفلة¢، أي
أثناء تلك المكافآت الحلوة التي تحصل عليها الابنة لقاء المواظبة علي
التمرين، وذلك حتى تشنف هذه النغمات الحلوة مسامع الجيران أيضا. الأم
والجدة تقفان، مسلحتين بالمنظار المكبر، علي القمة، لتريا ما إذا كانت
الفلاحة الجارة وأقاربها يجلسون هادئين منضبطين علي الدكة أمام كوخهم،
وينصتون باهتمام. تريد الجارة أن تبيع لهما الحليب والزبادي والزبد والبيض
والخضروات، ولذلك لا بد عليها من الإنصات أمام البيت. الجدة تمتدح الجارةَ
العجوز لأن لديها من فراغ البال ما يسمح لها بأن تضع يديها في حجرها، وتصغي
إلي النغم المنساب. طيلة حياتها وهي تنتظر هذه اللحظة. الآن، بعد أن طعنت
في السن، وصلت إلي مرادها. لقد اتحفتنا الطفلة مرة أخري.
المصطافون
أيضا، يبدو أنهم يجلسون ويصيخون السمع إلي برامز. منشرحة الصدر تقول الأم
إنهم يحصلون علي موسيقي أصيلة طازجة، تورد إليهم مع الحليب الدافئ المضمونة
طزاجته. اليوم ستقدَم للفلاحة وضيوفها مقطوعات شوبان التي زرعت حديثا في
الطفلة. تنبه الأم الطفلةَ بوجوب العزف العالي، فالجارة سمعها ثقيل، وعما
قريب ستمسي صماء. يستمع الجيران إذن إلي نغمة جديدة لم يكونوا يعرفونها من
قبل. سيسمح لهم فيما بعد بالاستماع إليها مرارا وتكرارا حتى يحفظوها عن ظهر
قلب. سنفتح الباب أيضا حتى يسمعوا بشكل أفضل. السيل القذر من الموسيقي
الكلاسيكية ينهمر من كافة فتحات المنزل، ويكتسح المنحدرات وصولا إلي
الوادي. سيشعر الجيران وكأنهم يقفون بجانب البيانو. ليس عليهم إلا أن
يفتحوا الفم، وسينساب شوبان المحلوب لتوه في جوفهم. فيما بعد برامز،
موسيقار المحبطين، لا سيما من النساء.

تستجمع لبرهة كل قواها، وتشد أوتار البيانو، ثم تندفع فجأة إلي الأمام
في اتجاه أصابع البيانو التي تقترب منها في سرعة مريعة، مثل اقتراب الأرض
من طائرة تسقط. النغمة التي لا تتصيدها منذ أول ضربة، تتركها وتنتقل إلي
غيرها. بهذا تنتقم من معذبيها الجاهلين موسيقيا انتقاما لا يلحظ. المرور
علي نغمات مرور الكرام تثير لديها متعة تشبعها قليلا. لن يلحظ أي شخص غير
دارس أنها تركت نغمة، أما النغمة التي تعزف علي نحو خاطئ فإنها تجعل
المصطافين ينتفضون من كراسي الاسترخاء. ماذا ينحدر علينا من فوق؟
في كل عام يدفعون دم قلبهم للفلاحة مقابل الهدوء الريفي، والآن تصك آذانهم ألعاب موسيقية منفرة آتية من التلال!

كالحية السامة تصيخ الجدة وابنتها السمع إلي الضحية التي امتصا كل
دمائها تقريبا. تجلسان بأزيائهما التقليدية، وفوقها المريلة المشجرة.
تحافظان علي ملابسهما أكثر من حفاظهما علي مشاعر أسيرتهما. تتشمسان الآن
تحت أشعة التفاخر بالطفلة التي بقيت علي تواضعها رغم أنها حققت صيتا ذاع في
العالم كله. مؤقتا سوف تعزل الطفلة والحفيدة عن العالم، وفي المستقبل لن
تصبح ملكا للأم والجدة وحدهما، بل للعالم أسره. توصيان العالم بالصبر،
لاحقا سيعهد إليه بأمر الطفلة.

انظري، عدد كبير من الجمهور يستمع إليك اليوم ثانية! انظري، علي الأقل
سبعة أشخاص يجلسون علي كراسيهم الخيزرانية الملونة. إنه اختبار لإثبات
قدارتك. ولكن مع انتهاء مقطوعة برامز أي رد فعل يصافح آذانهما؟ تنفجر نوبة
من القهقهات المجلة من حلوق أولئك المصطافين في الأسفل: ياله من صدي فظ
للعزف السابق! علي أي شيء يضحكون هكذا بلا سبب؟ ألا يحترمون الآخرين؟ الأم
وابنتها تخطوان متسلحتين بوعاء الحليب، وتهبطان إلي الوادي لشن حملة ثأرية
باسم برامز. بسبب الضحك. عند هذه المناسبة يشتكي المصطافون من الضوضاء التي
أخلت بهدوء الطبيعة. ترد الأم بحدة سكين أن في سوناتات شوبرت قدرا من سلام
الغابة يفوق ما يسود في الغابة نفسها، لكنهم لا يفقهون. بأنفة وتعالي تصعد
الأم مرة أخري الجبل الموحش، ومعها الزبدة الفلاحية وفلذة كبدها. بكبرياء
تسير الابنة حاملة وعاء الحليب. لن تظهرا علي الملأ إلا مع مقدم المساء
التالي. المصطافون سيتحدثون طويلا عن هوايتهم: شرب العرق الفلاحي.

تشعر بأن أبواب الجميع موصدة في وجهها، لأن أبواب الجميع موصدة في
وجهها. البعض يواصل السير، أو يقفز عليها. تبدو في طريق الجميع عائقا
صغيرا. المتجول يسير، لكنها تبقي، مثل ورقة ملقاة علي قارعة الطريق، أقصي
ما تفعله هو التمايل قليلا عند هبوب الريح. لا تبتعد الورقة كثيرا، إنها
تتعفن في مكانها وتتحلل. التحلل يستغرق سنوات، سنوات من الملل.
دفعا
للملل حضر ابن خالها لزيارتهم، فملأ البيت بحيويته الفياضة. ليس هذا فحسب،
إنه يحضر معه حياة أخري، حياة غريبة يجتذبها إليه، مثلما يجتذب النور
الفراشة. يدرس ابن الخال الطب. إنه يخرج الشباب القروي من جحوره، مستخدما
وسائل مثل التفاخر بنشاطاته وبمعلوماته الرياضية. يحكي النكات الطبية إذا
كان راغبا في ذلك. يطلقون عليه ¢الجدع¢، لأنه شاب شهم خفيف الدم. إنه يبرز
مثل صخرة وسط الشباب القروي الصاخب الذي يحيط به والذي يبغي تقليده في كل
شيء. علي حين غرة تعود الحياة إلي البيت، لأن الرجل يأتي دوما بالحياة إلي
البيت. بابتسامة متسامحة، وبفخر عظيم تتطلع نساء البيت إلي الشاب الذي يجري
وراء رغباته وشهواته. إنهن فقط يحذرنه من الأفاعي الأنثوية التي يمنين
أنفسهن بالزواج اللاحق. هذا الشاب يعشق الجري وراء رغباته علي مرآي من
الجميع، إنه في حاجة إلي جمهور، ويحصل عليه أيضا. حتى أمها الصارمة تبتسم.
فالرجل سيجد نفسه فيما بعد يلاطم بحر الحياة العدواني، أما الابنة فعليها
أن تطمح في مغالبة أمواج الموسيقي.
يحب الجدع أن يلبس مايوها مختصرا
للغاية، ويفضل _ فيما يخص الفتيات _ البكيني المختصر بشدة الذي دخل حديثا
موضة العصر. مع أصدقائه يحدد بالسنتيمترات المساحة التي تعرضها عليه
الفتاة، ويسخر من تلك التي لا تفعل ذلك. يلعب الجدع كرة الريشة مع بنات
القرية. يبذل قصارى جهده كي يدرب الفتيات علي هذه الرياضة التي تتطلب في
المقام الأول تركيزا عاليا. بسرور يمسك بمعصم البنت ليريها كيف تستخدم
المضرب، بينما تذوب البنت خجلا في البكيني المختصر. لقد ادخرت البائعة ثمن
البكيني من راتبها. ترغب الفتاة في الزواج من طبيب، وتظهر ما لديها حتى
يعرف الطبيب ما سيحصل عليه. ليس بحاجة إلي أن يشتري السمك في الماء. عضو
الجدع محشور حشرا في كيس ضئيل الحجم، مربوط طرفاه برباطين من الجانب، يمران
بخصره ويكونان فيونكة، يسارا ويمينا. لكن الفيونكة ليست مربوطة جيدا، لأن
الجدع لا يأخذ هذه الأمور علي محمل الجد. في بعض الأحيان ينفك الرباط، فيجد
نفسه مضطرا إلي ربط الفيونكة من جديد. إنه ميني مايوه.

أحب الأشياء إلي قلب هذا الشاب هو استعراضه لأحدث فنون القتال، هنا علي
الجبل حيث يعرف أنه سيحصد إعجاب جمهوره. إنه يتقن أيضا بعض حركات الجودو
المعقدة. كثيرا ما يعرض حركة فنية جديدة. هذه الحركة لا يمكن أن يقاومها
الشخص العادي الذي لا يعرف شيئا في هذه الرياضة، لذا فإنه يسقط سريعا علي
الأرض. ضحكات عالية تتدافع من الأفواه، والساقط علي الأرض يضحك بأريحية
معهم حتى لا يصبح هدفا للسخرية. تتحلق الفتيات حول الجدع مثل الثمار
الناضجة الواقعة من الشجرة. لا يحتاج سوي إلي التقاطها والتهامها، هذا
الرياضي الشاب. تتعالي ضحكات البنات اللاتي يراقبن بعضهن رقابة دقيقة
بزاوية العين، ويحاولن لفت أنظار الشاب. يهبطن التلال وهن يكركرن، يقفزن في
الحصى أو في الحسك، ويضحكن. الشاب يقف في ربوة عالية شاعرا بالانتصار.
يستقبل الفتاة التي تعترض طريقه، ويمسك بمعصمها، ثم يضغط ويضغط. يستخدم
طريقة سرية تولد تأثيرا كالرافعة، لا يعرف المرء كيف يفعل ذلك، ولكن ¢فتاة
التجارب¢ تجد نفسها مجبرة بفعل قوته المتفوقة وحيلته الحقيرة علي الركوع
أمام قدمي الجدع. يسحبها نصف سحبة، فتسقط نصف سقطة. من يستطيع مقاومة
الطالب الشاب؟ إذا كان رائق المزاج، فإنه يسمح للفتاة التي تحبو أمامه علي
الأرض بأن تقبل قدميه، وإلا فلن يتركها. تقبل الفتاة القدمين، وتأمل الضحية
المطيعة في الحصول علي قبلات أخري، أحلي وأشهى، لأنها ستكون سرية، تمنح
وتؤخذ.

ضوء الشمس يلعب مع الرؤوس التي ترفع المياه المتلألئة من حوض الاستحمام
الصغير. هي تتمرن علي البيانو، وتتجاهل الضحكات المغناجة التي تتصاعد علي
دفعات. ناشدتها أمها، وشددت عليها النصح بألا تعير بالا إلي ما يحدث. تقف
الأم علي درجات الفراندا وتضحك، تضحك ممسكة بطبق به مخبوزات. تقول الأم أن
الإنسان لا يعيش شبابه إلا مرة واحدة، ولكن، لا أحد يفهمها بسبب الضجيج.

بأذن واحدة لا تنقطع لحظة عن متابعة الضوضاء في الخارج التي يصنعها ابن
خالها مع البنات. تنصت إليه وهو يقضم الزمن بأسنانه السليمة، ثم وهو يلتهمه
بشهية. أما هي فكل ثانية تعبر، تزيد وعيها بالزمن، وتسبب لها مزيدا من
الألم. في رتابة الساعة تضرب أصابعها علي البيانو. القضبان الحديدية تسد
نوافذ الحجرة التي تتدرب فيها. ظلال القضبان كالصليب الذي يشهَر أمام الهرج
والمرج في الخارج، وكأنه يحول دون دخول مصاص دماء.
الشاب يقفز الآن إلي
حوض الاستحمام ليهنأ بتبريد جسده الفائر. امتلأ الحوض لتوه بالمياه
المنعشة، مياه جوفية في برودة الثلج، الشجاع وحده _ طوباه، لأن له هذا
العالم _ يجرؤ علي السباحة فيها. بافتخار ومرح يطفو الجدع علي سطح المياه
وكأنه حوت. إنها تلاحظ ذلك، دون أن تراه. مع صيحات ¢برافو¢ تقذف الصديقات
الجدد للطبيب اللاحق بأنفسهن، وينضممن إليه، إلي أن يمتلئ الحوض. ياله من
زحام، وياله من رذاذ! إنهم يقلدون الجدع في كل شيء، تقول الأم ضاحكة. تغض
الطرف عما يحدث. أيضا تيتة العجوز، التي تتقاسمها إريكا مع ابن الخال، تسرع
في المجيء لتتفرج علي شيطنة الطلبة. تيتة الهرمة تنال نصيبها من الرذاذ
أيضا لأن الجدع لا يحترم أحدا أو شيئا، ولا حتى السن. ومع ذلك تضحكان لما
يفعله الحفيد الذكر المفعم بالحياة. تنتقد الأم الجدع لأنه لم يبرد فجم
المعدة ببطء قبل النزول إلي الماء، لكنها تضحك في نهاية الأمر _ رغما عنها
أشد من الآخرين، ترتج ارتجاجا، وتكاد من شدة الضحك ترتجف، عندما قام الجدع
بتقليد كلب البحر تقليدا يفوق الحقيقة. ترتجف الأم وتنتفض، وكأن شخصا يحرك
كريات زجاجية في داخلها. يبالغ الجدع ويقذف كرة قديمة في الهواء، ثم
يلتقطها بأنفه، ولكن حتى البهلوانية تحتاج إلي تمرين. ينفجرون جميعا في
الضحك، يهزهم الضحك حتى يكادوا يقعون، وتسيل دموعهم. يعلو صوت أحدهم
بالغناء علي طريقة أهل الجبال، ويطلق آخر صيحة تهليل. بعد قليل سيتناولون
طعام الغداء. من الأفضل للصحة تبريد الجسم قبل الأكل، وليس بعده.

البيانو يلفظ آخر أنغامه التي تتبدد في الجو، أربطة يديها تسترخي،
المنبه _ الذي ضبطته الأم بنفسها لتحديد وقت البروفة _ يرن. تقفز إريكا في
منتصف النغمة وتعدو بمشاعر شبابية ملتبسة، حتى تحضر البقية الباقية من
الغناء والرقص. ابنة العمة تستقَبل في الخارج الاستقبال اللائق بها. مرة
أخري كان لا بد عليك أن تقضي كل هذا الوقت في التمرين؟ علي الأم أن تتركها
في حالها، فنحن في إجازة. لا تسمح الأم بأي تأثير سيئ علي طفلتها. الجدع،
الذي لا يدخن ولا يشرب، يقضم بأسنانه قطعة خبز وعليها سجق. رغم أن الطعام
سيكون جاهزا بعد قليل، لا تستطيع ربات البيت أن يمنعن ضيفهم العزيز من
تناول قطعة خبز. ثم يتناول الجدع زجاجة شربات توت _ قطفن ثماره بأيدهن _
ويسكب منه بسخاء في كوب كبير يسع نصف لتر، ثم يملأه من ماء النبع، ويفرغه
في جوفه. لقد استمد الآن طاقة جديدة. مستمتعا يمسح الآن براحة يده علي بطنه
ذي العضلات القوية. يمسح أيضا علي عضلات أخري.
تستطيع الأم والجدة التناقش لساعات عن الشهية المباركة للجدع
.
وتتنافسان في تبادل المعلومات التفصيلية المبتكرة حول التغذية، وتتشاجران
طوال اليوم حول الأطعمة المفضلة للجدع. هل يفضل البفتيك من لحم الخنزير أم
من اللحم البقري؟ الأم تسأل ابن الخال عن تقدمه في الدراسة، وابن الخال
يجيب بأنه يود أن ينسي الدراسة لبرهة من الزمن. يريد أولا أن يعيش شبابه
ويستمتع به. وسيجيء اليوم الذي يقول فيه إن فترة شبابه قد ولت وانقضت.

ينظر الجدع في عينيها، وينصحها بأن تضحك قليلا. لماذا هي جادة هكذا؟
ينصحها
بممارسة الرياضة، لأنها تتيح فرصة للضحك، وتترك عموما أثرا إيجابيا علي
الإنسان. الفرحة الرياضية تدفع ابن الخال إلي القهقهة، إلي درجة أن أشلاء
السجق والخبز تطير من حلقة المفتوح عن اتساعه. يتأوه بهجة. ثم يتمطى
مستعرضا جسده المفتول. يدور حول نفسه مثل النحلة، ثم يلقي بنفسه علي المرج،
وكأنه ميت. ولكنه سرعان ما يقفز ثانية، لا داعي للخوف. إذ أن الوقت قد حان
الآن لتطبيق ضغطة يده المشهورة علي ابنة العمة الصغيرة التي يريد المرء
إدخال السرور إلي قلبها. ابنة العمة تسعد بالفكرة، والعمة تغضب.

كالسهم تبدأ رحلتها إلي أسفل، وداعا. سفرة بلا عودة. يهبط محورها
الطولي، وينزل المصعد إلي الأعماق، بسرعة رهيبة تمر عليها الأشجار،
الدرابزين الصغير بالورد البري عليه، وأعين الواقفين، ثم يختفي كل ذلك من
مجال رؤيتها. تجذب فجأة إلي أعلي. يتكور هيكلها العظمي، فوق رأسها تحس بشعر
صدره، الحد الفاصل يتزحزح، في مجال البصر الآن رباط المايوه الذي يحمل
الطرد وداخله خصيتاه. بإباء وشمم يظهر إثر ذلك جبل إيفريست الأحمر الصغير،
وفي لقطة مكبرة تري أسفله الشعر الطويل الأشقر علي الفخذ. وفجأة يتوقف
المصعد. الطابق الأرضي. في الخلف، في مكان ما من ظهرها، تسمع طقطة فظة من
عظامها، صرير المفاصل التي ضغطت فجأة. وها هي الآن تركع هناك، هيه! لقد نجح
الجدع مرة أخري في أخذ فتاة علي حين غرة. إنها تركع أمام ابن خالها في
الإجازة الصيفية، وأطفال الإجازة يتراصون أمام عينيها. مثل طبقة خفيفة من
الطلاء تلمع الدموع علي وجهها، تزيلها، وتضع قناعا ضاحكا يكاد يتفتق. هذا
الشقي تمكن منها، والآن يقف سعيدا للغاية بنصره. ثم تزرَع زرعا علي أرضية
المرعي الجبلي. تصيح الأم مرتاعة، كيف يعامل شباب القرية طفلتها علي هذا
النحو، هذه الابنة الموهوبة التي يعجب بها الجميع.

الطرد الأحمر الصغير المفعم بالجنس يتأرجح أمام أعينها. الطرد مِلك شاب
لا تستطيع فتاة أن تقاوم إغواءه. عليه تستند وجنتاها لبرهة قصيرة. هي نفسها
لا تعرف كيف تجرأت علي ذلك. إنها تريد أن تشعر به مرة واحدة، تريد أن تمس
بشفتيها مرة واحدة هذه الكرة اللامعة المعلقة علي شجرة عيد الميلاد. لحظة
واحدة تكون فيها هي المستقبلة لهذا الطرد. تمسح بشفتيها فوقه أم أنها فعلت
ذلك بذقنها؟ رغما عن إرادتها الحرة فعلت ذلك. لا يعرف الجدع أنه داس
بأقدامه علي فوهة بركان ابنة عمته. تنظر وتنظر. الطرد موضوع أمامها مثل
عينة تحت الميكروسكوب. فلتتريث هذه اللحظة قليلا، فما أجملها.

لم يلحظ أحد شيئا، كلهم تحلقوا حول الأطعمة. الجدع يطلق سراحها علي
الفور، ويرجع خطوة إلي الوراء. نظرا إلي الظروف لن يطلب اليوم تقبيل القدم
وهو ما ينهي في أغلب الأحوال هذا التمرين. يتحرك بمرونة ويرخي عضلاته،
مرتبكا يقفز قليلا، من الأرض إلي الهواء، ثم يسرع في الابتعاد عن المكان
بقفزات واسعة. تبتلعه المروج. السيدات تدعون الآن إلي الطعام.

طار الجدع واختفي، قفز من العش. لم يقل حرفا. عما قريب سيختفي تماما،
وسيتبعه عدد من زملائه الذكور. فليبدأ صيد الحيوانات البرية. غيابيا تصدر
الأم حكما مخففا علي الجدع المتهم بالشيطنة والاندفاع. أجهدت الأم نفسها في
الطبخ، والآن تركوها وحدها.

لا يعود الجدع إلا بعد مرور وقت طويل. الهدوء المسائي يسود المكان كله،
البلبل وحده علي الغدير. يلعبون جميعا الورق علي الفرندا. بنصف وعي ترفرف
الفراشات حول مصباح الكيروسين. أما هي فليس هناك دائرة مضيئة تجذبها. إنها
تجلس بمفردها في غرفتها، معزولة عن الجماهير التي نسيت أمرها. خفيفة الوزن
هي، خفيفة للغاية، لذا فهي لا تضغط علي أحد. من لفة صغيرة تخرج بعناية شفرة
حلاقة. تحملها دوما معها، أينما ذهبت. تضحك الشفرة في وجهها كما يضحك
العريس للعروس. بحذر تتفحص النصل.
مسنون وقاطع. ثم تضغط بالنصل عدة
مرات علي ظهر يدها، ليس عميقا حتى لا تجرح الأربطة. لا تشعر بألم إطلاقا.
المعدن يشق طريقه وكأنه ينغرز في قطعة زبدة. لبرهة تنفرج فتحة في النسيج
مثل فتحة الحصالة، وعندئذ يندفع الدم من خلف الحاجز الذي كان يلجمه بمشقة.
تجرح نفسها إجمالا في أربعة مواضع. ثم تكتفي بذلك، وإلا ستموت نزفا. تمسح
شفرة الحلاقة مرة أخري، ثم تلفها في الورق. طوال الوقت ينساب ويسيل من
الجروح دم أحمر فاتح، ويلطخ كل ما في طريقه. ينساب دافئا، مولدا شعورا
نسبيا بالراحة. سائل لا يعرف التخثر. لا يتوقف عن السيلان. يلوٌن كل شيء
بالأحمر. أربع فتحات يفور منها الدم بلا توقف. علي الأرضية وأيضا علي ملاءة
الفراش تتحد الجداول الأربعة مكونة نهرا كاسحا. "اتبع دموعي، وقريبا
سيستقبلك الجدول¢. بركة صغيرة تتكون. ما زال الدم يسيل. يسيل ويسيل ويسيل
ويسيل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

عازفة البيانو ألفريده يلنيك :: تعاليق

هذا الكتاب
رد: عازفة البيانو ألفريده يلنيك
مُساهمة الإثنين أكتوبر 24, 2011 2:42 pm من طرف هذا الكتاب
اك أيضا. كل طفل يميل بالفطرة إلي القذارة والبراز، إذا لم يمنعه
المرء عن ذلك. مبكرا قررت الأم أن تكون مهنة إريكا لها علاقة بأي شكل من
الأشكال بالفن، حتى تستطيع استحلاب المال بحسها المرهف الذي حصلت عليه بعد
مشقة بالغة، بينما يقف العاديون من الناس حولها معجبين بالفنانة ومصفقين
لها. أخيرا انتهت الأم من تشكيل إريكا الرقيقة، والآن عليها أن تدفع عربة
الموسيقي إلي الأمام، وتشرع في التفنن.

مثل هذه الفتاة لم تخلق كي تقوم بمهنة فظة، أو بعمل يدوي صعب، أو بأعمال
منزلية. لقد خلقت حتى تتقن أسرار الموسيقي والغناء والرقصات الكلاسيكية.
عازفة بيانو ذائعة الصيت في العالم كله، هذا هو حلم الأم: ولكي تجد الطفلة
طريقها حتى وسط المؤمرات والمكائد، فإن الأم تدق في كل زاوية علامات ترشدها
إلي الطريق الصحيح، تضرب بالشاكوش العلامات في الأرض، وتضرب إريكا أيضا
إذا لم تكن ترغب في التمرين. تحذر الأم إريكا من أسراب الحاسدين الذين
يحاولون دوما الشوشرة علي الناجحين، وتوضح لها أن معظمهم من الجنس الخشن.
لا تسمحي لأحد بتشتيت انتباهك! لم يسمح لإريكا بالركون إلي الراحة عند أي
درجة تبلغها، ممنوع عليها أن تستند علي القمة الجليدية لالتقاط الأنفاس.
عليها أن تواصل علي الفور. إلي الدرجة التالية. حيوانات الغابة تقترب منها
اقترابا مهددا لحياتها، الحيوانات تبغي ضم إريكا إلي سربها المتوحش.
المتنافسون يودون لو اجتذبوا إريكا إلي صخرة ناتئة، متذرعين بحجة أن
يطلعوها علي المنظر الرائع. ولكن ما أسهل السقوط! تصف الأم الهاوية وصفا
مجسما، حتى تحترس الطفلة وتنأي بنفسها عنها. هناك، علي الذروة، الشهرة
العالمية التي لا تصل إ
 

عازفة البيانو ألفريده يلنيك

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: