ترجمة: خالد الجبيلي
هذه قصة حب
هذه
قصة حب تشبه كل قصص الحب التي سمعت بها، لكنها لا تشبه أي قصة حب كان من
الممكن أن أتخيّلها. إنها كل شيء جميل - ألوان براقة، غرف تعبق برائحة
الشمع، حرير برتقالي، وخزامى أرجواني. إنها كل شيء غريب، متنافر - مشوّه.
إنها جروح طويلة وملتوية، ناكئة وغير ملتئمة، أعصاب مهترئة، تالفة ومكشوفة.
هذه قصة حب، يقظة وحية. إنها وثيقة تنبض بالحياة، شاهد حيّ. قصة مفعمة
بالإنسانية، بالأمل، وبالحياة. إنها التقاء الروح، استدعاء للأحلام. إنها
إحدى رقصات ألفين أيلي، "قوس قزح حول كتفي" ، إنها أغنية من أغاني الحرية ،
غيتار ذو إثني عشر وتراً، أغنية دلتا الحزينة. إنها قصة للتنفيس عن الروح.
هذه قصة حب، هزيلة وممجوجة، ومع ذلك فهي دسمة، مثقلة، ممطوطة وممتدة حتى
تفقد شكلها في بعض الأحيان. إنها قصة اصطناعية، من صنع الإنسان، تحاول أن
تبدو جميلة. قصة تحاول باستماتة أن تجمع خيوطها، هي قصة مليئة بالرقع عند
الركب.
هذه قصة حب. قصة حبي وقصة حب آلاف النساء الأخريات: إنها قصة معروفة،
موّثقة، مصوّرة، مصوّرة على شريط فيديو، ومسجّلة على شريط كاسيت، مصنّفة،
ومستنسخة، ومحفوظة، وقد رسمت عنها رسوم كاريكاتيرية، وأجريت عنها أبحاث
عديدة.
هذه قصة حب: قصة نحفظها في السر، نحميها من إطلاق الحكم عليها. القصة
التي أنكرها المحبون المتحلقون على موائد العشاء العائلية وفي الحفلات
المقامة في المكاتب. النظرات السرية التي تظهر في صور البولارويد. إنها
أسماء تهمس همساً. إنها قصة مخبأة في جولات منتصف الليل بالحافلة وفي
الرحلات في الشاحنة الصغيرة في الساعة الخامسة صباحاً، مخبأة وراء أجهزة
كشف المعادن، خلف الأبواب الإلكترونية، والفولاذ الذي يصفق الفولاذ.
هذه قصة حب. القصة التي لا تتداول في المآدب عادة أو حتى في المناقشات
العامة. لكن إذا كان ثمة شيء أعرفه عن نفسي، فهو أنني أعرف أنني أكره
الأسرار، وأن الأسرار تعني العار، وأني لن أخجل لا الآن، ولا مستقبلاً، من
كوني امرأة أحبت شخصاً، وأن ذلك الشخص قد أحبني.
ورغم أن الكثيرين
سألوني إن كنت قد فقدت عقلي، إن كنت أشعر بالوحدة، أو إن كان اليأس قد
تملكني، بل بات الكثيرون يتساءلون إن كنت أمرّ في أزمة، أو أنها مجرد نزوة
في حياتي، فإني سأظل أحب ذاك الرجل الذي أحببت. سأحبه رغم أن له ماضياً
قبيحاً، هياكل عظمية، وأحزان: رغم أنه ليس له عمل أو منصب مرموق أو نفوذ،
ورغم أنه سجين في سجن إصلاحي تشتد حوله الحراسة، فهو زوجي، رشيد، وسأظل
أحبه.
وهاهي قصتنا:
المرة الأولى التي دخلت فيها إلى السجن في حياتي كلها، كانت عندما كنت
طالبة أدرس العلاقة بين السود والسجن في الولايات المتحدة. بعد أشهر، بعد
انتهاء الامتحانات النهائية بفترة طويلة، وبعد حصولي على درجات جيدة، دعاني
أستاذي السابق وسألني إن كان بوسعي أن أرافقه، مع عدد من الأشخاص إلى مكان
يدعى سجن الإصلاحية الشرقي في شمال نيويورك. وكان لا يبعد سوى قرابة
ثمانين ميلاً عن بروكلن، حيث أقيم. وقال إنه يريدني أن أشارك في برنامج
تاريخ السود الذي يقام لمدة شهر.
ألا تكتبين قصائد؟ سألني.
يمكنك أن تلقي قصائدك، قال.
وافقت وذهبنا جميعا لتنفيذ البرنامج، وهكذا التقينا، رشيد وأنا، المتهم والطالبة، الشقي والشاعرة، نزيل السجن والطالبة الزائرة.
كان
رشيد في غاية اللطف، وكنت قد حاولت أن لا أعيره انتباهي عندما لمحته لأول
مرة، لكني لم أستطع. إنه يمثّل ذلك التناسق الأنيق بين أفريقيا والهند. إذ
لم يكن ضخماً، ولم يكن له وجود طاغ، على عكس ما يقال عن السجناء السود. ولم
يكن طوله يتجاوز الـ 160 سنتمتراً، وله ابتسامة رائعة وعينان براقتان.
وكان حجمه، أذكر أنه خطر لي ذلك آنئذ، ملائما، وكان بوسعي أن أنظر إليه
مباشرة، عيناً لعين. وراح صوته الخفيض يروي قصة شاب كاريبي أفريقي ُغرس في
هذا المجتمع.
من أين أنت؟ أردت أن أعرف.
من “The Boogie Down، ردّ، وهو يقصد جنوب البرونكس.
وقبل ذلك؟
أوه،
أوه، قال، وقد فهم سؤالي. غيانا. أمريكا الجنوبية. أجمل بقعة في العالم.إن
أسوأ شيء في حياة المرء أن يرى أجمل بقعة في العالم وأكثر الأماكن شناعة،
ولما يبلغ الثلاثين من العمر بعد!
بعد ذلك، اقترب مني عدد من الرجال
الآخرين ليقولوا لي كم إنهم استمتعوا بطريقة إلقائي، وسألوني إن كنت مستعدة
لإلقاء قصائدهم، ومتى سأعود، وهل يمكنهم أن يكاتبوني لمناقشة الشعر، وإن
كنت أعرف أنني ذكرّتهم بتلك الأخت التي يعرفونها ؟ في خضم هذه الأسئلة،
تركني رشيد. رحت أرقبه وهو يسير عبر الصالة الضخمة حيث أقمنا البرنامج. وقد
انسل بسهولة بين الرجال المائة الذين تجمعوا هناك، بين الكراسي
البرتقالية، وعبر خشبة المسرح، خلفها، ووجدت ضيفا آخر رحت أتكلم معه، شاعر
مثلي. شاعر موهوب جداً، يمكنني القول، وجذاب جداً. انتظرته لكي يعود. حاولت
أن أرغمه على العودة إليّ، شعرت بالانزعاج لأن رشيد لم يعد حتى حان وقت
الوداع.
بعد أن أصبحنا عاشقين، قال لي رشيد، إنه وجد أنه كان من الصعب عليه أن
يقترب مني، وإن الخطأ كان خطأي. وقال إنه فيما كنت مفعمة بالحيوية ومتقدة
على المسرح، أصبحت هادئة، ومنعزلة، وباردة وسارحة خارجه. وقال لي الآن
أيضا، وضحكات طفولية تتخلل كلماته، إن الشاب يعرف إنه عندما يريد حقا أن
يتكلم مع إحدى الأخوات، فإنه لا يخطو نحوها مباشرة، بل يتجه نحو زميلتها
ويتكلم إليها، وهذا ما فعله. وقال: لقد تحدثت إلى الأخت الأخرى، الشاعرة
التي ألقت قصيدتها قبلك، لأني كنت أعرف أني بهذه الطريقة سألفت انتباهك.
أعني، كيف كنت سأبدو وأنا أحاول أن أتحدث إليك والرجال الآخرون جميعهم
ملتفون حولك؟ أتفهمين ما أقصد؟
السعادة تغمر رشيد وهو يروي لي هذه القصة
بعد خمس سنوات من أول لقاء لنا. وكنا، في لحظة اعترافه في إحدى غرف
الزيارة، وأنا مستلقية، بقدر ما أمكنني، بين انحناءة ذراعيه. وفي تلك
اللحظة، ورغم كل الأوجاع التي اعترتني، وما لاقيته من أمرين في سبيل حب هذا
الرجل، لا يوجد ثمة مكان آخر يمكنني أن ألجأ إليه.
عندما بدأت قصة حبنا، كنت في الخامسة والعشرين من العمر، طالبة وحياتي
منتظمة، زوجة على وشك الطلاق من زوجي الأول، شاعرة مفعمة بالأسرار
والأحزان، امرأة صاعدة يعوقها الإحساس بعدم الأمان والغضب، إنسانه تصارع
الوحدة، وتسعى في الوقت نفسه إلى العزلة، تحتاج إلى حب جارف، إلى مناقشات
طويلة صادقة ، إلى مسحة من الهدوء في قرارة نفسها.
عندما بدأت قصة حبنا، كان في التاسعة والعشرين من العمر، رقمه في السجن
83 * * * * *، قاتل محكوم عليه بالسجن المؤبد ويمكنه الطعن بعد مرور عشرين
عاما، سجين نموذجي، منسق برامج، أبّ لصبي يبلغ من العمر تسع سنوات لم يتمكن
من تنشئته وتربيته، محام لا يحمل شهادة في الحقوق، مسلم تقي، رجل على وشك
الطلاق من زوجته الأولى، إنسان يقارع الوحدة، وفي الوقت نفسه يسعى إلى
العزلة، يحتاج إلى حب جارف، إلى مناقشات طويلة وصادقة، إلى لمسة هدوء في
قرارة نفسه.
كنا نشبه بعضنا شبها تاما، وكنا مختلفين اختلافاً تاماً.
لم يكن مقدراً لنا أن نكون معا أبداً.
كان مقدراً لنا أن يخلّص أحدنا الآخر دائماً.
* * *
البيت
عندما أنظر إلى ماضينا الآن، إلى مجموعة الطلاب التي قامت بزيارة السجون
طوال تلك السنين لكي تشارك في مختلف البرامج، أذكر دائما الإحساس الذي كان
ينتابنا وهو أن رشيد كان يعتبر واحدا منا منذ البداية. كان ثمة شيء فيه،
دفئه، عدم وجود هدف محدد في حياته جعله يبدو أنه لا يوجد انقسام، أو اختلاف
بينه وبيننا، بين عالمه وعالمنا.
قد يكون التكلم في السجن تجربة رائعة، حيث السجناء المعزولون يصبحون هم
المستمعين الذين غالبا ما يبدون تقديرهم لك، وإن قلت أشياء تعبر عن آرائهم،
فقد تنهال عليك الطلبات في نهاية اللقاء. فهم يبحثون عن أصدقاء لمراسلتهم،
عن أشخاص يقومون بقراءة أشعارهم وكتاباتهم. إنهم يبحثون عن أي شكل من
أشكال التواصل مع "الشارع." ومهما كنا نرغب، يستحيل حقا على شخص أو شخصين
أو أربعة أشخاص أن يلبوا هذه الحاجات الجماعية. وقبل أن نزور السجن لأول
مرة، لم يكن لدينا أدنى فكرة عن الطريقة التي يمكننا أن نستجيب فيها لهذا
الكم من الطلبات الذي كان يصل عادة إلى مائة طلب مختلف لمائة شيء متباين من
مائة شخص متفاوت.
ولهذا السبب برز رشيد ، ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لنا جميعا. وهو
لم يطلب منا شيئا قط، بل لم يكن يتوقف عن التحدث إلينا. إذ كنا نتحدث عن
النضال من أجل المساواة، عن السياسة العالمية وعن العدالة الاجتماعية. كنا
نتحدث كما لو كنا رسامين، نستخدم الكلمات كضربات فرشاة على قماش الخيش
العريض الذي كان يشكل خيالنا الجمعي. وكلما ازداد عدد زياراتنا، تحدثنا
أكثر. وكنا نتفق أحيانا على بعض الأشياء، ونختلف أحيانا على أشياء أخرى،
إلا أن المناقشة لم تبلغ قط حد الاحتدام ولم تصبح بغيضة أو غثة. كنا نتحدث
كما لو كنا نريد أن نتعلم شيئا. كنا نتحدث كما لو كنا نريد أن نشفى.
كنا نتحدث كما لو كنا نعتقد بأن حديثنا يمكن أن يغير الأشياء، أو يعيد
التوازن، أو يحرر الناس. كان حديثا يدور على نفس الوتيرة. وكان رشيد يعرف
ذلك، وكنا جميعا نعرف ذلك. وكان رشيد يعرف، كما كنا نعرف، بأنه أصبح صديقا
لنا، فردا في عصبتنا الصغيرة، وهذا ما كان يجعلنا نشعر بغصة ونحن نغادر
السجن في نهاية البرنامج، بدونه. وكان يبدو أنه إذا كنا نعني شيئا كنا قد
قلناه في تلك المناقشات السياسية الطويلة، فهو أنه كان علينا أن نغادر،
ونتركه هناك آنذاك، ونتركه هناك الآن.
* * *
عندما كان الناس يسألوني كيف وقعت في غرام رجل متهم بجريمة قتل، كنت
أبدأ بقولي إني كنت طالبة تطوعت بوقتها وكانت تأمل في إلقاء قصائدها وترغب
في التحدث لكي تغير شخصا ما، بطريقة ما، إلى الأفضل. ثم كنت أحدثهم عن
الرجل الذي كان سيصبح زوجي، وكيف أن روحه أسرتني، أسرتنا كلينا، وكيف تغيرت
بفضل روحه المنفتحة.
في ذلك الوقت، في تلك الأيام الأولى من صداقتنا، بدأت أتعلم أن أقبل
وجهات النظر المختلفة، وأن أنصت بعناية، وأن أتحفظ عند إطلاق الأحكام،
وتعلمت أنه لا يتعين عليّ أن أخرج منتصرة بعد كل مناقشة لمجرد الانتصار.
وتعلمت من ملاحظتي لرشيد، الذي لم يكن يتكلم إلا عندما يأتي دوره، والذي
كان يتكلم بترو، والذي كان يعترف بأنه مخطئ إذا أثبت له أحد أنه على خطأ.
قال لي يوما: السجن يعلم الإنسان كيف يكون مؤدبا.
لا تعرفين كم يكون التوتر والتشنج شديدين هنا، ولا يريد أحد أن يزيد على
ذلك بعدم قوله "المعذرة" إذا كان يجب عليه أن يقول "المعذرة". وهذا شيء
جيد، وأنا لم أكن هكذا دائما. لقد كنت متغطرسا جدا.
كنت أوضح للناس بأنني ، على الرغم مما كان يبدو، لم أقع في حب قاتل. بل
وقعت في حب رجل أراد أن يصبح مخلوقا أكثر كمالا، رجل كان كل همه أن يغيّر
نفسه، والعالم. والعالم الذي كان يتخيله هو العالم ذاته الذي كنت أتخيله
أنا. مكان عادل ومنصف وصالح للعيش. كان بإمكاننا أن نلتقي هناك، في ذلك
المكان، يمكننا أن نلتقي هناك كخالقين، كشخصين متساويين.
كنت أقول إلى أصدقائي: كان يحترم رأيي!.
وكنت أقول إلى كل من كان يستمع إليّ : هل يمكنكم أن تتخيلوا رجلا كهذا ؟ فهو يريد أن يستشيرني في كل شيء. كل شيء! إنه يأخذ بنصيحتي.
عندما كنت أتحدث عن أشياء لم يسبق لرشيد أن سمع بها، كان يدّون ملاحظات.
لكن الأمر ليس مجرد هذا، كنت أقول وأنا أحاول أن أشرح كل نقطة كان بوسعي
أن أشرحها وهم لا يزالون يصغون إليّ.
قلت لصديقتي ذات يوم: إنه يحترمني كثيرا عندما يجادلني.
وقلت لها: لم أكن أتصور ذلك، أن أدخل في نقاش معه. لا أعني الطريقة التي
يتجادل فيها الرجال عادة مع النساء كأن يسايروهن بعبارة: حسنا، كما تريدين
يا عزيزتي. لا! أعني الطريقة التي يتجادل فيها الرجال مع الرجال، كما لو
أن الشخص الآخر كان خصما مهما. كان رشيد يستمع إليّ بتحد. هذا هو الرجل
الذي وقعت في حبه، رحت أردد مرارا وتكرارا. رجل يؤمن بأنني امرأة وأنني
جديرة بذلك.
وعندما كنت أقول للناس في بعض الأحيان هذه الأشياء، كانوا يقولون إنهم
لا يستطيعون فهم ذلك. وكنت أسأل باستمرار: أين الشيء الكريه في ذلك؟. وأقول
لهم نعم، هناك بعض النساء اللاتي تشكل القباحة والأوجاع قوام قصتهن، لكنها
ليست هي الصورة التي سأقدمها.
آشا، كان بعضهم يقول، يا بنت، هل عيناك معمشتان. فقد يكون عظيما الآن، لكنه كيف سيكون عندما يعود إلى البيت؟
وأجيب: لا أعرف، ومن سأكون أنا؟
وحذروني: قد يعود رشيد إلى البيت ويكون فظا معك.
فأقول لهم: نعم، بالطبع هذا صحيح. لكن أليس من الممكن كذلك أن يعود رشيد
إلى البيت ويكون رائعا معي. لا أحد يعرف ماذا سيحدث غدا، هذه اللحظة ،
الآن، هذه البرهة فقط هي المسجلة في التاريخ.
وهذه اللحظة التي يقبلني فيها ويلاطفني، وأشعر بعدها بالاطمئنان الذي
كان يمنحني إياه، هذه اللحظة هي الشيء الحقيقي الوحيد الذي أعرفه. وثمة شيء
آخر أيضا: فالكثير من الناس يعيشون في وحدة، بدون حب وبدون عاطفة في
حياتهم، وأنا أعرف ماذا يوجد لدي رغم الصعوبة التي قد تبدو عليها الأمور.
إنها أثمن الهدايا جميعها.
وأنا لا أستطيع أن أستسلم بدون معركة، هذا الشيء النادر، المرغوب، الذي
يجعل الحياة تستمر. وأسأل، هل يمكنني؟، هل يمكنهم؟ أريد أن أعرف. هل يمكنهم
أن يرفضوا أعظم حب عرفوه في حياتهم، لأنه جاء فقط من أسوأ مكان يعرفونه ؟
* * *
ما زلت أدرك أن كل الأشياء تجري في سياقها، ورغم أنه صحيح أيضا أن صفات
رشيد الجيدة العديدة، بالإضافة إلى الأحداث التي جرت في حياتي، ربما ساعدت
كلها مجتمعة في أن يصبح مهما بالنسبة لي.
إن العالم في غاية الروعة، الطريقة التي يعيد فيها ولادة نفسه لك إن كنت
سهل الانقياد. فإن كنت طيعا، ستكون الأشياء التي يأتي بها العالم مثيرة
وجديدة في كل مرة، تكتسي ألوانا مختلفة، وتأخذ أشكالا متعددة.
بالنسبة
لي، لقد ولد عالم جديد عندما أصبحت طالبة في جامعة ولاية نيويورك، وتخصصت
في العلوم السياسة والدراسات عن السود. لم أكن أعرف أني سأجد في كل صف
دراسي قطعا من نفسي، قطعا متناثرة من أنثى سوداء تنتظر أن تلملم نفسها،
ويعاد تركيبها.
للمرة الأولى في حياتي، الحياة التي هيمن عليها تاريخ الرجل الأبيض ،
ثقافة الرجل الأبيض ، أدب الرجل الأبيض ، موسيقى الرجل الأبيض ، أحاسيس
الرجل الأبيض، الحياة التي يشكل فيها السود كناية عن شيء ما، رحت أقرأ كتبا
عن شخصيات وتجارب بدأت أفهمها. وانكشف أمامي في نهاية الأمر تاريخ تجاوز
العبودية ليشمل تاريخا فيه رجل أسود ناجح، رجل أسود ذكي، رجل أسود شجاع.
إن معرفة ذلك خلّف في نفسي مجموعة من العواطف أظنها مشتركة لأي شعب
محتل. وكان أعظمها، أكثرها عمقا، المشاعر التي تملكتني، الحب، أخيرا من
أجلي، أنا كامرأة سوداء، امرأة لها حقا موقع في التاريخ، إن لم يكن في كتب
المدرسة الثانوية. وللمرة الأولى في حياتي الدراسية كلها، رحت أدرس أدب
السود: جيمس بولدوين وزورا نيل هورستون، وبوتشي إميتشيتا وتشينوا أتشيب.
وتعلمت أنه يوجد لدى أسلافي أشياء أكثر من الرق وحركة الحقوق المدنية،
التي كانت خلال سنوات دراستي الابتدائية والثانوية تشكل السياقات الوحيدة
التي كنت أسمع أن مناقشات السود تجري حولها. وكان بوسعي ، في تلك الفترة
المحورية من دراستي، أن أدرس مالكولم إكس، لا كمشروع للحصول على درجات
أعلى، بل كشخصية سياسية دولية فذة انتقلت من السجن إلى مؤتمر باندونغ إلى
منظمة الوحدة الأفرو أمريكانية. إني أشعر بالحرج عندما أعترف بذلك، لكني
أعرف أن ذلك يجب أن يقال. للمرة الأولى في حياتي، شعرت بالفخر حقا لكوني
سوداء. لم أشعر بذلك قط من قبل. لم ينتبني هذا الشعور ولا مرة واحدة من
قبل.
لكن ما إن وقعت في حب تاريخي وثقافتي في نهاية الأمر حتى انتابني
أيضا إحساس عظيم لما حدث لشعبي، لما فقده، لمن قتلوا. وبالتأكيد، اجتاحني
غضب، غضب عارم، ضد الأشخاص الذين وضعوا السياسات والقوانين والمؤسسات التي
لا يمكن تسميتها إلا بالشريرة.
أقول لك ذلك لكي تفهم كم كان سهلا في تلك الأيام أن تحدد من هو الصديق
ومن هو العدو. وبعد ذلك، وبعد أن أصبحت ناضجة، وبدأت استوعب المعلومات أكثر
وأكثر، لم يبق شيء بسيطا وواضحا. غير أن الأمر أصبح، فيما بعد، حرفيا
ومجازيا، حالة من الأسود والأبيض. ومن خلال هذه العدسة لم أر رشيد فقط لأول
مرة، بل رأيت جميع السجناء.
قلت لرشيد: كنت أرى في ذلك الوقت جميع السجناء ضحايا.
قال: نعم، كان الكثير منا يعتقد ذلك أيضا في البداية.
وبعض الناس هم حقا كذلك، ضحايا. في البداية كنا نقول إننا كلنا سجناء
سياسيين بسبب سياسة نظام العدالة الجنائي. والعرق يشكل دائما قضية. لكنك
تعرفين، كلما تقدم بك العمر، تريدين أن تتحملي مسؤولية حياتك كلها. لأنك
إذا عشت لمدة طويلة بما فيه الكفاية، فإنك ستفعلين أشياء جيدة أيضا. وبدأت
أريد أن أتذكر الأشياء الجيدة التي فعلتها. لكني إن كنت مسؤولا عن ذلك،
فعلّي أن أكون مسؤولا أيضا عن الأعمال السيئة، صحيح؟
* * *
لم تكن وجهة النظر الشاملة تلك التي برزت هي التي أثرت على اختياراتي
فقط. ففي الواقع كان ثمة أشياء ملموسة ومدمرة حدثت كلها في وقت واحد
تقريبا، في السنة التي سبقت السنة التي وقعت فيها في حب رشيد. وفجأة بدأ كل
شيء يتحول في حياتي، ورحت أبحث عن منفذ سريع، وكنت هناك، أجلس على الرصيف،
وحدي، لا أستطيع الرؤية عبر المسافات، غير قادرة على التمييز.
جاءتني الضربة الأولى عندما طردت من الجامعة بسبب احتجاجي على رفع رسوم
التعليم والتخفيضات في الميزانية التي أدت إلى خروج المزيد والمزيد من
الطلاب من الجامعة. احتشدنا، تظاهرنا، مارسنا الضغط، ثم احتللنا مبنى
الإدارة. ومن أجل ذلك وجهت إلى بضعنا بعض التهم، وتمت إدانتنا، وطردنا.
لسببين اثنين، كانت هذه خسارة أكبر مما كنت أتوقع. فأولا، كنت رئيسة
اتحاد الطلاب، وثانيا، كان أبواي موظفين إداريين في الجامعة. وهما لم
يوافقا على زيادة رسوم التعليم وتخفيض الميزانية أيضا، إلا أنهما كانا
يرغبان، أكثر من أي شئ آخر، في أن أتخرج. قالا لي ذلك، وجعلتهما في الحقيقة
ينتظران حوالي خمس سنوات قبل أن أسير في استعراض وأنا مرتدية الرداء
الأسود على أنغام أنشودة Pomp and Circumstance الفخورة.
قبل أربع عشرة سنة، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، خرجت في استعراض
مماثل على أنغام الأنشودة ذاتها وأنا أسير بين ممرات صالة مدرستي
الثانوية. كان ثمة العديد من الأودية، قطرات كبيرة تهطل وتهطل بين هذين
اليومين، وطوال ذلك الوقت، ورغم سلوكي الخارجي العدائي في أغلب الأحيان،
فما كان دائما أهم شيء في حياتي، كان أيضا أهم شيء في حياة أطفال كثيرين.
كنت
أريد بكل ما أوتيت من قوة أن أدخل السرور إلى نفس أبوي، وأجعلهما فخورين
بي. وأنا أعرف أنهما قدما تضحيات كبيرة لي ولأختي، ليكون لدينا بيت جميل،
ونذهب إلى مدارس جيدة، وأن نطلع على الفنون. فقد كنا من الطبقة المتوسطة،
ولم نكن أغنياء على الإطلاق. وكل ما حصلنا عليه، أختي وأنا، جاء نتيجة
ساعات طويلة، وفي أغلب الأحيان، ساعات صعبة وشاقة بذلها أبواي في عملهما.
ولم تكن وظيفتهما بالضرورة هي الوظيفة التي كانا يحلمان بها - وظائف لا
تغني الروح. وكانت أمي وأبي يعملان لأتمكن أنا وأختي من الاختيار، لنتمكن
من العمل في أي مجال نريد. ومضى وقت طويل قبل أن أنمو وأفهم ذلك جيدا، أن
أعرف أننا، أنا وأختي، كنا الشغل الشاغل في حياة أبوي، أننا كنا أنا وأختي
إرثا لهما. وعندها فقط أصبحت دراستي مسألة هامة. فقد كان أغلبنا، في جيلي،
كما يبدو، يكافح من أجل المكانة والمقام. أما كفاح أبوي فكان من أجلنا، نحن
ابنتيهما، وبدأت أؤمن بأني أدين لهما بالشيء الكثير.
أعرف أنني كنت مراهقة صعبة المراس، متجهمة، تلميذة أسوأ بكثير من أترابي
الذين كان أبواي يعرفونهم. لقد سلبت أخطائي المختلفة، وتسكعي، وهروبي من
المدرسة، وتعاطي للمخدرات، والشراب، من أبوي الفرصة لأن يكونا فخورين بي.
وفي الواقع، لم أتمكن من دخول الجامعة إلا بوساطة أشخاص يعرفون أمي. وبعد
ذلك، وبعد أن استقر بي الأمر بعد قرابة أربع سنوات، عندما انتقلت إلى جامعة
الولاية وبدأت أحصل على درجات عالية، وما أعقب ذلك من احتجاجات وتهم،
توجها الطرد من الجامعة.
إن فقداني لوضعي كطالبة في الشطر الأخير من السنة الأخيرة لي كان يعني
أن يخسر أبواي كل شيء. وانتابني شعور بأنهما قد تخليا عني قليلا. كنت في
العشرينات من عمري آنئذ، فماذا يمكنهما أن يفعلا أكثر من ذلك؟
* * *
إزاء هذه الخلفية الكارثية لخروجي من المدرسة، تهاوى زواجي المتزعزع.
كنت آنذاك في الثالثة والعشرين من عمري، وقد مضى على زواجي سنتين.
لم تكن المسألة أننا لم نكن نحب بعضنا، زوجي الأول وأنا. بل كان الحب هو
كل شيء نمتلكه، وكنا بحاجة إلى المزيد والمزيد. فكل الأزواج يحتاجون إلى
ذلك. كنا بحاجة إلى عواطف واهتمامات وأهداف مشتركة. كنا بحاجة لأن يتكلم
أحدنا إلى الآخر. كنا بحاجة آنذاك إلى قدرة إلهية تفسره لي، وتفسرني له.
وبدلا
من ذلك كان الصمت هو الذي يكتنف حياتنا. وفي مواجهة هذا الهدوء القاسي،
الهدوء غير الودي، كان زوجي يهرع إلى عمله كل صباح ويمكث هناك أحيانا اثنتي
عشرة ساعة، أو ثلاث عشرة ساعة يوميا: وأنا بدوري هرعت إلى الجامعة وفعلت
الشيء ذاته. وعندما كنا نعود إلى البيت، لم يكن هناك شيء نفعله سوى أن
ننام؟
كنا نخلد إلى النوم. كنا ننام نوما متقطعا، بغضب، باتهام، ولكن أكثر من
أي شيء آخر، كنا نغط في النوم: كنا ننام حتى لا يعود هناك شيء نفعله سوى أن
نزحف من السرير، منفصلين، ونخرج إلى هذين العالمين المختلفين اللذين
خلقناهما لأنفسنا، عالمه من ناحية من الكون، وعالمي من الناحية الأخرى.
أما أبواي ، اللذان دام زواجهما السعيد، الصحي، أربعة عقود، فلم يكونا
يتصوران أو يفهمان كيف يمكن لزواج أن يتداعى بعد سنتين فقط. إذ كان قد بني
كل شيء بعناية. واستمعت، واستمع كلانا إلى آراء الخبراء، وحاولنا أن نحذو
حذوهم.
بدأنا، أنا وزوجي الأول، حياتنا بحفل زفاف رسمي ومكلف في شهر حزيران.
ارتديت رداء وحجابا أبيض. وأمسك أبي يدي وقادني عبر الممر، ورقص الرقصة
الأولى معي. كانت لدينا حسابات مصرفية وبطاقات ائتمان مشتركة. قال زوجي إنه
لا يتعين علّي أن أعمل، بل يكفي أن أذهب إلى الجامعة. وذهبت إلى الجامعة،
وطهوت ونظفت. كنا نقيم حفلات عشاء فخمة. إلا أن ذلك لم يؤثر على حياتنا
الزوجية في نهاية الأمر، وذلك لأنه فيما كنا نؤدي دورنا الإداري، لم نكن
نفعل شيئا من الجانب الإبداعي. إذ لم تكن هناك كلمات، أو حوار، أو نكات
خاصة بيننا. وبالنسبة للكثيرين، لا يعتبر غياب اللغة سببا كافيا للتفكير في
إنهاء الزواج. أما بالنسبة لي، فكان سببا رئيسيا لأن أفعل ذلك. أعرف ذلك
الآن. لم أكن أعرف ذلك آنئذ، ولهذا السبب، لم أتمكن من أن أجري إليها في
البيت، إلى أمي، التي، كنت واثقة، أنها تحملت الصمت طوال تلك السنين لتحافظ
على زواجها مع أبي.
الخلاصة هي أنني لم أكن أسعى لأن أنقذ حياتي من نوع من الوحوش، من شخص
لا يكف عن الضرب، من مدمن خمور ساخط. بل كنت أهرب من الرجل الذي أحبه
الجميع، الرجل الذي أحببت. لذلك ألقوا اللوم عليّ. فأنا التي تسببت في
زعزعة حياتي، ثم تجرأت وطلبت شيئا من العطف، كتفا أسند رأسي إليه، يدا تمد
لي العون.
لم أستطع أن أواصل الدراسة في الجامعة. لم أقو على المحافظة على الزواج.
لم يكن لدي عمل. فأين يمكنني أن أعيش؟ من يمكنني أن أحب؟ ماذا يمكنني أن
أفعل؟ أي هدف يمكنني أن أحققه؟
في منتصف تلك الليلة، كانت هذه الأسئلة تطرق في رأسي طرقا شديدا. كانت
تدق مثل أنابيب الرصاص السميكة على أطراف أحلامي، تطرق وتطرق حتى صحوت.
صحوت وقد اعترتني نوبات من الخوف، من الحزن، من العزلة.
السبت أكتوبر 20, 2012 1:46 pm من طرف ماردة