كلما
استجمعتُ رعبَ قلبي وقلت بالحاضر الدافق أجلوه، بالينبوع الذي وُلد
اللحظةَ معي، رأيتُ أني جئت من قبلُ أو من بعد وان لا وقت لي يصلح أن أسميه
الآن.
فالآن فواتُ أوان.
وإذ تهيأتُ وتعبأتُ وقامت قيامتي ألقي في روعي أني من الأمس، من
الديمومة التي غُسلت حتى صارت مزقاً. من القديم أتيت، وفي القديم باشرت
زمناً كنت أظنه الآن فإذا هو منقلبُ الوقت ويأس الحاضر من نفسه، وعجزه عن
أن يكون.
أنا في فوات الأوان.
أو لأقل أنا في بهتان الأبد، صدقت ما لم يعدني به أحد، صدقت أن سيأتي
الوقت وأجيء معه، ويصحّ لي حينها أن أقول أنا دون أن يهجرني حاضر أو يمكر
بي أوان.
لكني ممكورٌ بي.
أليس ممكوراً به من يتداوله طائرا تلفٍ وكلٌّ يدعي
انه الوقت وكلّ يخبط بأجنحته في ساعتي، ساعة المغيب، ساعة مللت من اللعب
وأردتُ العودة الى بيت أمي، أرقق رعب قلبي بمائها المهيمن، بالينبوع الفرات
الذي ولدتُ أنا وإياه في رحم واحد.
لكني مكذوب علي.ّ
أليس مكذوباً عليه من يصمت بين يديْ صديق يحدثه عن
القرآن، ثم يلتفت فإذا الكلام قديم والصديق انتهبته سيوف هواء بعيد، وقرآنه
مفتوح من الأمس على سورة محرّفة أولها الآن وآخرها فات الأوان.
مهجور الحاضر أنا
أرمل اللحظة
يتيم الأزمنة كلها.
لي كربلاء، وكربلائي لا تنقضي بسهم مثلث ونار تأكل الخيام.
كربلائي ـ الوقت، ماضية في حضورها وتتشبه بالمستحيل
انها كمثل ياقوتة اليأس تجدد نفسها في كل آن.
في كلّ آنٍ فواتُ أوان.
**************
زهرة سوداء
وبعد..
ماذا سيقال في الروح أبلغ مما قاله سكران: ( الروح خنثى )،
لكني تهيأ لي، في جلسة خمر، أن الخطأ الحيّ الذي يخالط وجودي له نحو ارتباط
بالنسيان، نسيان ذلك المغزى الشاق، المعنى المبدد في دعابة فيثاغورس: (
العـالم عـدد ونـغم ). وتذكرت أن في قوّة المصطلح تأجيلاً أبدياً للمعنى،
بمقدار ما في كلمة الفجر من ليل ونهار، أو بمقدار ما في المرأة من رجال
منتعضين، فصرت أطلب الروح بنقيضها، والجسد بلطائفه المخبوءة فيه، وقلت:
فلينم من لم يرَ زجاج الزجـاجة، أما أنا فقد رأيت الروح ـ القنديل الذي من
رآه لم ينم. وقلت: يا رب فليكن لي أرباب على قدر خطاياي، وأصدقاء يترامزون
بالكناية، بالاستعارات الشاقة التي كنا نتلاسن بها في جلسة خمر، نحن
الأنبياء الكذبة الذين تكلمنا عن الروح فأفسدنا قدّاس الأرض، سحقنا الكرمة
التي تعبت قلوب الماء في ريّها. لكنْ الروح روح مَنْ؟
الشاب الهزيل
الذي لطم وجه حبيبته بزهرة سوداء، وحده يدرك أن مأتمه لن ينقضي ما داما ـ
هو وإياها ـ اثنين، روحين، ضربتيْ مجذاف في نهرين لا يلتقيان.
وهكذا فالزهرة السوداء التي سقطت في الوحل صارت علامة على انهدام الروح.
روح من؟
أكرّر
سؤالي وفي خاطري أسماء كل أولئك الذين انتهوا إلى هذا الحطام الشفيف،
الذين تكسرت مراياهم وهم يتتبعون المسار اللعوب لهذه الأميبيا المقدّسة،
وإلا كيف يُعقل أن شخصاً ما، في جلسة خمر، تذكّر فجأة انه هو وروحه شيئان
متناقضان، وانهما معاً فائضان عن حاجة العالم؟
لعله ارتبك ليلتها، ضحك من الرعب أو أخفى قلقه بالتدخين، غير انه حين عاد إلى البيت، وقبل أن ينام، كتب في مفكرته:
( الروح خنثى )، وعندما استيقظ لم يعرف بالضبط ماذا أراد.
**************
الاسم
ما اسمكَ ؟
أنينُ أبٍ تتعرقُ أصنامه تحتَ إبطيه، أم تحديقةُ صقرٍ يزيحُ عن العالمِ رغوةَ الظهيرة،
أمْ
الأمهاتُ في صحنِ البيتِ يضمدنَ جرحَ البيت ويسندن نخلةً تتهاوى، أم أنا ـ
وأنا أصعد السلمَ ـ أعمى تقتاده بسالته الى فخاخه الأربعة الألف الحاء
الميم الدال على السطح كان الهواءُ يلعب بحبل الغسيل ورملِ البروج، كانت
القمصانُ ترفرف يائسةً،
واسمي الطفلُ خفيفاً يكاد يطير.
كان لي اسم
وحدث أني نزلت السلمَ مسرعاً وكلي عيونٌ تبـكي ـ بعـد فوات الأوان ـ أباً يقاسـمني
الفجرَ وهسهسةَ النارِ، وسمعتُ من يهمس ورائي: إنا أنزلناه لنريه الألمَ وصريرَ الأسنان،
إنا أنزلناه وسقيناه بالإسفنجية خلاً ، إنا أنزلناه لنحرقَ أكليلَ الشوك على رأسه، إنا أنزلناه
وكانت الهاءُ في (إنا أنزلناه) إشارةً الى هويةِ الغيب المطلق : (هو) .
هو الموؤدةُ ملامحه فيَ،
القارعُ طبولَه الخفيةَ في أذن طفولتي العمياء.
لينه، أين أسماؤه وصفاته تتحايل على أسمائي وصفاتي لتستدرجني الى الصحراء،
فيا
هو، أيةُ متاهةٍ استدرجتْك وكم من المرايا رددتك حتى عدتَ إلي مثقلاً
بالأنفاس، كأنما أنا ما يذكرني بكَ أيها النابض في ملابسات اليقين كالقلب،
كأنما أنا ما يسترُ حنينَكَ إلي، أنا ما يضعُ بيني وبينكَ هذه الغلالةَ
المزركشـةَ نداءات الاستغاثة:
ألف: نداءُ ملائكةٍ خرساءَ توقظُ الجهات
حاء: نداءُ وعلٍ جريحٍ على فم الينبوع ميم: نداءُ قاربٍ يتشظى في قهقهة
البحر دال: نداءُ عقيقٍ مرفوعٍ ليُختَبرَ في عين الشمس اسمي ندائي على نفسي
كأني أنادي على بائع الصحف الأصم،
نداءٌ لا يصلُ إذ يصلُ إلا سدى كنداء ميديا في مطار ممطر تدفع حقيبتها وتضحك،
كنداء
كوثر في مقام التمكين تسـأل عن وحدة الوجود وانقطاع الكهرباء هذه النداءات
الخفيضة ذكرتني بأبي، كان يقول: الاسم بيتٌ لا يمكن الدخول إليه لا من
أعلى ولا من أسـفل، لا من الأمـس ولا من اليوم، لكننا مع ذلك نتلاطم فـيه
كما لو انه وكرنا المكينُ، منبتـُنا الذي، لفرط اندكاكنا فيه، ننسـاه، أو
لعله الفجاءة التي قبل أن نفهرسـها تكون قد باشرتْ حفرها في هوائنا
القريـب.
وتذكرتُ أيضاً:
كلُ الأسـماء، ومثلها اسمي، رسـائلُ أُحرقت قبل أن تُكتب.
كل الأسـماء إشاراتٌ الى هويـة الغيب المطلق: (هــــو).
هـــو: الرحم البارد الكاذب الســـام الذي بانقباضه وانبسـاطه أكـون.
هـــو: جمهرةُ فراغٍ تسـدُ عليّ الطريق.
هـــو: قنطرة مردومة بين الإنـسـان ونفسـه.
وأنا، كان لي اسم
وحدث
في أخريات أيامي أني رأيتُ في المنام أني أذبح أبي، فاستفقتُ وفي يدي
مقبضُ سـيفٍ ، وعلى رأسي طائرٌ بلا اسم يزعق : يا هـو، يا هـو، كم من هواء
تكاثرتْ عليه الأجنحةُ ولا يطيـرُ إلا بكَ. ومن يومها لم يعدْ لي اسم ــ ما
اسـمُكَ ؟
ــ نارٌ تريـد أن تنطفئَ ولا تسـتطيع.
*****
بابل مقلوبة
1
أضعُ بداهاتي قدامك الى أن يسكن الرعدُ
الى أن ترفع البوق من فمكَ وتصرخ في الشعب:
أما قرأتم قطُ في الكتب
أما رأيتم الغريبَ مربوطاً بالذهبِ الى خيامِ آبائكم
فسلطتم عليه الكتبةَ ليرتعدَ؟
اكتنفتم يديه بجيوشٍ ومجانيقَ
صيرتم أكتافه مأكلاً للضبابِ
وكلما استيقظ من نومه وفركَ عينيه
رعاةٌ نوامونَ منكم أعادوا عليه النعاسَ
فالآنَ أقول لكم:
قبلوا هذا الطفلَ النائم لئلا يغضب
قبلوه لئلا يحل الظلام.
2
وأكاد أتكلم لولا لساني
أكاد في ظل أسيادكِ المقموعينَ أوثقكِ
وأسقيكِ من المنفى الذي أسقيتِني إياهُ
يا خاشعة
يا سكرانة
يا بيتاً يطرده الأخ الأكبرُ بلا حقائبَ
يا بابل أوحي إليها أن تمخضي وإلا نفضتكِ
تمخضي لأنكِ الجيشُ المنهزمُ
بوق بعثركِ وطاف بكِ في البلدان
شرطي يشتكي العطشَ أماتكِ وأحياكِ
ثم أماتكِ وأحياكِ
ثم أماتكِ وأحياكِ الى أن حبلتِ وأنتِ العذراء
استيقظ أبناؤكِ وتاهوا
وتهشمت أسنانهم من الضحك.
3
ومالي لا أضحك؟
أضحك لهذه الصنائع الشاقة
أضحك لنافخ البوق تحت خرائب بابل
أضحكُ للغيم الأبيض يتوج قلبَ ميديا بلا سبب
أضحك لصبيةٍ لم يقلْ لهم أحدٌ أنهم شيعةٌ لكنهم تنبأوا بذلك
أضحكُ لمعدان يحرثون أكتافَ نسائهم حزناً على ثأرٍ لم يبلغوه
أضحكُ لمندائيين يخرجون من خيمة الاجتماع وفي أيديهم دمٌ لا يعرفون لمَنْ
أضحكُ لانكشارية يربطون خيولهم الى رأسِ الملكِ كوديا
أضحكُ لكلدان لم يجدوا ما يتصدقون به ملأوا آبارهم خلاً وتفرقوا في الأقطار
أضحكُ لعشائر أوقفتها خطيئتُها في ظلِ شرطيٍ يتثائبُ
أضحكُ على ناصر الأشقر
على قلائده المصكوكة من أسنان العبيد
أضحكُ
وأعرف أن شعباً أحدب سوف يتسللُ الي
في هذه الساعة
ليشاركني البكاء.
*******
قتيلان يتحاوران
ـ هذه خرافةٌ، تنجيم أو لعب بالاوفاق
ـ لماذا؟
ـ لأن السفينة لاشيء إنْ لم تكنْ ريحها منها..
ـ كذلك أنا في بيت المعنى عقيقٌ زائف لولا أن صدّقتُ نفسي.
ـ
ول.ا مع ذلك خرافة، تنجيم، محض استرسال في التيه كمن يبســط يـداً
اصطناعية أمام قارئ كفّ، وإلا مَن أين لك أن ترى الكنزَ الوقور في ابتسامة
الجنديّ الخائف، بل كيف لي أن أقيم الدليلَ على بلاغة حاجبيك وهما يعذّبان
المكان..؟
ـ لا، .. ليس عندي هنا بين الأنقاض سوى قوّتي، قوّة المنجّم يتخاطر تحت قوس زحل رادّاً التحيّة على قتلاه.
ـ الليلةَ اقتران نجوم العقيد بكوكبة ذات النطاق
ـ
لمثل هذه الليلة ادّخرتُ لُباناً ذَكَراً، زهرةَ دفلى حمراء وصناديقَ
أسلحة.. ـ.ت، ماذا ادّخرتَ ليوم زفافك يا من تدفن وجهكَ في أطلس البروج
بانتظار أن تتذكر اسمك؟
ـ .. ما اسمك؟
ـ لا شيء، أريد أن أقبّل جرحك المفتوح للصيف.. وأنت؟
ـ أريد أن أشكر الضباب الذي يرفو الثقوبَ في خوذة تتقلّب على السفح..
ـ لعلّها خوذتك
ـ انها حقّاً خرافة
(
يقف الإنسان مقطّع الأوصال في شـفير الفجر، على حافّة خندق في سانوبا*،
يقف ليملأ منخريه برائحة الدم، ثم وقبل أن يتهالك، تؤاتيه شفـقةٌ مؤلمة،
شفقة تتلخص بإنقاذ الإنسان من شفقته )
ـ ما هذه الخرافة؟
ـ انه الاسم الريفيّ الذي أعطوه للموت
ـ بل هو الثلج المتقلّب في نعمة النار، ويحرق طالبيه.
سانوبا منطقة حدودية سقط فيها عشرات الآلاف من الشبان العراقيين والإيرانيين ربيع 1988
******
8 شباط
كتبت الى الزعيم: رأسُ مَنْ أسمعه يُطحنُ بمطرقة؟
وفي لياليَّ وأيامي أنينُ معدانٍ يتنازعون كأسَ السمِّ وراءَ القصب.
كتبتُ إليه:
أخي
إن البدوَ الذين وكلتَهم على منابع الفرات أثقلوها سمّا
ان عمالك خلطوا بريدك ببريد العصاةِ
وان عقربين كبيرينِ تحتَ جلدك يلتهمانِ الليلَ والنهار.
ولما أنْ وصلَ بريدي، كان رأسُ الزعيمِ أخي يُطحن بمطرقةٍ،
وكان
السبت أكتوبر 20, 2012 1:48 pm من طرف ماردة