** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
حرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 حرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سبينوزا
فريق العمـــــل *****
سبينوزا


عدد الرسائل : 1432

الموقع : العقل ولاشئ غير العقل
تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..

من اقوالي
تاريخ التسجيل : 18/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5

حرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي Empty
17102011
مُساهمةحرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي

كنت كمن يقتلع من أصله ويلقى إلى ما يشبه الصّدفة . صدفة الأمكنة الّتي
أجهلها ولا أعيها . أن أعيش كلّ هذه السّنوات هنا وأجد نفسي مدفوعا للهرب
فجأة دون أن أسعى إليه بنفسي فذلك يعني أنّني لا أملك قدرة القرار . عمرا
وأنا أشتدّ كراهيّة لهذا الحوش البغيض وأتمنّى أن تدوسه أقدام عملاقة
وتحوّله إلى طحين من الاسمنت والرّمل والحجر حتّى أحسّ بذلك المحو الخارق
لكلّ ما يجرحني ويهتك شعوري بالرّفعة والأنفة لكن ظلّ ذلك حلما لطفل فتح
عينيه على ما لا يرضى . كان أطفال الزّقاق ينعتونني ببذاءات عديدة ولا أجد
ردّا إلاّ الانفراد بهم واحدا واحدا والانتقام منهم إلى أن تمكّنت بعد شهور
من جمع عصابة حولي . كلّ ماسحي أحذية المدينة صاروا بعد مكابدة تحت إمرتي .
صرت سيّدهم الّذي يخشونه ويقرؤون له حسابا . كنت كلّما اجتمعت بهم في خربة
البراميل وعلوتهم كملك شعرت أنّني أستطيع حفر مصيري وحدي دون حاجة لعائلتي
. أوامري ظلّت لسنوات تجاب دون تردّد أو خوف . كان عامر الوافي من جملة
ضحاياي الّذين لقّنتهم درسا . كان بعد أن دفعني من صدري على مرأى من ليلى
ابنته وأنا أخطو ملتصقا بها تحت مطريّتها وألقى بي في بركة ذلك المساء
الممطر شعرت أنّني منبوذ ولا أحد في الزّقاق يحبّني أو يراني كبقيّة
الأطفال الآخرين . بدا لي أنّني دونهم قيمة وتوقّعت أنّهم يوصونهم بعدم
الاقتراب منّي واللّعب معي . ذلك كان أبشع إحساس عشته . إلى الآن أشعر به
كإبر تنهش لحمي . ظللنا لأيّام نترصّده إلى أن باغتناه ليلا وهو عائد إلى
الفيلا متعثّرا . كان السّكر باد عليه . فجأة شددت كيسا إلى رأسه إلى أن
بلغ حدود صدره وأحكمنا وثاقه بحبل . حاول الخلاص منّا ولم يتمكّن . صاح فلم
ينجده أحد . قدناه إلى الخربة . هناك فتحت الكيس بموسى من الأعلى إلى أن
ظهر وجهه . لم يصدّق الأمر وهو يراني أقف قبالته وقد اشتدّ غضبي وثارت
ثائرتي . أهنته ليلتها كما ذلّني مساءها أمام عيني ليلى إلى أن بلغت منه
شبعي ثمّ انحدفت نحوه سيقاننا ركلا وهو يجري في لهاث وتعثّر إلى أن اختفى .
بعد ذلك صار يهرب بعينيه عنّي كلّما رآني . ينتابه حرج بالغ وهو يهوّم في
الزّقاق متوقّعا قدوم أصدقائي الصّغار فجأة . يسرع الخطو نحو وجهته دون أن
يلتفت خلفه . سرعان ما يغيب وأنا أتابعه في كبرياء كي أذلّه أكثر . ليلى
دائما ما أراها تقف بيننا . كما لو أنّها تلومني على صنيعي مع
أبيها.تترجّاني حتّى لا أتعرّض له مرّة أخرى. تستدرجني إلى هدنة معه . ترى
أنّني تطاولت عليه بالقدر الكافي .
أنا الآن راحل . سأترك هذا الحوش والحيّ برمّته . قد أجد لي أهلا أو
أسرة ما في أرض أخرى غير هذه الأرض . كلّ ما مضى عليّ هنا سيمحى دون رجعة .
ما يملأني أخيرا أنّني واجهت وقاومت وصفعت من صفعني وذللت كلّ من أهانني
ولم أطأطئ رأسي لأحد إلاّ لأمّي . الوحيدة الّتي لم أجرحها أو أشتمها هي
العارم . بدت لي دائما تلك الأرض البور الّتي انفلقت وقذفتني إلى هذه
الدّنيا وإن حاولت أن تلئم ما انكسر داخلي لكنّها لم تبلغ ذلك وأنا أرى
يأسها يختلط بدموعها ويتهالك عند قدميها لينبت ما يشبه الشّوك . حيلتها وهي
تشير عليّ بالذّهاب إلى مصطفى الضّاوي لم تنفع . كانت مجرّد توقّعات خائبة
. ذلك الرّجل المتحذلق لا يمكن أن يكون أبي . لو كان كذلك لتبرّأت منه .
هو لا أكثر من حشرة بغيضة في تلك العاصمة وإن بدا عليه الجاه والنّعمة .
مثله في عدد شعر الرّأس وخيباتهم أشدّ وطأة من ذلك البهرج الفارغ . تماما
كالسّوس الّذي ينخر في تواطؤ بشع عظام هذا البلد ويدفعه إلى هاوية . إنّهم
زمرة عجيبة تستفحل يوما بعد آخر ويتناسلون كلّ يوم دون أن يتوقّفوا أو
يواجههم الآخرون الغارقون في صمتهم .
بكيت ليلتها طويلا . كنت كمن يلقى بعيدا . تماما كزبالة . لا أحد سيقف
دوني والباب ويتمسّك ببقائي . كنت كلّما سافرت إلاّ وعدت بعد غيبة إلى هذا
الحوش المنتن . ظلّت وشيجتي به قائمة لسنوات . هناك أمّ تنتظرني حتّى أعود .
الآن لن ينتظرني أحد إلاّ هذا المواء الّذي تطلقه قطط جائعة في الزّقاق
ولم تجد ما تأكل . إلاّ هذا اليتم المعشّش في كوى وأركان الحوش . لو كانوا
هنا لما غرقت في هذه الجهمة الحادّة . كنت سأمضي دون أوبة . سأحسّ وأنا
أبتعد أنّ هناك أهل لا أرغب فيهم خلفي . هذا لن يهوي بي إلى كلّ هذا الوجع
الّذي يصرخ داخلي في هذه اللّحظة المربكة .
تسوّرت ثمّ بلغت السّطح وجلست . هنا كانت تتشكّل كلّ مغامراتي الصّغيرة
وتتبدّى بعبثها دون خوف من نتائجها وعواقبها . ردّة أفعالي كانت تطبخ في
صمت قد يدوم لحظة أو ساعة أو يوما . ظلّ عبد الرّحمان العامري ذلك الغول
الّذي لا يسقط إلاّ بعد دهاء وحيلة . أمضى سنوات وهو يرهبني . كلّما رأى
ساقيّ تتدلّيان إلى أسفل وأنا غائب في الصّمت إلاّ وتوقّع ما لا يطرأ له
على بال . كان يحذّر أمّي من مغبّة ما سأفعل . كما لو أنّه يترجّاها حتّى
لا أقوم بحماقة ما .
لا أدري كم بقيت جالسا هناك . كلّ تفاصيل ذلك الماضي البعيد اندفعت نحوي
كنمل كبير الحجم كثير . يعضّني ويترك في كلّ موقع على جسمي آثارا كالقروح .
كانت لهفتي للرّحيل تكبر كما كان إحساسي بالدّون بشعا جدّا . هذه المرّة
لن ينتظرني أحد . ذلك الخاطر كان منشارا يحزّ قلبي شيئا فشيئا إلى أن
ابتعدت وتركت كلّ ذكرياتي المرّة خلفي دون أن ألتفت . فقط ظلّت ليلى تدفع
يديها نحوي وتجذبني إليها كمغناطيس وتقشّرني كلّما خطوت إلى الأمام وتلقي
ببقايا عالقة بي فأشعر بها تتهالك ورائي محدثة ضجّة ما بعيدا . إنّها
تفتكّني من هذه المدينة إلى أخرى . روت لي الكثير عنها حتّى صرت أجهلها .
لم تراها ليست كغيرها ؟ الحمّامات مدينة ضاربة في التّاريخ وهذا عاديّ .
كلّ مدننا السّاحليّة المشرّعة على البحر مشبعة بالقديم ويكمن فيها أسر
خالص ولها تاريخ ملفت . من جلد ثور علّيسة الّذي حوّلته إلى شريط لا نهاية
له في عيني ملك هام بها وتمنّى فتنة جسدها وهو يخطو على أرض رحبة مترامية
الأطراف إلى الحنايا الّتي قامت وقطعت مسافة طويلة حتّى تحمل ماء زغوان
العذب إلى ثغر حبيبة أراد أبوها الباي توريط عاشقها في مهمّة مستحيلة ولم
تفلح محاولته معه وهو يفاجأ بالماء يقبل في هسيس على شبر من نافذة ليلى إلى
أيّامنا هذه . كلّ هذا الوطن خصب بالجمال والخرافات والحكايات . جدّاتنا
يروين ما لا يطرأ على بال . خيالهنّ بليغ وحافل بالعجيب وإن سهونا عن ذلك .
هي ليست ليلى الوافي . هي ليلى بنت الباي . كلتاهما عاشقتان وإن جمعتهما
هذه المدينة معا . بينهما عشرات السّنين فقط . الزّرقة فيهما ظلّت هبة
البحر الّذي يحضن مدينة الحمّامات . هي الحكايات الّتي بقيت واختلفت من فم
إلى آخر وإن بلغت ليلى مسالك غريبة أخرى لا تصدّق في رسالتها رغم ثقتها وهي
تحبّرها لي في تكثيف ساحر وتملأني بولوج كالخرافة إلى أسرار شتّى في
مدينتها الّتي عشقها عامر الوافي وزوجته مريم بعد عطلة أمضياها فيها
وانتقلا إليها بعد مرارة قصيرة العمر في العاصمة مع ابنتهما . ذلك أمر آخر
أرجأته إلى حين لقائنا . هي تدرك لهفة أهل الزّقاق على تتبّع أسرار عائلة
عامر الوافي رغم رحيلها من سنوات عن ذلك الحيّ . كما لو أنّها ترغّبني في
اكتشاف حقائق لا عدّ لها وتعدني برواء عميق بعد عطش طال أمده وظلّ حبيس
الأسئلة الّتي تقادمت ولم تهمد بعد .
الآن فقط شعرت أنّ المضيّ إلى أبعد ما أستطيع قد يخفّف وطأة الدّون
الّتي تلبّستني عميقا ونالت منّي . كان هناك ما يشبه المقصّ الصّدئ
يتتبّعني ويتعقّب وجهتي ويجتزّ ما هو بال فيّ ويلقي به حولي كما اتّفق إلى
أن تعرّيت تماما في ذلك اللّهاب اللّيليّ السّافر . تخفّيت حتّى لا يكتشفني
أحد إلى أن بلغت محطّة المدينة . هناك تواطأت مع تحيّات الصّباح البليدة
الّتي لا تحمل حرارة اللّقاء بقدر ما تعني واجبا ثقيلا يخفي خلفه أكثر
النّوايا سوءا ...


فصل لمدينة بنت الجيران : ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نزفت أخيرا ...
تشكّلت كتلة من الوحل الكسير إلى أن صرت عجينة بين أصابعي الدّامية وتسللّت
من بينها في دفء لا عهد لي به وأنا أرسم لي ملامح أخرى في مكابدة غريبة
محاولا أن أبدو لهفة لرجل لا أعرفه كما لو أنّه القطيعة وهي تحتقن بغضب عال
لا أعيه لكنّني أحسّه مغمض العينين يسعى لفتحهما على مسالك أخرى لهذه
الدّنيا . هذا أنا مرّة أخرى . كنطفة لبعث يعتمل نارا حارقة تهتك سنوات مضت
كالوباء . تركنها في كوّة معتّمة وتستعر فيها حتّى تحوّلها إلى رماد .
تذروها كما اتّفق ثمّ تطبق عليها كالموت . هكذا بدا لي الحسم بسيطا وأنا
أنفلت من خلف تلك الجدران وأمضي دون وجل إلى لا شيء وبلا وجهة محدّدة وإن
رمت مدينة الحمّامات لأنّ لي حبيبة هناك . هذا ما تقوله رسالتها وإن لامست
أخرى تحمل اسمها . بين غريب يدعى عامر الوافي وباي هذه الأرض عشّاق عديدون
قد أكون منهم ودفق من الماء أحسّه يسيب في سواقي شاهقة عند أكثر من نافذة
وشرفة .










ليلى عامر الوافي ...
أكاد ألمس وجهها النّاعم المستدير كعبّاد الشّمس قبل اكتماله وهي تطلّ
من نافذتها في العليّة وتلقي عليّ تحيّة كلّ يوم وتواعدني قبل نصف ساعة من
دخولنا إلى المدرسة الثّانويّة . كذباتها العديدة وأعذارها الملوّنة بين
شفتيها وهي توهم أمّها بضرورة خروجها أكاد أستعيدها الآن كعقد انفرطت
حبّاته وسقطت على راحة يدي .
ياااا ... كم هي السّنوات مهملة إلى حدّ يشبه الحقد والسّخريّة معا .
بعد كلّ هذا البين تصلني أخيرا رسالة منها لتشعل حرقة طفلين درسا معا وجلسا
على نفس المقعد لأكثر من ستّة أعوام . فجأة يلقى خيط دقيق من بعيد ليصل
بيننا . أليس هذا غريبا ...؟ أليس مضحكا في نفس الوقت ...؟ لعلّ هناك من
يراه هجينا أو شيئا يشبه الكذب لرجل حصلت له من الوقائع ما يطحن الحجر
الصّلد ... هذا ليس مهمّا ... ما يثير هو تفاصيل حكايتنا الصّغيرة ...
لم يكن عامر الوافي جارا عنيفا أو بغيضا بل كان رجلا مزاجيّا غارقا في
صمت غريب . لم أره يوما يميل إلى الثّرثرة عندما يجلس أحيانا في مقهى
الزّقاق . كان لا يتحدّث إلاّ في ما ندر . يتبدّى حزينا متحفّزا كما لو
أنّه يسعى إلى القبض على خاطر ما أربكه . لحظات تيه تمضي بعيدا عن ذلك
الرّصيف وهو يترشّف بنّه في بطء غريب . هناك ما يسوطه إلى أسرار تأبى
الخنوع له وهو يجهد نفسه حتّى يلحق بانفراط ما ولم يدركه بعد . كنت دائما
ما أراقبه من سطح حوشنا وأحاول أن أكتشف ما يدور في رأسه . أحسّه مغلقا لا
يهتمّ لكلّ ما هو عاديّ عابر . ظلّ يهوّم دائما كما لو أنّ الزّقاق الّذي
يعيش لا يعنيه . إنّه يضيع قصيّا ويفرط في غيابه عن الجميع . أحيانا لا
ينتبه للنّادل وهو يقف أمامه منتظرا ردّه . يستفيق فجأة ويبخل في طلبه .
يحرج كلّ من يراه لأنّه يتبدّى متطاوسا لا يهتمّ لتحيّة تلقى عليه . مرّات
قليلة أراه فيها مبتسما . قلّما مازح أحدا على ذلك الرّصيف رغم نكتته الّتي
تتردّد بعد ذلك وتدفع الكثيرين على الضّحك . كانت نكاته القليلة عسيرة
عليّ وأنا أنصت إليها ورجلاي تتدلّيان من أعلى على حافّة السّطح . أذكر
أنّني غرقت في الضّحك مرّة مع الآخرين . لم أشعر يوما أنّه قادر على أن
يسعد أسرته الصّغيرة المكوّنة من زوجته مريم وابنته ليلى لكن الّذي أثارني
فعلا هو مدى تعلّقه بتلك الفيلا الّتي تشبه قصرا صغيرا رغم راتبه القليل .
أبدو مغفّلا مثل الآخرين إذا اعتبرت عامر الوافي رجلا أحسن ترتيب حياته
ورسم هدفا ما في هذه الدّنيا . من المستحيل أن يقيم تلك الفيلا الفخمة
لكونه يوفّر من راتبه ما يكفي كلّ شهر لبناء جدار أو حفر أساس لغرفة تلو
الغرفة . إنّ حياته متشعّبة تغرق في دونيّة أولئك اللّصوص الصّغار الّذين
يكتفون بالعظام وما تبقّى من لحم عسر نزعه . هذا ما قاله عنه عبد الرّحمان
العامري ذات ليلة فاض فيها نبيذه وبلغ منه مبلغا شديدا . أكاد أذكر تلك
اللّيلة بتفاصيلها وأنا أجلس على ذلك الكرسيّ آمرا ناهيا وعيناي تحطّان على
وجهه :
( 1 )
( – عامر الوافي الّذي يزعجنا كلّ مرّة هو لا أكثر من لصّ كريه .
لم نصدّق ذلك واعتبرنا الأمر لا يخرج عن ردّة فعل غاضبة لكن أمّي أكّدت ذلك
وهي تكاد تسقط على قفاها لنوبة الضّحك الّتي باغتتها فجأة وتمكّنت منها
حتّى خنقتها :
- لا أحد في هذه المدينة يحمل ذرّة شهامة أو مروءة . إنّهم يتمعّشون من البقايا جميعا .
ويعلو صوتها كما لو أنّها تعود من غياب مفاجئ :
- تماما كالذّباب .
وتتهالك كما لو أنّها تكره ما تريد الكشف عنه :
- هناك من يلاحقه السّباب والعهر أينما حلّ كهذا الكاسد أمامي وهناك من يتخفّى وراء بهرج موحيا بالوجاهة وهو لا أكثر من كلب.
وتلتفت نحو الجدار . تكاد تخترقه نحو شرفة العلية لفيلّته المقابلة لحوشنا :
- عامر الوافي هذا دون الكلب . إنّه كتلة مقرفة تتحرّك في هذه المدينة التّافهة .
انحنيت ليلتها عليها في دهشة :
– لماذا تحوّلون كلّ من يزعجكم في هذا الحيّ إلى جيفة ؟ إنّ عامر الوافي
رجل محترم والكلّ يلقي عليه التّحيّة . هذا إلى جانب نكتته الّتي تخرج من
بين شفتيه في حينها . إنّه محبوب وكلّما جلس في المقهى إلاّ وتحلّق حوله
الكلّ لحلاوة حديثه ومزاحه . هذا لا يحصل دائما لكنّ ما يأتيه أحيانا يبدو
مثيرا . لقد اكتشفت ذلك بنفسي .

هل كنت أتعاطف معه لأنّه والد ليلى ؟ لا أدري ...؟
تبدو الأشياء من حولي شبيهة بسائل لزج لا تستمرّ على حال . تتشكّل للحظة
ثمّ تتهاوى إلى أسفل وتتحوّل إلى خليط غريب ملوّن . هل هذا ما يسمّونه
الماضي ؟ هل هي الذّاكرة المشوّشة الّتي تخشى السّقوط في حقائق كالفخّار
وسرعان ما تتشظّى مع أوّل شكّ عابر ؟ هي تماما كتلك العجينة المتروكة
للشّمس والنّار . لا أحد يصدّق تلك الأصابع وهي تحتفل . إنّها تكتب بحبر
سخيّ :
( 2 )
( الأمل يكفي لمحو كلّ ما فات . لا تتردّد في المجيء . أرجوك قاسم . أنا
في حاجة شديدة إليك . قد تدهش للهفتي لكنّ مشاعري تفوقها حرارة وهذا
ستدركه حتما لحظة وصولك . من يومين فقط رأيت صورتك على الصّفحة الأولى
لجريدة الصّباح . العنوان الغليظ أعلاها كان كافيا حتّى يصدّق النّاس أنّك
لا يمكن أن تؤذي نملة . لعلّني الوحيدة الّتي جزمت ببراءتك ورأت أنّ سجنك
لا أكثر من محنة عابرة وستخرج منها أقوى من ذي قبل . أبدو مهدودة ومهزوزة
وهذا يتبدّى في خلطي بين وحدتي وضراوة هذه الجدران الباردة ... ) .

ليلى ... الوحيدة الّتي لم تخدشها الذّاكرة . ظلّت كما هي وشما دون أن
تمحى . ذلك الحبّ البعيد كقبلة لم تهمد رائحتها إلى الآن . إنّها كحفنة ماء
تتسلّل بين أكثر من نوبة عطش . الآن فقط أشعر بدهشة دفء تلك السّنين
البعيدة الّتي لا يضاهيها شيء . كنت في السّابعة عشرة من عمري . أكبرها
بشهور قليلة . يااااا ... كم كان ذلك عامرا بالحلم أيّامها وإن بدا لي
أحيانا صبيانيّا وطائشا . في لحظة ما نحسّ أنّ حسمنا مع شبابنا الأوّل
مجرّد ترهّل لحرارتنا الفتيّة وإن تقنا لرؤية حبيباتنا ولو للحظة . ذلك
سيحيي حتما توقّدنا الأوّل ولعلّنا قد نجد شفاها ليست شفاهنا وإن رمنا
حديثا مرتّبا يتماشى مع تقدّمنا في السّنّ حتّى نظهر أكثر اتّزانا كما لو
أنّنا نمضع لعبة خداع هشّة ولا نتراءى على سجيتنا مبدين ما بلغنا من نضج
فارغ . صباحها كانت أكثر من شاحنة تقف أمام الفيلا لتنقل الأثاث الكثير
. كنت مستندا إلى النّافذة أرى الحمّالين وهم في جيئة وذهاب . عيناي كانتا
مترعتين بالدّموع وأنا عاجز تماما عن منع ما يحصل . كيف لعامر الوافي أن
يقترف مثل هذه الحماقة ويفرّط في فيلّته الّتي عشقها طيلة السّنين الماضية ؟
لم يخطر ببالي أنّ ليلى ستترك عليتها ولن أرى وجهها في الصّباح التّالي
وهي تبتسم وتلوّح لي بيدها وتواعدني كعادتها . هل كان عبد الرّحمان العامري
واثقا من رحيل جاره إلى غير رجعة ؟
ليلتها كان أشبه بخنزير وهو يسبّ ويشتم :
( 3 )
(- سأعجّل برحيله قريبا . لن يستمرّ هذا الموبوء في إزعاجي إلى الأبد .
من هو عامر الوافي هذا ؟ إنّه كذبة هذه المدينة من سنوات مضت . الكلّ يعرف
كيف توصّل هذا اللّصّ الصّغير إلى امتلاك هذه الفيلا . إنّه ينهب في ذكاء
ولا يترك خلفه ما يثير الشّبهة وإن كانت بادية للجميع . لكنّها شبهة سائبة
منفلتة لا يستطيع أحد ما مسكها . هذا هو عامر الوافي . داهية صغير يحسن صنع
الضّحك على الذّقون . في أماكن مغلقة يتحوّل إلى مهرّج بالغ التّأثير .
دائما ما يملأ البطون المتخمة بالنّكتة الهادفة . روحه مرحة لكنّها تكمن في
جسم ثعلب ماكر . لقد كان هو أيضا ملذّذا خفيّا لآخرين يعشقون خلوتهم دون
أن يكتشف أمرهم أحد. لقد أوصد عليّ أكثر من باب للرّزق طيلة سنوات ولم
أتوصّل إلى حسم أمره رغم ما بذلت من جهود وما قدّمت من أموال حتّى أتمكّن
منه . هو داهية يحسن أداء دوره دون أن يفرط فيه . دائما ما يختار الحلّ
الوسط ولا يمسك العصا من طرفها . تماما كذئب لا يتعرّى ولا يكشف أوراق لعبه
دفعة واحدة لغيره . على جرعات عديدة يبلغ هدفه في حذر . يتمكّن من الرّواء
أخيرا وإن تعتعه العطش مدّة طويلة . الحقيقة عنده مجزّأة دائما . لا تصل
كاملة أبدا . غيره هو من يتعقّبها حتّى تبلغ من يريد أن تصله . لا يغضب
ويثير غيره . فقط يوحي بالعواقب الوخيمة إن تطاول عليه الآخرون دون أن
يوجّه إصبعه إلى الشّخص الّذي يستهدفه أو يتوقّع منه شرّا ... )

الآن فقط أدرك سبب تفريط عامر الوافي في فيلّته . ها هي الذّاكرة عادت من
غيابها لتهتك الأسرار البعيدة الّتي لم تلتئم كما يجب حتّى أتمكّن من ربط
السّبب بالمسبّب وأبلغ الخفايا من وراء ذلك . لعلّ ليلى تجيبني وتبدّد هذه
الغشاوة بعد لقائي بها .
وسيّارة الأجرة تتّجه شمالا كنت هائما في أكثر من حالة سائبة . لماذا
كتبت لي بعد كلّ هذه السّنوات ؟ أين قضّت سنواتها الفارطة قبل أن تستقرّ
أخيرا بمدينة الحمّامات ؟ هل تزوّجت ؟ لعلّها ترمّلت ؟ قد تكون مطلّقة ؟
ربما لم تتزوّج ؟ ما أثارني أيضا أنّها وصفت لي مدينتها بشكل مثير جدّا
غارق في شعريّة عاليّة كما لو أنّها تقتطع هذه المدينة السّياحيّة من رحم
سحريّ بعيد في زمن ضارب في القدم ؟ تبدّت لي أخرى لم ألجها من قبل وإن كنت
أحبّ هذه المدينة من سنوات مضت لجمالها وطيبة أهلها وهدوئها رغم زحمة
النّاس فيها ولهفتهم على زيارتها .
( 4 )
( أنا أعيش الآن في مدينة الحمّامات الجديدة . هي مدينة قامت حديثا
لكنّها ضاربة في القدم . هكذا قامت إلى جانب أخرى . كما لو أنّها كانت
غائبة تحت الأرض واستيقظت فجأة . ما يشبه المخاض حصل فجأة دون أن نعيه أو
نتبيّنه إلاّ بعد حصوله . إنّ الأمر أقرب إلى ألف ليلة وليلة أو إلى رسّام
عاد من غيبة قصيّة ومعه ألوان لا عهد لنا بها. لن تصدّق ذلك وهي تهبك
رائحة منسيّة كحلم جميل عصيّ لا يستباح إلاّ لمن زارها وتوغّل فيها وحاول
أن يستعيد طعما ضائعا منّا ... ) .

ذلك ليس غريبا عن ليلى الّتي بهرتني برسومها الغريبة أيّام دراستنا
الثّانويّة . كم كانت الألوان طيّعة بين أصابعها . كانت تعشق المعمار وتهيم
به كأبيها . هل أثّر فيها إلى ذلك الحدّ ؟ يومها استقبلتني في الفيلا .
أبوها وأمّها وأخوها غابوا عن البيت ليوم كامل . قالت لي صبيحتها :
– أراك بعد منتصف النّهار حالما أنتهي من إعداد طعام الغداء .
كنت أتوقّد توقا لاكتشاف الفيلا من الدّاخل . لسنوات ظلّت تلك الحيطان
العاليّة سرّا جديرا بالكشف . كم مرّة صعدت إلى سطح حوشنا حتّى أتبيّن
داخلها وما يتراءى منها . لم تصل عيناي إلاّ إلى حديقتها المتراميّة أو إلى
العلية الّتي تطلّ على نافذتنا الوحيدة المفتوحة على الزّقاق الّذي يفصل
بيننا . عامر الوافي ظلّ ذلك الرّجل اللّغز بالنّسبة لي . لم يسمح يوما
بدخول أيّ كان إلى فيلّته من جيرانه . كان هناك فقط بعض الزّائرين الغرباء
الّذين يوقفون سيّاراتهم في الفسحة الواسعة أمام الباب الخارجي ويلجون إلى
الدّاخل . قلّة منهم كانوا يغيبون بسيّاراتهم مع ممرّ الحديقة وسرعان ما
يغلق الباب خلفهم . زوجته السّيّدة مريم امرأة متحجّبة قلّما ظهرت في
الزّقاق وتحدّثت لنسائه أو حاولت التّقرّب منهنّ . ظلّت لسنوات حديثهنّ
وهي تخرج فجأة وفي أوقات مختلفة صحبة زوجها في سيّارتهم القديمة ثمّ تعود
كالطّيف وتختفي . فصّلت حيكت حولها حكايات لا حصر لها .
استقبلتني ليلى من خلف الباب مشيرة بيدها أن ألج بسرعة حتّى لا يراني
أحد . تبدو خائفة من عيون الزّقاق . قد يصل أمرها إلى أبيها فيعاقبها .
كانت ترتدي فستانا أبيض مزركشا بألوان خفيفة وحذاء أزرق باردا كشاطئ بكر .
بدت تماما كأميرة وشعرها المشوب بصفرة آسرة يتهالك إلى أسفل في تموجّات
صحراويّة حميمة يكتنفها سراب هو مزيج ألوان تظهر وتختفي مع خطواتها في ممرّ
الحديقة الّذي تبدّى بقايا قطع رخام تكتظّ في فوضى سلسة توحي بذوق عال .
دخلنا قاعة جلوس متراميّة عامرة بمكتبة تمتدّ مع حيطانها مشكّلة ما
يشبه القباب لتتراءى لوحة تختزن تفاصيل خرافة مبهمة وقد امتلأت كتبا
متنوّعة من كلّ حجم وشكل . في الرّكن كنبات من خشب رفيع حفرت فيها حوريّات
صغيرات تحمل كلّ واحدة منهنّ أوان فخارية مليئة بالماء في سعي دؤوب نحو
عطاشى مهملين على شكل طيور في الأسفل .
على كرسيّ هزّاز بدا لي عامر الوافي جالسا وسط خدمه وحشمه كملك خرافيّ .
جلست أقلّب نظري في تحف لا حصر لها رتّبت بشكل لا يزعج العين وهي تنتقل من
مكان إلى آخر ممتلئة برهبة . وأنا أجوب كلّ ما حولي ظهرت ليلى مبتسمة
مشيرة بيدها أن أتبعها . تسلّلنا إلى العلية كما لو أنّ هناك من يراقبنا
خلسة أو يتوعّدنا في صمت دون أن يجد نطقه . خفنا من الجدران أن تفضح
مغامرتنا الصّغيرة وتروي لعامر الوافي فعلتنا . توقّعنا أنّ أحدا لا ندرك
له ملامح معيّنة قد يشي بنا وسط تلك الرّائحة الّتي تختلف عن رائحة زقاقنا
المترع برطوبة لزجة ونتانة أحيانا . هنا في هذه الفيلا تبدو الرّائحة أخرى
. ياسمين وفلّ وعطرشاء ونعناع وتوابل وخزامى . كما لو أنّها منفصلة عن
المكان والزّمان ولا تنتسب لما هو قائم حولها . بين حوشنا الموبوء الرّخيص
وبينها مسافات لا يمكن حصرها رغم أنّ الزّقاق يفصل بينهما . كم تمنّيت
لحظتها أن أكون ابنا لعامر الوافي . هكذا غمرني هذا الإحساس وتمكّن منّي .
هناك روح معطّرة وسائبة تندسّ في الباحات الصّغيرة وتنتشر في الشّرفات
والغرف وتحتضن كلّ الحيطان في حميميّة بالغة جدّا . من سنوات وأنا أشتاف
لها وأشعر بها عالما مشبعا بعشرات الأسرار ولم أترك عادة سرقة النّظر إليها
لتكبر لهفتي معي شيئا فشيئا حتّى صارت حلما أقرب إلى مستحيل لا يمكن أن
يتحقّق . أبدو الآن كلصّ وأنا أصعد مدارج الرّخام وأقلّب بصري في كلّ ما
حولي. أخيرا تمكّنت من عامر الوافي وولجت تلك الهالة المغلّفة بالخفايا دون
إذن منه أو رجاء من زوجته السّيّدة مريم .
الخريف يتراءى أقلّ حدّة على جانبي الطّريق وصاحب سيّارة الأجرة مازال
غارقا في ثرثرته حول سوء الحال وقلّة ذات اليد وأطفاله الّذين لا يكفّون عن
مطالبهم صباحا مساء وزوجته الّتي سرعان ما تتهالك على الفراش وتغرق في نوم
ثقيل ولا تكلّف نفسها عناء السّهر معه ولو لليلة واحدة في الأسبوع هذا إلى
جانب تركه للخمر الّذي أفسد أيّامه وصارت رتيبة بلا طعم .
تبدو المسافة ثقيلة وأنا أتلهّف لرؤية ليلى . إحساس ما يفضي بي إلى
أيّام مقبلة تختلف عن سنواتي القاتمة الّتي عشتها في ذلك الحوش مع عبد
الرّحمان العامري والعارم وربح وحليمة . إلى هذه اللّحظة أشعر أنّهم
سيعودون إلى ذلك الحوش ويغرقون مرّة أخرى في معيشهم وعاداتهم الكريهة . لا
يمكن للموت أن يمنعهم من الأوبة من جديد . هم أشدّ قرفا من الموت . بدونهم
يستحيل أن يخطف أرواح النّاس وتعود الحياة إلى تلك المدينة الهاتكة لكلّ ما
هو جميل فيها . يعسر أن تغيب العارم نهائيّا وتجتثّ من تلك الرّائحة
العائمة في الزّقاق كما أنّ عبد الرّحمان العامري يصعب أن تتخلّى عنه تلك
الجدران السّافلة ويتحوّل إلى بقايا عظام في خلاء منبوذ يهرب منه الأحياء
قدر ما يستطيعون لأنّه يذكّرهم بالعدم وكلّ ما هو مبتذل ورخيص .
إلى هذه اللّحظة وأنا أزيل الأغبرة المتراكمة وأحاول أن أستعيد تلك
التّفاصيل المنفلتة مقوّضا في مكابدة مرارة ما حصل لي . أسعى لمحو كلّ
الّذي فات حتّى أنطلق من جديد بلا ماض .. بلا ذاكرة .. بلا شعور بالرّجس
والدّون .. هل يمكنني ذلك بعد سنوات طويلة في ذلك الحوش ؟ قد يكون إحساسي
بصباح آخر مختلف لا أكثر من نزوة عابرة وأنا ممتلئ بحبيبتي الأولى .
ولجنا أخيرا غرفتها بعد صعود بطيء إلى العلية . بدت لي الغرفة سماء
صغيرة مليئة بالنّجوم والألوان الهادئة . تماما كقصيدة شعر تلقى وسط صمت
روحانيّ غريب . لا أدري كم أمضينا معا وما دار بيننا من كلام . ما أذكره
الآن دون سواه هو ما يشبه القبلة . شفتان اقتربتا منّي وأنفاس عبقة برائحة
تلك الفيلا تحطّ على خدّي وتمضي إلى أسفل كحرير . هل قبّلتني ؟ هل قبّلتها ؟
لا أستطيع أن أحزر ذلك . فقط شعرت بخدر ما أقرب إلى غيبوبة لذيذة تحملني
مع تلك الرّائحة إلى أرجاء الفيلا المتراميّة الأطراف وتذرفني فيها ذرّات
حالمة لا تلتئم . أفقت أو هكذا توقّعت على صوتها الرّخيم وهي تطلب منّي أن
أتناول عصير البرتقال . هل تركتني غائبا عن وعيي وذهبت لتعدّه ؟ هناك
أشياء كثيرة حصلت دون أن أعيها لكنّني أكاد أدركها . أكاد ألمسها . كما لو
أنّ أصابعي اندسّت في شعرها وغابت هناك . كما لو أنّ صدرها حطّ على صدري
بكلّ نبضه العالي . كما لو أنّ ذراعي أحاطت بخصرها وجذبتها في رقّة لا مثيل
لها لأمتلئ بأنفاسها الحارّة إلى حين غير محدّد . هناك أمر حصل لا أقوى
على رسمه كما هو . حركة أو ما شابهها . أقرب إلى زهرة وهي تنضمّ فجأة
يغلّفها ندى بلغ كلّ بتلاتها الغائبة ومضى رحلة نوم لا أدري مداها . هكذا
عشت تلك اللّحظات برمّتها دون قدرة على ترتيب وقائعها كما هي أو استعادتها
كما حصلت تماما .
الخريف يتهالك مع الطّريق تحت وطأة صيف مازال متشبّثا بشدّة حرارته إلى
آخر لحظة رغم الرّذاذ الّذي يتحوّل بين حين وآخر إلى شديد في طشّ سريع
ويتواطأ مع ثرثرة صاحب سيّارة الأجرة المفجوع لسقوط بغداد دون مقاومة تذكر.
ظلّ لأكثر من ساعة وهو يشتم ويتوعّد . دموع قليلة كانت تترقرق في عينيه :

– لم أصدّق ذلك . تركت العمل لأيّام وأنا مسمّر أمام التّلفاز أتابع ما
يجري . كنت أنتظر معركة بغداد الفاصلة . توقّعت خسائر لا حصر لها . لا أدري
لماذا تلبّستني معركة الشّوارع وظللت أنتظرها بفارغ الصّبر ؟ فجأة ضاع
منّي العقل وأنا أرى المارينز يساعدون البغداديين هناك على الإطاحة بذلك
الصّنم . هكذا انتهت الحرب . ببساطة لا أبشع منها سابت المقاومة ككذبة على
شاشات التّلفزيون وانتهى كلّ شيء .
وعلا صوته وهو يضرب المقود في حدّة براحتيه . دموعه غلّفت خدّيه وهو يسرع بشكل هستيريّ :
– إنّها كارثة . كيف تسقط بغداد بذلك الشّكل المهين ؟ أكان يجب أن يحصل ذلك
بتلك السّرعة ؟ لماذا كلّ تلك الأكاذيب والبهرج الفارغ ؟ ألا يكفي ما
نعانيه حتّى نفجع مرّة أخرى ؟ إلى متى سنظلّ نمضغ مآسينا ؟ هل قدرنا أن
نعيش الذّلّ دائما ونريق ماء وجوهنا مع كلّ مواجهة ونغرق في هذا الصّمت
الكسير ؟ متى يمكن أن نستفيق ؟
وعاد للشّكوى وهو يزيل دموعه حتّى يرى الطّريق جيّدا بعد أن تهالكت سرعة السّيّارة .
نظر إليّ جانبيّا في استياء :
– لماذا جلست حذوي ؟ ألا تنطق ؟ ألا تردّ أبدا ؟ لقد تعبت وأنا أتحدّث إليك ؟ ابتسمت لردّة فعله ودفعت إليه بسيجارة :
- هل يجدي ردّي نفعا ؟ هل تكفي الشّكوى حتّى لا تستباح بغداد ؟
جذب نفسا عميقة وأطلق الدّخان ليعمّ الوجوه خلفنا . لا أحد اختنق أو قال
لا . فقط سعل البعض من الرّكّاب ثمّ حطّ الصّمت وصار ثقيلا كالموت .
ليلتها كان عامر الوافي شجن الجميع . أمّي كانت مبتذلة وساخطة عليه :
( 5 )
( – كم مرّة حاول طردنا من هنا ؟ لقد بذل ما في وسعه حتّى نفرّط في هذه
الخربة ونشتري غيرها . جمع كلّ إمضاءات الجيران بعد أن حبّر خسّتنا
ودناءتنا وإزعاجنا لكلّ سكّان الزّقاق . قال إنّنا مزبلة ويجب إزالتها حتّى
لا يتحوّل الزّقاق إلى مستنقع . السّافل أطنب في أوصاف لا تليق ولا أقوى
على ذكرها ...
أطلق لحظتها عبد الرّحمان العامري الهواء وهو يضغط بشفتيه على راحة يده لتنفلت ضحكته العاليّة :
– لقد جعلته أضحوكة الجميع . لا أحد قادر على مواجهتي مهما علا شأنه .
ورفع قبضته إلى أعلى في وجوهنا :
– لقد مرّغت وجهه بالتّراب ونلت منه .
رمقته أختي حليمة خطفا . كانت هناك مسحة غضب شرسة في عينيها . عادت إلى
كأسها لتدلقه في حلقها . لم يستمرّ صمتها طويلا . لعلّها كانت تلاحق لسانها
المنفلت منها حتّى تتمكّن منه فلا ينشلّ نطقها ويسيب كما اتّفق :
– رأيته يبكي كطفل وهو يقدّم مفاتيح الفيلا للمالك الجديد . ظلّ مسمّرا
أمامها لوقت طويل . لم يلتفت لزوجته الّتي نادته أكثر من مرّة . كاد يسقط
وهو يمضي إلى سيّارته القديمة . ظلام كان يغلّف عينيه وهو يصطدم بي . شتمني
بعد أن فرك عينيه لحين . قال عنّي ساقطة كما شبّه أبي بالخنزير وأمّي ب (
...... ) . قبل أن يترك الزّقاق بصق على نافذة حوشنا . مرّغ وجه أختي ربح
الّتي لاحقته بأبشع النّعوت القذيعة ... ) .

ظلّ عامر الوافي لسنوات وهو يكنّ العداء لنا . كان يشعر أنّ فيلّته
الّتي أقامها بدمه وعرقه وزهرة شبابه لا قيمة لها ما لم يرحل عبد الرّحمان
العامري عن الزّقاق نهائيّا وبلا رجعة . كم مرّة حاول شراء حوشنا . كم مرّة
أسال لعاب أمّي وهو يرسل من ينوبه خلسة عارضا ضعف الثّمن الّذي نوى دفعه .
كان ذلك آخر حلوله حتّى لا يعرض فيلّته للبيع . أخيرا سقط للحلّ السّهل
بعد أن ضاقت سبله . أعذاره الّتي باح بها لزوجته كانت مقنعة . هذا ما روته
لتلك المرأة الّتي تأتيهم أيّام الآحاد لترتيب الفيلا وتنظيفها في شيء من
الحسرة بعد أن طلبت منها أن تكتم ذلك لأنّ البيوت أسرار وأبدت ندمها العابر
على ثرثرتها الّتي تمكّنت منه لكن ما يجيش في صدرها غلبها :
( 6 )
( – ليست جيرة عائلة عبد الرّحمان العامري الرّخيصة سببا رئيسيّا في
بيع هذه الفيلا . لا ... إنّ عامر ملّ هذه المدينة . صارت بلا طعم وشللها
يستفحل أكثر كلّ يوم وهذا البطء اللاّفت يدفع بها إلى ما يشبه الموت كما
أنّ مردوديّة زوجي بدأت تضعف وتتهالك . ما عاد يكسب كذي قبل . المتمعّشون
الجدد زحفوا بعد وافتكّوا لهم مواقع أمام كلّ باب للرّزق وبأساليب منحطّة
جدّا . هذا أثّر على زوجي كثيرا لأنّه لا يستطيع أن يهبط إلى قاع موحل .
ظلّ دائما فوق الشّبهة وخدماته كانت شريفة لكنّها لا يمكن أن تكون بدون
مقابل وإن قرّر الشّماتة بخصومه الّذين ظهروا فجأة . إنّهم بلا تاريخ . بلا
أصل . نفعهم آنيّ عابر وليسوا ذخرا ثابتا . يتناوبون تباعا ومن يسقط منهم
لا يقف من جديد . المدن الكبيرة هي الوجهة المقبلة . مواجهة من لهم باع
وذراع أفضل من هذه الفطريات القصيرة العمر . لهذا قرّر الخلاص من هذه
الجدران الميّتة . بمالها يستطيع أن يدفع خطوات ثابتة في مدينة تحتفي برأس
المال وتدفع به إلى الثّروة . إلى فوق . هناك سيحسّ بوجاهة أخرى . لن تزعجه
عائلة كعائلة عبد الرّحمان العامري مطلقا . سيبجّله الجميع ويحتفون به حيث
حلّ . سيشعر بوشيجة أخرى مع النّاس . سيبني قلعة . لن يكتفي بفيلا كهذه .
هذا ما أزمعه ودمعتان تتهالكان على خدّيه . تصوّري هذا . عامر الوافي يبكي
وهو يحلم بدنيا أخرى خارج هذه المدينة . لعلّ إحساسه بالرّحيل يمزّق تلك
الرّابطة الّتي يسمّونها العشرة . صعب علينا أن نترك هذا الهواء النّقيّ
وهذا الماء الزّلال . هذا ما يميّز هذه المدينة دون غيرها. هواؤها وماؤها
وشجرها . من يعيش هنا ويرحل سيحسّ أنّه فقد الكثير ... ) .

ببساطة تركت عائلة عامر الوافي زقاقنا . كما لو أنّها لم تعش فيه طيلة
سنوات . فجأة غابوا عنه . فقط ظلّت أسماؤهم متداولة إلى حين على ألسنة
السّكّان . تردّدت لأيّام ثمّ ماتت لتأخذ مكانها العائلة الّتي سكنت حديثا .
فقط ظلّ القلّة يروون حكايات غريبة عن عامر الوافي الّذي شغل كبار السّنّ
والنّساء وطفل مثلي ولم تكفّ ألسنتهم عن استعادة ذلك .
( 7 )
( ...كم شعرت ببرودة ذلك الشّتاء لكن مشاعري كانت دافئة متدفّقة فلم
أحسّ بحدّته كغيري من أفراد أسرتي . كان عليّ أن أحسم أمري مع قلبي وأبلغ
خياري النّهائي مهما تقدّمت بي السّن ّ. يبدو ذلك غريبا مع من كانت في سنّي
. كيف لها أن تسطّر الآتي ولا تقبل إلاّ بمن أحبّت ؟ ذلك كان عبثا . هذا
ما ردّدته أمّي وهي تعدّد خصال الرّجل الّذي تقدّم لخطبتي . مال وشباب
ووسامة وعائلة محترمة تليق بأسرتنا الصّغيرة . كنت تملأ قلبي كلّ يوم يمضي .
تماما كسحر يشبه نهاية جميلة لكلّ قصّة حبّ أولى ... ) .

لاحت ابتسامة على شفتيّ مع رذاد المطر المتساقط على بلّور سيّارة الأجرة .
كيف لقصّة حبّ أن تقاوم كلّ هذه السّنين ؟ ما بها ليلى ؟ هل جنّت ؟ هل
انحبست في تلك السّنوات ولم تشعر أنّها صارت امرأة في حاجة لزوج وبيت ؟ كيف
يمكنني أن أصدّق هذا الهراء ؟ كيف لها أن تقاوم أباها وتعيش عزباء طيلة
هذه الأعوام ؟ ألم تتمكّن أمّها منها ؟ تبدو الحقيقة خاليّة من عمقها .
مجرّد أخبار لا أساس لها من الصّحّة . نزوة دفعتها حتّى تكتب لي رسالتها
الطّويلة . هل نسيت أنّني من عائلة رخيصة كانت سببا في تفريط أبيها لفيلّته
الّتي أمضى عمرا في تشييدها ؟ أتكون خرفت وهي قد تكاد تبلغ الأربعين من
عمرها ؟ لعلّه الخرف المبكّر ؟ تتراءى الأسئلة سائبة كذرّات المطر على
البلّور . أتهالك معها من أعلى لأغيب في الأسفل ثمّ أعاود التّناثر والهبوط
الحلزوني إلى وجهات عديدة مع كلّ هبّة ريح مفاجئة . أنفلت مع شتاء بعيد
عشته مزقا وحبيبتي تغادر إلى وجهة مجهولة وتتركني لذلك البرد اللاّذع وحيدا
أطارد علية كانت تلوّح لي من خلالها كلّ صباح وتواعدني ككلّ يوم . ازداد
كرهي لعبد الرّحمان العامري وتمنّيت له الموت . كنت قد شتمته في غضب وأنا
أنتصب فوق السّطح منفعلا :
- أنت لا أكثر من ثور هرم .
ثمّ بلغت مفردات سمجة لا أقوى على ذكرها :
- أنت ...........................
كان صياحي يومها يطال كلّ الجيران .
ولم أكتف بذلك ...
أحسست أنّه هشّم قلبي وقضى عليّ وقرّرت بيني وبين نفسي أن أثأر منه .
أن أعاقبه حتّى أطفئ النّار الّتي التهبت في صدري . كم مضت عليّ اللّيالي
ثقيلة لم أذق طعما للنّوم فيها . صرت لا أراجع دروسي ولا أهتمّ للمعهد .
كثرت غياباتي وكادوا يطردونني بعد إنذارات عديدة . سنتها رسبت وضاعت منّي
سنة كاملة . أمّي بكت طويلا وقالت لي إنّ قلبها تحطّم ولن تغفر لي غلطتي
مهما حصل منّي . حليمة أصيبت بخيبة أمل شديدة ورأت أنّ أمري انتهى ولن
تشيّد آمالا هشّة عليّ بعد . ربح صفعتني ودموعها تترقرق في عينيها . قالت
إنّني حلمها المتبقّي وبدونه لن يكون لحياتها معنى . سلب منها بعد أن كانت
ترى نفسها فيّ وأنا أحصل دائما على المرتبة الأولى وبمعدّل عال . عبد
الرّحمان العامري غاب في الصّمت . لم ينبس بشيء . كان هناك ما يشبه الحزن
في عينيه وإن لم أحفل بذلك . حقدي عليه كان أعمق من دمعة قد تسقط من إحدى
عينيه . بدا حزنه تماما كحجرة لا يمكن أن تنطق وإن كانت مبلّلة . فقط ظلّت
باردة تنتحب داخل ذلك الصّدر الدّاكن . ربما أحسّ أنّ أيّ ردّة فعل مهما
كانت لن تزيدني إلاّ كراهية له ولعلّه رأى أنّ ذلك شماتة قد تدفعني إلى
الهرب صوب سطح الحوش وشتمه كعادتي كلّما بادرني بالعداء . خيّم الحزن على
الجميع . لأوّل مرّة يعشّش الصّمت في حوشنا . لا أغراب ولجوا إلى غرف الحوش
ليلتها . الكلّ تقوقع . أصيب بالخرس التّام . كان ذلك كمأتم حادّ لا يشوبه
الصّراخ . نحيب ما أحسسته يكابد حتّى يخرج من الحناجر والكلّ يخنقه .
حينها أدركت أنّ هناك ما هو أبشع من الصّمت لحظة فقدان النّطق . شعرت أنّني
مهمّ . أمري يعني الجميع بلا استثناء وإن أحسست بالذّنب تجاه عبد الرّحمان
العامري الّذي تراءى لي مهموما ولم يوار قلقه . مسحة من الحسرة تشكّلت على
وجهه . كما لو أنّني ابنه الّذي رسب وليس آخر يبادله الكره والقطيعة من
سنوات خلت . هكذا تسلّل إليّ الحبّ فجأة وجاب صدري وانهمك يطهّرني من طبقة
سميكة كالغبار اللّزج ويزرع فيّ الفرح ويحدف بي إلى عائلة متضامنة متحابّة
تهتمّ لكلّ فرد فيها . كان ذلك أجمل ما حصل لي رغم رسوبي المرّ . اكتشفت
أنّ هناك من يفكّر بي ويخاف عليّ ويعنيه نجاحي وتفوّقي .
الصّيف عامها يا ليلى كان قاسيّا جدّا . مراجل تغلي وتفرز السّعير
والعرق . كنت ملتهبا بدوري وقرّرت أن أعثر عليك كلّفني ذلك ما كلّفني . بحت
لأختي حليمة بما يحصل لي . ذكرت لها سبب رسوبي وطلبت منها مالا . ضحكت
يومها حتّى آلمتها بطنها وسقطت على طرف الفراش . قالت إنّ الحبّ جميل لكنّه
لا يجب أن يتمكّن منك إلى هذا الحدّ وأنت في هذه السّنّ ولا تستطيع إن
استجبت لك أن تجد حبيبتك في مدينة مترامية الأطراف كالعاصمة ما دمت لا تملك
عنوان سكنها . هوّن عليك الآن . قد تصلك رسالة منها وسأقدّم إليك ما يكفيك
للسّفر إليها . هذا وعد منّي . وانتظرت رسالة منك إلى أن غلّفني اليأس
وشككت في أنّك أحببت مرّة أخرى . قد يكون جارك الجديد أيضا .
يتهالك صاحب سيّارة الأجرة في ضحكته المفاجئة لحظتها :
- هل أصابك الخرس ؟ لقد وصلنا .
كان عدائيّا معي . كما لو أنّني من دعا تلك الجيوش الحاشدة إلى العراق
وطلب منها أن تزحف على الأخضر واليابس . هكذا بدوت في عينيه وأنا أفتح
الباب وأتسلّل إلى الخارج مبتعدا وأصابعه تلاحقني :
- أنت والآخرون سبب ما يحصل هناك . دائما ما تهربون من الحقيقة أيّها
العلوج وتجدون لكم أعذارا عديدة . لن أستثني أحدا مهما علا شأنه . كلّنا
أسوأ من بعض ولا أحد منكم قال لا .
كدت لحظتها أن أغربل العاصمة حتّى أعثر عليك . كان يمكن أن تتغيّر أشياء
كثيرة وأحسّ بطعم آخر لهذه الدّنيا . كان أبوك قادرا على مواجهة عبد
الرّحمان العامري أيّامها دون أن يتهالك فجأة ويرحل . أكان عليه البكاء
كطفل ؟ كيف لرجل مثله أن يهرب ؟ وممّن ؟ من ذلك الكلب البغيض ؟
دائما ما يمضغ النّاس خفايا غيرهم عندما يختفون أو يرحلون . لأيّام
طويلة ظلّ أبوك حديث الجميع . حيكت حوله قصص كثيرة مثيرة للدّهشة . كنت
أجلس على سطح مقهى الزّقاق لقربه من أفواههم بعد أن مللت سطح حوشنا وأسترق
السّمع للجالسين وأجد لذّة غريبة مشوبة بشيء من الحزن وأذناي تتلقّيان كلّ
تلك الأسرار الغريبة . أنا لم أكرهه يوما ولم أحمل نحوه ضغينة ما . أعترف
بأنّني أدّبته صحبة أصدقائي لأنّه أهانني أمامك . لا أنكر أنّني تصرّفت معه
بشكل أربكه فصار يتحاشاني حتّى لا أفضح أمره في الزّقاق . حتّى لا أعيد
الكرّة معه . كلّ ما في الأمر أنّه أخذك بعيدا وهذا ما جعلني أراه هاتكا
لوشيجة حميمة جمعت بيننا . يبدو لي كمن سرق منّي أحلى ما في الزّقاق دون أن
أتبيّن ما هو أو من فعل ذلك . خاطر يجثم عليّ قبل أن أمرّ قرب العلية .
حين أرفع عينيّ نحوها أستعيد ملامح وجهه الحاسمة . أراه كما لو أنّه يجرّك
في الممرّ الدّاخلي نحو تلك السّيّارة القديمة ويلقي بك في المقعد الخلفيّ
وأنت تبكين وترفضين الرّحيل . أكاد ألمس خدّيك . دموعك كانت شبيهة بالصّمت
وآهات صدرك الصّغير الّذي لم يتكوّر جيّدا أشعر بها بللا يملأ عينيّ . بكيت
طويلا يومها على سطح حوشنا . كان الحمام يغرّد قربي قبل أن يهشّم عبد
الرّحمان العامري تلك الصّناديق الّتي تأويه . كم كان ذلك بشعا . ما يشبه
فلقة تحطّمت في قلبي لتحوّله إلى بقايا باكية . تماما كجوع رهيب قبع داخلي
ليتأكّني . ذلك كان حادّا لأحسّ بوحدتي كالموت . نزفت على سطح الحوش أيّاما
طويلة واختفيت حتّى انتاب الشّكّ أمّي فأسرعت إليّ بعد أن نادتني مرارا
دون أن أجيب .










فصل اللّقاء :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تسمّرت وأنا أباغت بك فجأة ...
هل أنت ليلى ؟ خطفا مررت كقبلة حالمة تحت رذاذ ذلك الفصل الحافي . كنت
مبلّلا بما يشبه الدّوار ولم أتمكّن من مناداتك حتّى . هل كنت أنت ؟ بدت لي
المدينة مزدحمة بشبيهاتك وأنا أجوبها من شرقها إلى غربها بحثا عنك . كانت
الشّوارع والأزقّة تحدفني من شهرزاد إلى أخرى . كلّهنّ أميرات في خطوهنّ
وكبريائهنّ وسحرهنّ . حكايات لا حصر لها تسيب هنا وتورق ما يشبه الغرائب
والعجائب بين جدران ضاربة في القدم وروائح لشفاه لا تنام إلاّ مع صياح
الدّيكة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

حرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

حرير الوجد _ رواية للكاتب التونسي محمد حيزي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
»  قراءة في رواية "صابر" للكاتب سليم دبور
» "الحمار الذهبي" للكاتب الأمازيغي أبوليوس: أقدم رواية في التاريخ
»  سمات بشرية لا نفتخر بها" ،رواية محمد حمدان
» سمات بشرية لا نفتخر بها" ،رواية محمد حمدان
» د. محمد بوعزة الخيال الانتهاكي في رواية " دمية النار"

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: