زهيرات البـــــط - رواية
محمد شاكر السبع
رواية - النص كاملا
انحنى
جنديان ضئيلا الجسمين ليحملا البطانية من طرفيها. كانت خضراء مقلمـــة
بخطـــوط بيــض ، أو بيضاء مقلمة بخطوط خضر ، لا فرق ، وكانت ملفوفة بدون
إحكام. أيقن الضابط الواقـف غير بعيد عنهما ، إن هذين الجنديين مستجدان ،
وإنهمــا يدخــلان أول مرة الى ساحــة معركــة ، بسبب حركاتهمـا الخرقاء
واضطرابهما الذي لم يهدأ منذ كلفهما بالمهمة. كما لم يتوقف تصادمهما
ببندقيتهما أو ببعضهما منذ بدءا بلف البطانية . رفعــا طرفــي البطانيــة
فأنزلق وسطها الى الأرض ومال أحدهمــا نحــو الآخــر حتى كادت خوذتاهمـــا
تقرع أحدهما الأخرى ، فعلق أحدهما بحنق :
- يا رب السماوات .. كم يصبح الإنسان ثقيلا بعد أن يموت ؟
زجرهما الضابط :
- ماذا تفعلان ؟ .. احملا الشهيد بعناية الى الزورق .
كانت البطانيـــة قـــد عادت الى الأرض ثانية حيـن غمغم الجنديان وكأنهما يتحدثان بصوت واحد :
- نعم سيدي .
لفا أطراف البطانية جيدا وحملاها ثانية . كانا يقفان وجهـا لوجـه والبطانيـة
الملفوفة بينهما . ظلا واقفين ينظر أحدهما الى الآخر وكأنه يراه أول مرة .
- ماذا تنتظران ؟.. تقدما نحو الزورق .
صاح بهما الضابط بنفاد صبر . بدا على الجنديين إنهما يتحركان كالآلات.
استدارا بالبطانية الملفوفة وتقدما الى الزوارق سائرين بالعرض . الآن ، همـــا
يحملان شهيــدا لــم يرياه أبدا ولا يعرفاه ، مثلما لا يعرفان هذا الضابط
الذي لا يكف عــن إمطارهما بالأوامــر . إنـه ليس مـن ضباط فصيلهم ولا
سريتهم ولا فوجهــم ولا لواءهم . مــع ذلك ، فقـد اصطادهما برتبة مقدم
الركن التي يحملها على كتفيه وبأوامره الصاعقة حالما نزلا مع فصيلهم من
الزورق ..
- أيها الجنديان .. نعم ، أنت وأنت .. تقدما الى هنا ولفا الشهيد بهذه البطانية .
لم ينظرا الى الشهيد ، ولا الى البطانيــة التــي يحملها بيده ، إنمـا نظرا الى
الضابط آمر فصيلهم الذي خذلهما كما قررا :
- افعلا ما يأمر به سيدي المقدم .
تقدمــا بخطـوات خرقـاء نحــو الزورق ، وخوذتاهمــا تتحركــان صعــودا
وهبوطا فوق وجهيهما ، مما جعل ثلاثة من المقاتلين – كثرت الضمادات علـى
أذرعهم ورؤوسهم – جالسين فـي زورق ينددون بهما . هتف بهما نائب ضابط
بضماد يلف رأسه وآخر على إحدى ذراعيه :
- بهدوء .. بهدوء .. وإياكما أن تسقطاه في الماء .
زمجر الضابط برتبة مقدم الركن :
- سأطلق عليكما النار إذا أسقطتماه في الماء .
يبدو إن الرصاص الذي كان ينتظرهما قــد أعاد ثبات الجنان إليهما . تقدما
نحــو الزورق المفلطــح المقدمـة ، حيث احتل المقاتلون الثلاثة ذوو الضمادات
مؤخرته .. صعدا الى الزورق واحدا وراء الآخر، ووضعا البطانية فــي مقدمة
الزورق العريضــة . شعرا بسلام غريب ، لا لأنهما أنجزا المهمــة باضطراب
وخراقة ، بل لأنهما انفلتا من المنطقة المرعبة الكائنة بين الحياة والموت. نظرا
الى الضابط مقدم الركن بذهول . قال الضابط بتجهم :
- اذهبا .
- الى أين سيدي ؟
أحدهما ، فقط ، من قال هذه الكلمات التي خرجت من فم جاف .رفع المقـدم
الركن ذراعه اليسرى مشيرا الى عمق لسان الأرض وهدر :
- هناك .. الى فصيلكم .
أديا لــه التحيــة ، وهرولا حيث أشار متعثرين بخطواتهما السريعـة .
بـــدا الفجر الرمادي صاخبا فوق المياه الكامـــدة اللــون ، صاخبا الى
الحــد الذي لم يسمع فيه الضابط الانفجارات المكتومة فـــي ما وراء المياه
الكائنة خلف عمـق
لسان الأرض . كان الصخب فـي ذلك الفجر مزيجا مــن لعلعة الأسلحة الخفيفة
وقنابل الهاونات وضجيج محركات الزوارق،تلك الزوارق المفلطحـة المقدمات
التي لــم تنقطع عـــن الوصول الى لسان الأرض حيث ينتصب الضابط واقفا . كان
الجنود يقفزون بحيوية من الزوارق ويهرولون باتجاه عمق اللسان . حاول
الضابط برتبة مقدم الركن أن يشغل نفسه بمتابعة حركة الزوارق القادمــة مــن
وراء غابات القصب ، بحركات الجنود المتشابهـة ، المتكررة ، وهــم يقفــزون
بأسلحتهم من الزوارق ، غير إنـه اكتشف لا عقم محاولته فقـط ، وإنما تورطـه
فــــي سلـوك يدعــو الى الخجل . كان يريــد أن يبعــد تفكيره عن تلك
البطانيـة الملفوفة والمرميــة فـــي مقدمة الزورق ، تلك البطانيـة
المنطوية علــى أحداث
وتواريخ يعرف بعضها ويجهل بعضها الآخر ، تلك البطانية التي سيقدر لها أن
تعصر قلبــه زمنــا طويلا قادما .لـــم يكن جنوده الثلاثــة المعلمون
بالضمادات والجالسون فـــي مؤخـــرة الزورق ينظــرون إليــه ، ولا الى
زوارق الجنـــود المتقاطرة ، ولا الى المياه التي لــم تكتسب لونها البراق
بعد ، كانت أنظارهـــم
متعلقة بالبطانية المرمية أمامهــم فــي الجانب الآخر مـــن الزورق . لــــم تنــم
نظراتهم عن أي تفكير ، كانت نظرات جامدة خالية من أي بريق .
أخيرا ، تحرك الضابط مبتعدا عن الزورق . تحرك دونما حماسة ، ودونما
استعجال ، فبدت خطواته وكأنها بدون هدف ، أو الأصح بدون مبرر، وهذا مـا
وضح لهم بسرعة ، إذ توقف بعد ثلاث خطوات أو أربع ، وانقلب عائدا إليهم .
- هل سمعتم صوت المدفعية ؟
أجاب النائب ضابط الجالس في وسط الزورق :
- نعم سيدي .
اتسعت عينا الضابط وعاد يسأل :
- هل أنت متأكد يا نائب ضابط علي ؟
أكد الآخران الجالسان فــي مؤخـرة الزورق هذا الأمــر ، غيـر إن
الضابط برتبة مقدم الركن ظل منتظرا إجابة النائب ضابط علي .. قال :
- هل أنت متأكد ؟
- تمام التأكيد سيدي .
الآن ، فـــي هــذه اللحظـة ، لم يعد الضابط بحاجة الى تمام التأكيد
هذا ، إذ سمـع بوضوح صدى الانفجارات البعيـــدة لقذائــف المدفعيـــة
وكأنهـا أصوات ارتطام خزانات ضخمة مـــن الصفيح ، الآن ، فقـــط ، أبعــد
الضابـط خوذتــه الفولاذية عن رأسه ، فظهر وجهه كاملا فــي نور الفجر
الرمادي . تطلع نواب
الضباط الثلاثة فــي الزورق الى وجه ضابطهم ، فأحسوا بما عاناه ، بما كابـده
هذا الرجل قبل نصف ساعة . في تلك اللحظات ، لم يكن الثلاثة عارفين نوعية
المشاعر التي تحركت في دواخلهم تجاهه ، لكنهم كانوا متأكدين إنها ليست مـن
ذلك النوع من مشاعر الأسى . وعلى الرغم مــن العرق الذي يسيل بلا انقطاع
من وجهه، فالدم لم يغرمــن تحت جلد ذلك الوجه الذي ظل محتفظا بلونه . تلك
كانت حقيقة عرفوها هــم الثلاثـة فقـط ، بل كل مقاتلي الوحدة الذين قاتلوا
تحت أمرة هذا الضابط الشجاع .الحقيقة إن أحـدا مـن هؤلاء الثلاثة لـم تكن
لديه النية
في التفكير لخلق إطار مهما بلغ حجمه ، ليضع فــي داخلـه شجاعة مقدم الركن
هذا. لــم يكن هــذا ، فـي أي حال ، ضربا مــن قلــة الاهتمام أو عدم
الاعتبار، بل لأنهم متعبون وجرحى ، ولأنهم سيتلظون بالحر فوق المياه التـي
تبدو وكأن
لا حد لها . كمــا كانوا يعرفون تماما إنهم سيتلظون بعذاب آخـر ، عذاب سيقدم
إليهم مـن تلافيف البطانية المرمية فـي مقدمة الزورق ، تلك البطانية الخضراء
المقلمة بخطوط بيض ، أو البيضاء المقلمة بخطوط خضر ، لا يهـم ذلك ، إنمـا
الـذي يهــم هــو معرفتهم إن تلك البطانيــة تضم جسد ضابط شهيد برتبة ملازم
أول .
تقدم الضابط نحو الزورق والخوذة مازالت في يده :
- ما الذي يبقينا ؟.. لنلحق بقوتنا .
لــم يقفز الى الزورق ، بل دخل إليه بخطوات ثقيلة ، ولــو لم يكن الزورق
مفلطحـا ومصفحـا لأنقلب علـى جانبه . تزحزح أحــد المقاتليـن الجالسين
فـــي المؤخرة من مكانه تاركا إياه للضابط ، وزحف علـى ركبتيه ليجلس قبالة
نائب
الضابط علي . تراجع الزورق الى الخلف ثـم استدار ببطء دافعا كتل ماء ثقيلـة
لتشكل مويجات اتجهت ببطء الى لسان الأرض . مــع تدافـع المويجات الثقيــل
ارتفعت بسرعة روائح مبهرة للأنفاس ، روائــح شقت طريقها مـــن الأعماق ،
وتظل - كما كانت في السابق خلال قدر من السنين لا يعرف مقداره - ترتفـــع
من الأعماق مخترقة كتل المياه لتنتشر على السطح ، ثم تعود ثانية لتذوب فــي
المياه .
عاد الزورق المفلطح المقدمة متثاقلا بحركته . بدا طريــق العـودة للضابط
ومقاتليه مكتظا بخطوط طويلة مــن الزوارق والشختورات المحملــة بالجنـــود
المدججين بالأسلحة ، خلافا تماما لما كان عليــه قبــل ساعـة أو ساعـة ونصف
حين قطعوه أول مرة . لـــم يكــن الضابط مكترثا لتحيات الجنود وهـــم
يهزون
بنادقهم فوق رؤوسهم . رمى خوذته الى جانبه ومدد ساقيه . فــي هذه اللحظة ،
ودونما إرادة ، انطلقت تنهيدة طويلة مـن صدره . تنهيدة لــم يكن لها سبب كما
قـــرر، مــع ذلك، فنائبا الضاطين اللذان يتقاسمان الــزورق معــه ،اعتبراهـــا
تنهيدة أسى وأسف علــى الملازم الأول الذي ساقتـه الأحداث الى هذا المصير.
عرف الضابط برتبــة مقدم الركــن ما يدور فــي أذهان مقاتليـه ، عندئــذ
شعر ببعض العزاء للشاب النائم فــي بطانيتــه دونما حراك ، ودونمـا أحلام
بمعارك
الأيام الغابرة .ببطء ، ودونما قصد ، انزلق الضابط برتبة مقدم ركن فــي أفكار
تحركت بمهل أول مرة ، ثم دارت ثم احتدمت . أفكار قلما عانى منها ، أو سقط
أسيرا من دون فكاك منها ، حتى عندما استشهد أخوه الذي يحمل رتبة رائد في
معركة الخفاجية الأولى . غير إنــه ، هـــذه المرة ، انشد هــو وفكره
ومشاعره بذلك الشاب الراقد فـــي البطانيــة علــى الجانب الآخر من الزورق .
ثم أخذت أفكاره تتوهج لتدفق حرارة منهكة للروح وللأعصاب ، منهكــة ومثيرة
للنكــــد
والتفجع والغضب ، لا لأنه لم ير أحــدا مــن المقاتلين يستشهد أمامه ، بــل لأن
الأقدار التي تحكمت بمعركة هذا الفجر الدامي لم تعط ذلك الفتى الفرصة ليقاتل
مثلما حلــم طوال أيام عديدة ، تلك الأيام التـي تهيأ فيهــا مقاتلـو وحدته لخوض
المعركة . هكذا طار مــع سلاحه من الزورق الى أعماق المياه ، ثـم عاد ليطفو
مديرا وجهه ومعطيا ظهره الى السماء التــي يحتلها اللون الرمادي لهـذا الفجر
الثقيل .
قال وكأنه يواصل حديثا انقطع لسبب ما :
- لم يعطه العدو الوقت ليقاتل مثلما كان يتحدث .
التفت إليــه النائبا الضابطين المتكئان علــى جانبــي الزورق ناظران إليــه باستفهام .. أضاف مشيرا بيده الى البطانية :
- أعني قتال رجال الأهوار القدامى .
قال الجالس الى يمينه :
- كان يحلم بالماضي الذي لم يره سيدي .
تساءل الضابط مدهوشا :
يحلم بماض لم يره ؟ .. كيف ذلك يا علي ؟
- لأنه لم ير الأهوار قبل هذا اليوم سيدي .
أغلق على الضابط ، فالتفت الى النائب الضابط الثاني مستنكرا :
- أسمعت ما قاله نائب الضابط علي يا كامل ؟
- نعم سيدي .
- فماذا تقول أنت ؟
- نفس ما قاله نائب الضابط علي سيدي .. لم ير الاهوار إلا هذا اليوم سيدي.
بدا الضابط وكأنه علــى وشك الانفجار ، فكر إن أحــدا مهما قاتل
بشجاعة فــي ساحة المعركة لـن يمزح معــه ، أو يقول ترهات في حضرته .. قرر
فــي لحظة صفاء عجيبة لجمت ثورته مــن أجل أن لا يتمادى فـي استنكار لا
يمتلك
معظم أو كل حيثياته . ثــم أعقبت تلك اللحظة لحظات استطالت كثيرا، لتمنحــه
الوقت اللازم للتفكير بروية ، فهذان الرجلان هما من أهل الأهوار، أو الأصح
إنهما تحــدرا أو جــاءا أو مـا شابــه ذلك مــن العالــم الرحيب للميــاه
والقصب والبردي وما يعرفه وما لا يعرفه مــن النباتات والحيوانات . لكن ذلك
الضابـط
الفتي المطوي ببطانية تحدث كثيرا عن هذا العالم الرحيب .. تحدث كما يتحدث
من عرف هذا العالم لا عن كثب ، بل وكأنه خرج من غابات القصب ، فما هي
حقيقة الأمر ؟
حين طرح تساؤله ، قال النائب ضابط علي :
- كان يعرف أكثر مما نعرف نحن سيدي .
وأضاف عندما رأى استفهاما في عيني آمره :
- كان يعرف كـــل شيء عــن ماضي الاهوار .. لــم أكن أنا أعرف نصف ما
يعرفه عــن المعارك القديمــة التي حدثت فــي الأزمنـة الغابرة .. إنه يصفها
وكأنه شارك فيها و..
قاطعه الضابط :
- يصف معارك لم يشارك فيها ؟
- ألم يقص عليك طرفا مـن تلك المعارك سيدي ؟.. ألم يصف لك الأسلحة التي
قاتل بها رجال غضبان وصيهود سيدي ؟ .. ألــم يذكر لك المغربي والشامية
والماطلي والموزر والعريانة سيدي ؟
- من تكون هذه يا نائب ضابط علي ؟
- أسماء البنادق التي قاتل بها رجال الأهوار سيدي .
تقبل الضابط البنادق ، أو أسماء البنادق الغريبة الوقــع علـى سمعه ،
تقبلها كما لو كانت جزءا من واجب قتالي ، جزءا لا يجوز ضياع الوقت حوله
بسبب
طبيعتـه الاعتياديــة المكتسبــة مــن سياق الحيــاة العسكريــة . لكــن
الـذي لــم يتقبلــه – وبسبب الحياة العسكريـة ذاتها هـو ادعاء هذين
النائبي ضابطين – إذ
كيف يمكن لضابط برتبة ملازم أول في الجيش أن يكذب علــى جيشه ؟.. هــذا
الاستنكار الصامت الذي دار فــي ذهن الضابط برتبة مقدم ركـن أفضى به الى
الى ما يشابه جريمة في العرف العسكري ، فهذا الضابط المطوي في البطانيــة
نال رتبته الأخيرة تكريما عن عمل لا يعرف ما هو ، لكنه مــن دون شك مـــن
ذلك الضرب مــن أعمال البطولــة التـي تستحق هــذا التكريم ، وإذن فهـو مـن
الشجعان فــي السجلات الرسميـة العسكريـة ، وحتـى تطوعه للقيام بمهمة هـذا
الفجر الدامي هو بطولة بذاتها فقط .إذن ، فيم لجوئه الى الكذب بإدعائه إنه
مـن أهل الأهوار ؟.ولأن هذا الأمر الذي توصل إليه من المسائل التي لا ينظر
إليها الجيش بعيــن واحــدة غيــر مبالية قرر أن يناقشها مع رؤسائه حال
وصوله ، غير إن عليه أن يحوز على جميع الحيثيات ، وهكذا توصل الى قراره
الذي لا يمكــن التراجع عنــه : أن يسمع ويعـرف كل شيء يتعلــق بالضابط
المطـــوي بالبطانية .
فجأة ، اهتز السطح المترامي للماء حتى الأفق ، وصاحب الاهتزاز صوت
مكتوم انطلــق مـــن الأعماق الكائنة تحت ذلك السطــح الـذي أخذت منبسطات
محدودة ومتعددة منــه تلتمـع مثل قطـع كبيـرة مـن مرايا توزعت فــي
أماكـــن متباعدة .
- المدفعية المعادية .
تطلع جميع مــن في الزورق الى كل الجهات بحثا عن نافورة الماء . لم ير
أحد شيئا ، إلا إنهــم كانــوا يعرفون لماذا لــم ترتفع نافورة ، فالمياه
هنـا عميقة جدا . كان عليهم أن ينطلقوا بأسرع ما يمكنهم ، وهذا ما فعله
السائق ..
- ابتعد عن الرتل .
قال الضابط آمرا السائق . ابتعد الزورق عــن خطــوط الزوارق المفلطحة
المقدمات والشختورات المحملة بالجنود والأسلحة . حتى هـذه اللحظة لم تشرق
الشمس ، وحتى هــذه اللحظة لـم تظهر الخطوط الأمامية لوحدات فرقتهم . بـدا
للضابط إن زورقهم ابتعد كثيرا عن جانب غابات القصب ، وإنه، الآن، ينطلق
ثقيلا فــي مكان مكشوف مــن المنبسط المائي . عاد الضجيج ينطلـق مــن رتل
الزوارق العسكريــة المتتابعــة بعـد فترة قصيرة ، إذ لــم يتكــرر سقوط قذائف المدفعية المعادية .
علق سائق الزورق :
- يبدو إنها قذيفة عمياء .
التفت الضابط إليه وتساءل بدهشة :
- قذيفة عمياء ؟.. من أين تأتي بهذه التعابير ؟ .
بعــد لحظـة مـــن سؤال الضابط خاب ظنـه ، كما خاب ظن السائق بعماوة
قذيفة الأعماق تلك ، فقد صفر الكثير من القذائف فوق زورقهم . الآن ، في هذا
الوقت المبكــر مــن الفجر ، بدأت معركـة مدفعيـة ثقيلة ، مدفعيـة غير مرئية ،
تمزق قذائفها كتل الهواء بضروب من الصفير المرعد والمهدد والمتوعد بدمار
قد ينبثق في أي لحظة .
اندفع السائق بزورقـه المفلطـح المقدمـة بعيـدا عــن رتل الزوارق الذي
لاذ معظمه بغابات القصب ، وهكـذا بدا الزورق برجالـه الأربعة وكأنه يتسلق
كتل الماء نحــو الأفـق البعيـد الملتصق بالسماء . لــم يبد الضابط أي رد
فعل سريع تجاه ما قام به السائق ، لكنه فيما بعد ، في اللحظات التالية
المشدودة بين سقوط
قذيفة وأخرى ، سأل السائق :
- هل تعرف مسالك هذا الهور ؟
فأجاب السائق :
- لن نتيه في هذا المستنقع سيدي .
أيقــن الضابط إن هــذا الجواب ليس هـــو الذي يريده ، وإن السائق
يحاول مراوغته ، فكرر سؤاله السابق ، فأضطر السائق الى القول :
- سيدي ، هذا المنبسط مكشوف وليس فيه غابات قصب إلا في ذلك الجانب..
فقاطعه :
- وماذا يعني ذلك ؟
- يعني إننا مهما ابتعدنا عن تلك الغابة فإننا نستطيع العودة إليها سيدي .. المهم
سيدي ..
توقف عن كلامه ، فسأله الضابط :
- المهم ماذا ؟
- المهم أن نبتعد عن إحداثيات المدفعية سيدي .
- هل فكرت بالوقود ؟.. إذا نفد وقود الزورق ماذا سنصنع ؟
لم ينتظر الضابط جوابا مــن السائق ، إنمـا أمـره أن يعود الى حيث
غابات القصب . دار الزورق المفلطــح المقدمة علـى قوس كبير وسط المياه
العارية ،
دافعا موجات ذات قمم بيض علـى امتداد القوس الى مسافات بعيدة ، ليتجه الى
غابات القصب التــي مازالت متشبثـة بالنـور الشاحـب للفجـر الرمادي .
لكـــن الزورق سرعان ما مال ميلانا حادا الى جانبه الأيسر جراء سقوط قذيفة
قريبـة
منه . ثم توالى انهمـار القذائف . هكــذا عــاد الزورق الى مساره الأول ، وكأن قوة خفية تسلطت على اتجاه حركته .
لم يكرر الضابط أمره السابق ، فقد أيقن إنه لا فائدة من توجيه الأوامر لكي
يمضي الزورق نحو تلك الغابات الدكناء اللون ، إلا إنه كان على يقين لا يقبــل
الدحض إن علــى هـذا السائق أن يجد المنفذ أو الوسيلة أو أي شيء آخر يجعل
الزورق يصل الى غابات القصب. فكر إنه ليس مـن المعقول ، أو المنطقي، أن
يتسكع هو ومقاتلوه على سطح مياه هذا المنبسط الواسع جدا ، بعد تلك المعركة
التي خاضها هو وجنوده قبل وقت قليل . التفت لينظر الى السائق أول مرة منـذ
اتخذ مكانه فــي الزورق . بيد إن نظرته لم تمنحه ما كان يبتغيه . لكنـه، فجأة ،
تساءل : ما الذي يبتغيه ؟.
ربمـا فــي تلك اللحظة بالذات كان لا يبغــي شيئا سوى توقف سقوط قذائف
المدفعية ، وربما حتى هذه الرغبة هـي محض خداع للنفس ، فبعد تلك المعركة
المحتدمة ، السريعة والمظفرة التي لم يتوقع أن يخوضها بهذا العنف والقسوة ،
ربما كان يبحث عن الراحة ، عن وسادة خالية من رائحة البارود ، يضع رأسه
عليها ، من أجل أن يسترد صفاء ذهنه . غير إنه لم يكن على يقين من إن هــذه
هي الرغبة التي يبحث عنها .
أما يقينــه الذي لا يرقـى إليه الشك ، اليقين الذي لا يخرج من نفسه
لينطلق الى العالم من حوله ، بل هو ذلك الضرب مــن اليقين الذي يقدم مــــن
الخارج
ليقتحم عقله وروحه ويترسب فــي أعماقه ، هذا اليقين هـو إنه ينطلق الآن
فــي قعــر زورق مفلطح المقدمة فـي دوائر وأقواس واسعة فــي منبسط مائي
عظيم ليتقـي قذيفة مدفعية معادية وغير مرئية .
لكن ما لم يشعر بــه ، ما لم يتسلل الى يقينه ذاك ، هــو الوقت
المتأزم الذي مــر به قبل أن ينبلج أول خيوط هــذا الفجــر ، وربما قبلــه
بكثير .كان مشدودا ومتحفزا منذ منتصف الليلة السابقة ، وبالضبط منذ اللحظة
التي تبلغ بها بساعة
الشروع بالهجوم . ومــع إنه لم يفقد السيطرة علـى نفسه ، وكذلك علــى
مقاتليه حتــى خلال الاحتدام الدامي للمعركـة ، إلا إنه أخـذ يشعر إنه الآن
في منتصف
الطريق الى هذا الفقدان ، لا لأنه يمتلك نفسا جزعـــة فـي مواجهة الموت ،
بـل لأنه وقع تحت طائلة مدفعية غير منظورة ، تحت نار عدو عاجز عن مواجهته
وقتاله حتى الرمق الأخير ، فهل قدر له بعد كل ما خاضه مـن المعارك ، بعـــد
كل ما قام به خلف خطوط العدو ، أن تنال منـه قذيفـة مدفعيـة لترسله الى
قعر مظلم لمياه لا حدود لها ؟ ..
جراء هــذه التساؤلات التي لم يتوقع يوما إنــه سيطرحها علـى نفسه طوال
سنوات خدمتـه العسكريـة ، تجمــع الحنـق فـي صدره مثل بارود علــــى وشك
الانفجار، لكنــه – وهــو المعروف بأعصابـه الفولاذيـة – سرعان ما لجـم ذلك
الحنق . مــع ذلك لــم يبعــد أفكاره كثيرا عــن زورقه المفلطح المقدمة
ورجاله الثلاثة والملازم الأول الملفوف بالبطانية ، زورقه الذي أجبرته
مدفعية معاديـة أن يتطوح في سير عابث بعيدا عن هدفه .
انتبه الى أن الأفق المائي توهج بحمرة خفيفــة جعلت صفائح المياه البعيـدة
تبدو وكأنها تشتعل بهدوء ورقة . عرف إن الشمس التــي سترتفع عمـا قريــب
ستشعل لا المياه حسب ، وإنما هــواء الفجــر البارد ، وتجعله لا يطاق . فجأة ،
التقط أنفه الروائح الثقيلة لغابات القصب ، فألتفت الى الجانب الآخـــر، الجانب
الذي يقوم فيه ذلك الشريط من الغابات . أول وهلة ، بدا لــه وكأن نظـره
يعبث به ، غير إن ما تبادر الى ذهنه لم يكن إلا وهما ، فها هو خط الغابات
يبعد عنـه
خمسين مترا أو أقل . التفت الى السائق بوجه مشحون بالعجب ، لكنه فيما بعد،
حين انتبه الى انطلاق الزورق الدائري .. لــم يكـن هناك مفـر مــن أن
يتحــول العجب الى إعجاب بالسائـق الــذي احتال علــى إحداثيات المدفعيــة ،
فجعــــل الزورق ينطلق بدورات واسعة متداخلة مـن أجل أن يقترب بزورقه مـن
شريط
الغابات .
صاح السائق بصوت عال :
- تشبثوا بالقارب ، سأنطلق الى غابة القصب .
لــم يكن أمرا ، ولا طلبا ، إنما هــو فرار مــن تلك القذائف المصفرة .
كان الزورق مايزال يدور علـــى قوس كبيــر دفعــه بعيدا عــن الغابة ،
فصاح بــه الضابط :
- ماذا تفعل ؟.. إننا نبتعد كثيرا ..
أجاب السائق ورأسه ملتفتا الى الغابة :
- سأعود سيدي .. سأعود ..
عاد الضابط يصيح :
- الزورق يبتعد .
- لا أستطيع الاتجاه الى الغابة وزوارق الرتل مازالت متتابعة .. ثـــم إنني منذ
بدأت بالاقتراب وأنا أتابع إحداثيات المدفعية المعادية سيدي .
الآن ، خلال ما كان الزورق المفلطـح المقدمـة ، والثقيل الحركة نوعا ما ،
ينطلــق علــى قوس دائــرة واسعــة مائلا الى أحــد جانبيـه ، الآن ، فقط
،رأى الضابـط قمــم أشجـار الأعماق تظهــر فــوق سطــح الماء .. أطراف
الشمبلان الخضر الدكناء . تذكر إنه يكره أشجار الأعماق تلك لخشونتها
وعدوانيتها على
الرغم مــن مظهرها الأخضر وحركتهــا التــي تكتسبها مــن تيارات الأعمــاق
وتموجات السطح . كانت له ذكرى بائسة ومؤلمة مــع هذه النباتات التي أثارته
حين رآها أول مرة .
لــم ينزلق نحــو الماضي مع الشمبلان ، إذ إنه في تلك اللحظة أحس بوخز
فــي عينيه ، كما أحس بروائح غابات القصب تدخـل أنفــه . قبل أن يرفع رأسه
تعثر الزورق فوق الأمواج التي صنعها بحركته الدائرية ..
- تشبثوا بالزورق ..
جاء تحذير السائق متأخرا ، متأخرا الى حــد إنهم سمعوه بعد أن تزحزحوا
عــن أماكنهم . تهيأ الضابط للتوبيخ ، لكـن الزورق مال الى جانبه الآخر، هـذه
المرة ، ميلانا حادا جدا ، ثم انطلق سائرا علــى عرضه ، مصحوبا بخشخشة .
رأى الضابط عيدان القصب تقتحم الزورق وتحيط بجسمه من كل اتجاه .
- ماذا فعلت ؟
لم يحصل على جواب . كان السائق منهمكا فـي تخليص الزورق من جدار
القصب الذي ارتطم به . لم يكن الزورق محشورا بكامله ، بل جزء قليل مــــن
جانبه الأمامي الأيسر. تعاون النائبا الضابطين مــع السائق ، ثــم انضـم إليهـــم
الضابط في إخراج الزورق ...
- هذه هي المصائب التي تأتي بها هذه الزوارق المفلطحة .
علق النائب ضابط علي :
- لو رأى جدي هذا الزورق لأعتقد إن الشيطان قد صنعه .
عندئذ قال النائب ضابط كامل :
- أما جدي فسيؤكد إنه زورق الشيطان نفسه .
هدر الضابط :
- كفا عن التعليقات .. اخرجا الزورق قبل أن تخرجه قذيفة مدفع .
انهمك الرجال فـي تخليص جانب الزورق الأمامي المشتبك بجدار القصب
الذي هــو أصلب مما يوحي به مرآه ، مرآه الــذي لا يعدو عــن مجموعة مــن
عيدان القصب التــي لها لــون القهوة . كان ما يخشاه رجال الأهوار الثلاثة
أن
يضطر أحدهم ، أو جميعهم الى النزول الى الماء ، فهــم يعرفون بخبرتهم التي
اكتسبوها ، وتلك التي ورثوها عــن أجيال لا عد لها مـــن الآباء والأجداد ، أي
أعماق انبثق منها هذا القصب العاصي .. إنهم يعرفون قصب الأعماق السحيقة
جدا ، وهذا الجزء من شريط الغابة هو من ذلك الضرب .
اكتمل ضياء الشمس فـوق المياه أبيض ، وكأن تلك المياه أو غابــة القصب
امتصت ضياء البزوغ الذهبي . توقع الرجال إنــه منـذ الآن يتحتم عليهـم تلقـي
زفير المياه الساخن ، كما عليهم أن يتحملـــوا سحب البعوض والحرمس وما لا
نهاية له مــن الحشرات الزاحفة والقافزة والطائرة التي تعج بها غابة القصب ،
إضافـــة الى الموت الصارخ الـــذي يمزق الهــواء فــوق الميــاه بأقواس غيـر مرئية .
واصل الرجال جهدهم فــي تحرير الزورق وسط كلمات تجديف ، سرعان
ما تحولت الى ما يشابه التعنيف بعضهم لبعض :
- الأبالسة وحدهم يفعلون ذلك .
تساءل السائق :
- ماذا يفعل الأبالسة ؟
- أن يرفعوا مثل هذا الزورق من الماء ويرموه فوق القصب .
احتج السائق :
- لكنه ليس فوق القصب .
احتدمت همتهــم حيــن زعقت قذيفة فــوق رؤوسهــم وسقطت وسط غابــة
القصب . نسوا جروحهــم الملفوفــة بالضمادات ، فاندفعت قوتهم ، ما تبقى من
قوتهم ، من سيقانهم ، مــن ظهورهم الى سواعدهم ، لتستقر أخيرا فـــي جدار
القصب .. ذلك الجدار الهش بعيدانــه التــي تتباعد وتتقارب مــع كل دفقة
مـــن جهودهم الضائعة فــي تلك الانحناءات المخشخشة لعيدان القصب فــي
رواحها
ورجوعها . خلال ذلك الوقت ، مــر العديـد مــن الزوارق المفلطحـة المقدمات
والشختورات السريعــة ، إلا إن أحــدا منها لــم يتوقــف . كـــان رتل
الزوارق العسكرية مواصلا تقدمه .
واصل الرجال الثلاثـــة جهدهــم المضني في كفاحهم ضد قبضة القصب ،
بينما انشغل الضابــط فـــي البحث فــي فكره عمـا يمكن أن يفلته هــو
وزورقه ورجاله مـــن هــذه القبضة العصية علـى الانفتاح . فكر إن الحظ فــي
مثل هذا الوقت لن يلعب دوره الحسن ، بل لن يلعب أي دور علــى الإطلاق ،
كما فكـر
إن اشتباك الزورق بجدار القصب هــذا ربما هــو النذير السىء لما يأتي مــــن
الأحداث . غير إنــه سرعان ما أبعــد هـذه الفكرة عــن رأسه ، لا لأنه لا
يؤمن بالنذر السيئــة أو الطوالــع الرديئة ، بل لأنه تعلــم مــن المعارك
إن الأمـور لا تجري وفــق ما تقدره الطوالـع أو النذر ، إنما تجري وفــق
التخطيط لها ، أمــا العوائق ، أما الأخطاء ، فإنها تظهر في كل عمل .
فجأة ، اندفع الى الأمام بقوة وارتفــع هدير المحرك صاخبا . وعلـى
الرغم مــن اهتياجه في تلك اللحظات ، فإنه شعر بالرضا ، الرضا الذي يشيع
بعد كل
عمـل يتـم كمـا خطـط لـه . سقط النائبا الضابطان علي وكامل فـي قاع الزورق
لاهثين ومتصببين عرقا غزيــرا . كان الماء قــد بلل ضماداتهـم . فــي لحظات
الرضا تلك ، أيقن إنـه ليس مـــن الحــق أن يوبـــخ السائــق لاشتبــاك
الزورق بالقصب . لـــم يصمد يقينـــه طويلا إذ كاد زورقه يصطـدم بزورق مسرع
من الرتل :
- أين عيناك ؟
قال السائق بوجه مكفهر :
- بل أين عينا ذلك السائق سيدي ؟
قال الضابط بحزم :
- انتبه جيدا .. لا تصدمنا بزورق من الرتل .
أصبح الزورق في خط الرتل ولكن فـي الاتجاه المعاكس ، مع ذلك فالقذيفة
ليس بوسعها التفريق بين الاتجاهين ، لذلك اكفهرت وجوه الرجال الأربعة فــي
ذلك الصباح الــذي أخذت ترتفـع درجـة حرارتـه بسرعــة . كان ضوء الشمس
اللين فـي مثل هذه الساعة المبكرة يسقط على ظهورهم،ويغمـر الزورق والمياه
وشريط غابــة القصب الكائــن علــى يسارهـم .غير إن هــذا الضوء لــم يوقف
تدفق القذائف الممزقة للهواء والماء بصخب . خيل للضابط إنه منذ بدأ الشروع
فـــي إطلاق رصاصته الأولى فـي معركة هذا الفجر الدامي وحتى هذه اللحظة
يخوض غمار معركـة لـم تنته بعد ، وإن اعتقاده السابق بانتهاء معركته محض
وهــم . إذن ، عليه منذ الآن ، أن يتلقى الموت كما يفعل الجندي الباسل ، لكــن
الأسى انبثق من الموطن السابق ثانية .. إنه لن يموت ، أو فـــي الحقيقة لا يريد
أن يكون مثواه الأخير قعر الهور المظلم .
هــذه الفكرة أو الهاجس المثير للشجن دفعته لينظر الى البطانيـة الملفوفـة ،
فأكتشف إن الماء بلل أجزاء كبيرة منها .
قال بغضب مكتوم :
- لماذا لم تبعدوا البطانية عن هذا المكان ؟
فأجابه النائب ضابط علي :
- أين نضعها ؟.. أي مكان غير مكانها هذا سيجعلنا ندوسها بأقدامنا سيدي .
بألم واكتئاب سحب نظره مــن البطانية المبللة ، ليسيح على امتداد المنبسط
المائـي الـذي حولـه نور الصباح الى مرايا طويلة جــدا ، مرايا لامعة ساكنة
لا ينعكس عليها حتى لون السماء . كان الزورق يسرع في انطلاقه طالما لا
يوجد
زورق قادم فــي الاتجاه المعاكس . فـي ذلك الصباح ، اعتقد الضابط إن الوقت
أضاع إيقاعه الــذي يعرفه ، وإنه أصبح بطيئا جــدا ، حتى لكأنـــه اشتبك بمياه الهور فعرقلته .
وبدون صفير، اهتز سطح الماء من طرفه القريب من الزورق وحتى طرفه
البعيد فــي الأفق ، اهتز بعد صوت مكتوم لكنه مخيف ، ثم ارتفعت دفقات مياه
الى الأعلى .. انحنت رؤوس الرجال فـي الزورق بحركة غير إرادية ، بحركة
يقوم بها الإنسان دونما حاجة الى إيعاز أو أمر.. ثــم شعــر الرجال بدفقــة
مياه تسقط علـــى الزورق ، علــى البطانيـة الملفوفة بالضبط .. تبادل
الرجال النظر
بطريقة لا تحمل احتجاجا أو غضبا أو دهشة ، بل تحمل سرا أو كلمات سريــة
لا يفهمون معناها أو حتى طريقة نطقها . كانت تلك نظرات غريبة تبادلوها في
ما بينهم أول مرة ، نظرات حملت كل ما فــي قلوبهم مــن مشاعر ومعان ، لــم
تكن لديهم القدرة علـــى تحويلها الى كلمات يسيرة علــى الفهم ، لكنهم ،
الآن ،
استطاعوا أن يفعلوا ذلك فــي ومضات حملتها أشعة غير منظورة انبعثت مـــن
عيونهم .
لكــن تلك النظرات لــم تستمر وقتا طويــلا ، لا لأنهــا عجزت عــن
إبلاغ مضامينها ، بل علـى العكس مــن ذلك تمامــا ، إذ إنها كانت أسرع
حتــى مــن
الكلمات فـي نقل تلك المضامين . ثم إنها تركت وراءها تأثيرا أشبه بالسحري ،
لوصل ما انقطع من حديث عن الملازم الأول الشهيد ..
قال الضابط برتبة مقدم ركن :
- كيف عرفتما إنه ليس من سكان الأهوار ؟
أجاب نائب الضابط علي :
- في البداية لم نكتشف ذلك .. كان يتحدث عن الأهوار وكأنه خرج من أعماق
مياهها .. كان يعرف أكثر مما نعرفه نحن الذين ولدنا فوق الجباشات ...
قاطعه الضابط :
- لقد قلت مثل هذا سابقا ..
اكتشف الضابط برتبة مقدم ركن إنـه يحتاج الى وقت ، وقــت كاف وهادئ
وخال مـــن القنابل وصفيرها ، مـــن أجل أن يضع الملازم الأول الشهيــد
فــي الإطار المناسب له . مع ذلك ، لم يمنعه اكتشافه هذا من مواصلة توجيه
اسئلته:
- متى اكتشفتما الأمر ؟
تساءل نائب الضابط كامل بدهشة :
- أي أمر سيدي ؟
- إن الملازم الأول ليس من أهل الأهوار .
- عندما أصبح داخل الهور سيدي .
- ماذا ؟
جفل نائب الضابط كامل مـــن تساؤل الضابط الذي قاله بنبرة حادة .
نظــر الى نائب الضابــط علــي مستفهما . كان علي هــو الآخر قـد أغلق عليه
. أعاد الضابط تساؤله بكلمات أخرى :
- في داخل الهور عرفتما إنه ليس من أهل الأهوار ؟
قال نائب الضابط علي :
- ألست قادرا سيدي على معرفة الجندي المستجد من طريقة مسكه البندقية؟
- من يشك في ذلك ؟
- وهذا هو الشأن معنا في معرفة أهل الأهوار سيدي .
- لم أفهم .
- إذا ما تحدثت عــن نفسي فأقول إنني كنت سأعجز عــن معرفة إنه ليس مـن
أهل الهور ، والسبب ليس في إن رأسي مشابه لرأس ثور ، إنما ذلك الملازم
يعرف كل شيء عن الأهوار وعن أهل الأهوار سيدي .
تساءل الضابط باستغراب :
- كل شيء ؟
أكد نائب الضابط علي :
- نعم سيدي حتى حادثة خليف والأسد .
- ما هذه الحادثة ؟
- الله وحده يعلم متى وقعت هذه الحادثة ، أو إن كانت قـــد وقعت ، لكن سكان
هــذا القسم مـــن الأهوار ، أعني الأهوار الممتدة مــن هنــا وحتــى الشيب ،
يعرفون هذه الحادثة ، وتناقلوها من جيل الى جيل ..
قال نائب الضابط كامل :
- كان صغيرا .. صغيرا جدا على ما يعرفه سيدي .
- ماذا تعني ؟
- أعني تلك المعلومات التي بحوزته تناسب شيخا مــن شيوخ الأهوار ، وليس
فتى برتبة ملازم أول سيدي .
وجد الضابط تصديق هذا الأمر عسيرا .. قال :
- ألا يمكن أن يكون كثير الإطلاع ؟
- لا سيدي .
- لماذا لا ؟
تدخل نائب الضابط علي في الحوار :
- أنا ونائب الضابط كامل أكبر سنا منه ، وقد ولدنا وعشنا فـي الأهوار ، لكننا
لا نعرف نصف ما يعرفه ، بل أقل من النصف كثيرا .
- إذن ؟
- قبل أن نشرع فـي مهمتنا اعتقدت إن هذا الفتى سيجعل منا ضربا من البلهاء
داخــل الهور ، لكــن حيـن اندفعت زوارقنــا بيــن القصب ، عرفنا إنه لم ير
الكعيبة طوال حياته .
- أليست هذه مبالغة ؟
- لا سيدي .
- إنك لحد الآن لم تقل لي كيف عرفت إنه لم ير الأهوار قبلا ؟
- هل تحدث لك عن زهيرات البط سيدي ؟
- زهيرات البط ؟.. أليست تلك الزهور البيض الصغيرة التــي يلجأ قربها البط
حين يضع بيضه ؟
- نعم سيدي .
- كان يتحدث عن تلك الزهيرات كثيرا .
- لـم تكن تسقط مــن حديثه قط .. كان يحشرها فــي بعض الأحيان حشرا فــي
أحاديثه .. كان مفتونا بها سيدي .
- ماذا يعني كل هذا ؟
- حين دخلنا الهور بحث عنها بلا هوادة .. كان يسألنا عنها باستمرار سيدي .
- لم أفهم شيئا من كل الذي قلته .
- لو كنت من أهل الأهوار لعرفت ذلك بسرعة سيدي .
قال الضابط :
- أهي زهيرات البط التي كشفته لكما ؟
- نعم سيدي .
- كيف ؟
- أصغر صبي في الأهوار يعرف إن هذه الزهيرات لا وجود لها فـي الأهوار
فـي حزيران .. إنها تبدأ فـي التفتح فـي كانون الثاني ، وتختفي فــي أوائل أو
منتصف نيسان سيدي .
تساءل الضابط :
- ألا يمكن أن يبقى بعضها حتى هذا الوقت ؟
- لا يمكن سيدي .
- لماذا لا يمكن ؟
- إنها هكذا منذ أزهرت علــى سطح مياه الأهوار .. هي زهور رقيقة ، رقيقـة
جدا الى درجة إن حرارة شمس منتصف نيسان تذيبها .
- أمن أجل هذا أطلق عليها أهل الأهوار هذا الاسم ؟
- لا سيدي ، إنمـا أطلقــوا عليها هــذا الاسم لأن أفراخ البــط حيــن تخرج من
بيوضها تتجه إليها وتلتهمها بنهم لرقة ونعومة أوراقها .
- إذن ، كان يحلم بزهيرات البط ؟
أجاب نائب الضابط علي مؤكدا :
- لا سيدي .. كان يحلم بخوض معركة تشابه المعارك القديمة في الأهوار .
تذكــر الضابط ما روي لــه عــن اللحظــات الأخيرة التــي سبقت استشهاد الملازم الأول ، فقال والأسى يتحرك في قلبه :
- كانت شجاعته اسطورية .
أكد نائب الضابط علي :
- لقد ذكرني بالشجعان القدامى للأهوار الذين يقص الناس عنهم القصص .
***********
وما قاله نائب الضابط علي ، ليس ضربا من الخيال ، أو مــن الاستنتاجات
الخارجة مــن مقارنات عقليـة طويلـة ، معقـدة وباردة . ما قالـه كان حقيقـة
لــم يعرفهـا وحـده ، بـل جميع مقاتلـي الوحدة الذين حيرتهـم وأربكتهـم
تلك الأمور التي كان يقوم بها الملازم الأول ، أو تلك الأحاديث الطويلة
التي كان يسردها .
لم يشك أحد منهم في شجاعته وإقدامه ، فسجله العسكري سبقه إليهم ، لكن مـــا
أثار دهشتهم هو اطلاعه الواسع والعميق لكل ما في الأهوار.في البدء ، حاولوا
معرفة المكان الذي ولــد ونشأ فيــه ، فطرحـوا عليه وابلا مـن أسئلة متشابكة ،
جاهدوا أن يجعلوها تبدو بريئة وخالية مـن أي قصد .إلا إن الملازم الأول فطن
لدهائهم ، وأثبت إنــه أكثر مكــرا منهم ، فجعل إجاباته تسيح علــى جغرافية لا
حدود لها ، جغرافية اخترقت الحافات القصية للجكة ، بحيرة الجــن والشياطين
والملائكة . وهكذا فرض احترامه علــى أبناء الأهوار الصعبي المراس الذيــن
يثيرون الشكوك حول كل أمر . لكن ذلك كان فــي وقت مبكر جــدا ، مــع ذلك
تعلق مقاتلو الوحدة به ، لا لكونــه مـــن أهل الأهوار مثلهــم تماما ،
بــل أحبوه
لشبابــه وشجاعتــه ، أحبوه لمعرفتــه التـي لا تدانيها معرفـــة بالأيام والأعمال لرجال الأهوار القدامى .
كان هو آخر مــن التحق بوحدتهم التي أختيرت للقيام بواجب خاص .هكـذا
أخبرهــم نواب ضباط الوحــدة . هـم أنفسهم جمعوهم مــن وحدات متفرقة . لم
يعرفوا لماذا جمعوهم ، كمـا إنهـم لــم يسألوا عــن السبب ، لا لأنهم خالون
مـن الفضول ، بــل لخوفهــم مــن العقاب الــذي يترتب علــى الخوض في
الأسرار العسكرية . غير إن ما عرفوه ، ولم يشكوا أبدا فــي تلك المعرفة ،
هو انتماؤهم
جميعا الى الأهوار،عندئذ وصلوا الى الغاية من اختيارهم من وحداتهم القديمة،
وتشكيلهــم هـــذه الوحــدة الجديــدة ، عندئذ انتقل الهمس بينهم من فم الى
أذن : سنقاتل فـــي عمــق الأهوار. ومــع تلك الهمسات استعادت أنوفهم
روائح المياه
والنباتات والحيوانات . ثــم تصوروا فيمـا بعــد ، تنقلهــم السريع علــى
حافات الزوارق الصغيرة والكبيرة ، وأسلحتهــم السريعــة الطلقات ، وقنابلهم
اليدويـة
الكفيلة بتمزيق قوارب الأعداء .
لكن تصوراتهم لـم تصمد طويلا أمام تدريباتهم التي تعين عليهم القيام بها .
لقد دربوهم على الأرض . صحيح إن الماء قريب مـن الأرض ، قريب الى حد
إن باستطاعتهم أن يغرفوا منه بأكفهم ، إلا إن ما قاموا به مــن التدريبات كانت
تتم على ألسنة ضيقة مــن الأرض مندفعة فــي عمـق المياه . ذلك كلــه لــم
يثر حفيظتهم أو استغرابهـم ، فهـم فــي جميـع الأحوال ، مقاتلــون عليهـم
الخضوع
للنظام والأوامر . فـي كل صباح ، وفـي كل ظهيرة ، وبعد غروب كل شمس ،
كانت صافرات نواب الضباط تدعوهــم للتجمع ، مــن أجــل إداء التمرينــات ،
وسط سحب البق والبرغش والحرمس ،وسط الحر الــذي يجعل الألسنة تتدلــى
خارج الأفواه ، يتقافزون ويتصادمون وهـم بكامل معداتهم العسكرية وخوذهــم
الفولاذية .
في البداية ، قبل أن يقوموا بتلك السلسلة الطويلة من التدريبات الشاقة، بنوا
معسكرهم الصغير بأيديهم علــى أطراف ضحضاحة مــن جانب الهور القريب مــن
ناحية الكحلاء . لــم يكن معسكرا بالمعنى الشائع لما يكون عليه المعسكر،
إنمـا هــو فــي واقــع الأمر لا يتعدى مجموعة قليلة من الملاجئ التــي
يغوص نصفها تحت سطح الأرض . بنوا جدرانها بمكعبات مــن الأسمنت
المخلـــــوط
بالرمل صنعوها بأيديهم ، وسقفوها بما تيسر مــن قطع الصفيح المتموج . بدت
عندما انتهوا مــن بنائها ذات مظهر خشن ، لكــن هـذا المظهر لــم يمنعهم
مــن اللجوء إليها فـي النهار فرارا مــن أشعة الشمس الحارقة . كما إنهم
يفرون منها ليلا بسبب حرارتها التــي لا تطاق ، ليتمددوا علــى أسرتهـم
المصنوعــة مــن صناديق العتاد المنتشرة حول تلك الملاجئ . منذ الليلة
الأولى التي تمددوا فيها
تحت الكون الرحيب للنجــوم ، تعلمــوا جميعا كيف يتحملــون لدغات البعوض
والحرمس دونما ضيق أو تذمر . ما كانوا يخافون منه ، سواء فــي الملاجئ أو
في العراء ،هو الأفاعي ، وهكذا نشروا فخاخ الصمغ اللاصق فـي أماكن حول
أسرتهــم وملاجئهــم ، ولقد أثبتت تلك الفخــاخ جدواهــا فــي الإمساك بالفئران
والجرذان . مع ذلك بثت تلك الفخاخ الصمغية الطمأنينة فيهم .
كان معسكرهم الصغير ، أو ملاجئهم القليلة العدد والمتقاربة مـن بعضها ،
يبدو من بعيد مرتفعا على المياه الضحضاحة بسبب ارتفاع الأرض على المياه
في هذه المنطقة . فيما بعد ، بعد انتهاء الأيام التــي استغرق فيها بناء المعسكر،
اتسع الوقت أمامهــم لمعرفــة إن تلك الميــاه ليست إلا مبـازل قديمــــة
لأراض مجاورة للهور ، غير إن هـــذه المعرفــة لـم تقف حائلا دون جعل هذه
المبازل جزءا مـــن الهور ، وهكــذا عاشوا تحت وطأة الزفير الثقيـل الذي
تطلقه المياه الراكدة العكرة من تحت الطبقة الخضراء السميكة لأشنات الماء ،
كمــا تعودت
اسماعهم ، مثلما تعودت منذ ولدوا ، على نقيق الضفادع كموسيقى وحيدة رتيبة
للياليهم التي تمضي فـــي هـــذا الصقـع النائي مــن عالــم يتضاءل كثيـرا
وسط الظلام قبل ظهور الكلاب . حتى فـي النهار يبدو نائيا وصغيـرا ، ولولا
الدرب
الترابي الذي تقدم منه شاحنة الأرزاق مرتين فـي اليوم ، لأعتقدوا إنهم معلقون
تحت النجــوم فــي الطرف القصي لعالــم يجهلون أين يقع . علـى آثار عجلات
شاحنة الأرزاق وروائح فضلات الطعـام جاءت الكلاب التــي أسرعت بعرض
صداقاتها علــى أهــل المعسكر ، وبدون إبطاء انقلبت الى حراس ملأوا الليالي
نباحا .
حتى هــذا الوقت العصيب ، لأنهم يستيقظون حوالي الساعة الرابعة صباح
كــــل يوم ليرتدوا بدلات القتال وحمــل معدات المعركــة بكاملهـا ،
والانطلاق بهرولــة ذات إيقاع ثابت وراء آمرهم الضابط برتبة مقدم ركن ،
هرولـــة فــي الظلام تحت سماء تخفق فيها نجوم كفت عــن استثارة اهتمامهم ،
ليقطعوا على
دربهـــم الترابــي حوالـــي عشرة كيلومترات حتــى يصلـوا الى ألسنة الأرض
المخترقة لمياه ضحلة ،حتى هــذا الوقت لم يحل الملازم الأول بينهم .لكنهم
في
الأيام الأولى لهرولتهـــم عبــر الظلام الى ساحة التدريب التــي مقتوهــا
خلال الساعة الأولى ، بل في اللحظات الأولى ، سمعوا إشاعة انطلقت مـــن
مراسلي
ضباط وحدتهـــم : إن ضابطا جديــدا سيقدم الى وحدتهــم . شأنهم شأن الجنـود
الآخريــن ، تناقلـــوا الإشاعـة بهمــة وحماسة ، وشأنهـم شأن جنود
الوحـــدات الصغيرة اهتموا كثيرا لمقدم هـــذا الضابط الــذي سيستغرق
الحديث عنــه وقتا طويلا مــن أيامهم فـي هذا المكان الموحش . لم ينتظروه
بفارغ صبر ، كما لـم
يلحفوا بالأسئلة عنـه ، ثـــم أنساهم التدريب اليومي العنيــف علــى ألسنة أرض ضيقة بين المياه أمر هذا الضابط .
تذكروه فجأة ، والحقيقة إنهم رأوه فتذكروا إشاعة مراسلي الضباط . رأوه
فـــي الظلام ، بقيافتــه العسكريــة الكاملـة وأسلحته ، راكضا الى جانب
صفهم الطويل فــي سحابة الغبار التي أثارتها أحذيتهم الثقيلة .كان يخترق
الغبار الذي
يرى علـــى الرغـم مــن الظلام بحيويـة نالت إعجابهم ، إلا إن ما عسر عليهـم معرفته أو رؤيته هو رتبته .
فـــي ذلك اليوم الذي لــم يحل فجره بعد ، إذ مازالت الثريا تتألق في
طرف السماء الجنوبي ، قاد الضابط الجديد فصيلا للهجوم علـى أحد الألسنة
الأرضية الكثيرة الشقوق . توقع أفراد الفصيل إنهم سيقومون بتدريب هجومي أقل
مشقة مــع هذا الضابط ، بيد إن نصفهم أو حتى أكثر مـن نصفهم سقط في الشقوق
أو
المياه الضحلة المطوقة للسان الأرض قبل أن تشرق الشمس .
- أأنتم مقاتلو أهوار ؟ .. أعتقد إنكم بحاجة الى مزيد من الحليب .
تلك هــي أول مقرعة هوى بها هذا الضابط على كواهلهم . ثم نسوا التقريع
المرير عندما واصل كلامه :
- أنا مــن الأهوار مثلكم ، فهل أفخر بكم وأنتم تتساقطون فــي الماء كما يفعـل
أبناء الجزيرة ؟ .
شعروا بكــل غابــات القصب والبردي تهتــز فــي ذاكرتهــم . هكذا
تدفقت الحماسة في الأطراف المنهكة ، لا لأن هذا الضابط برتبة ملازم أول هـو
مــن
جلدتهـم ، ولا لأنه شاب مثلهـم ، بـل لأنـه مس العصب الخفــي فــي دواخلهم ،
العصب الأكثر حساسيـة مــن الحياة نفسها والـذي يدفعهم الى الموت بلا
هوادة إذا ما هزه أحدهم ، بهزه تنتفض رجولتهم التي حافظت على كيانهم
ووجودهـم
خلال الآف السنين وسط مخاطــر بيئتهــم الرجراجــة غير المستقــرة ، ووسط معاركهم الطاحنة فيما بينهم .
فـــي ذلك الفجــر الأول لمقدم الملازم الأول ، ذلك الفجــر المليء
بلعلعـــة الرصاص وصراخهم الذي ينبغي أن يرعب العدو، وقفوا مخذولين على
سيقان تكاد تلتوي تحت ثقل أجسادهم جراء تقريع الملازم الأول ابن الأهوار
لهم . لم
يعطهم حتى ولا وقت يسير للراحة ،لم يمنحهم فرصة استرداد أنفاسهم . وهكذا
أعادوا الهجـوم كـرة أخـرى ، ثـم أعادوه كرة ثالثــة . وكانــوا سيعيدونه
للمـرة العاشرة والمائة وربما الألف لــو لــم تصل شاحنة الأرزاق فــي
الضحى جالبة
الفطور الذي أصبح له مذاقا جيدا أول مرة .
فــــي ليلــة ذلك اليــوم لــم يذكـره أحــد منهم في حديثه ، لا
لأنهم محضوه كراهيتهم ، بل لأنهم ناموا كما لــم يناموا منذ وقت يتعذر
عليهم تذكره . فــــي
ظلام اليوم التالي الذي يسبق الفجر بكثير أيقظهم صوته الرنان ، عندئذ اقتنعـوا
إن هــذا الضابط قــد رأى نور الحياة أول مرة مثلهم ، رآه علـى جباشة أو تهلة
عائمة أو انبثق من أعماق المياه مثل شياطين الأهوار في الأزمنة الغابرة .
خلال استراحة الفطور جلس بينهم وتناول طعامه في صحن قصديري مثل
صحونهم أخرجه مـن جعبته . احتسى شايه بقدح مــن القصدير يشبه أقداحهم .
خلال ذلك الفطــور رأوا رأسه كاملا ، رأوه بعــد أن أبعــد الخــوذة عنــه .
إن جلسته علــى مرتفع من الأرض بينهم وخوذته الى جانبه فتحا الطريق لــه
الى قلوبهم ، ثـــم تعلقوا به حين ترامت إليهم المعلومات التــي خرجت مـن
ملاجئ ضبــــاط وحدتهــم الثلاثــة بوساطـــة المراسليـن الثرثاريـن : رقـي
الى رتبــة مـــــلازم أول تكريما لشجاعته .
علـى الرغم مــن تعلقهم ، وعلـى الرغم من إن هذه المعلومـة جعلت
تعلقهم يصاحبه تقدير خاص ، فالشجاعــة فــي عالمهم الذي قدموا منه تستحق
التبجيل في كل الأحوال .شعروا بجسامة المعركة التي سيخ
الإثنين أكتوبر 17, 2011 10:30 am من طرف سبينوزا