ينشأ الإدمان جزئيا لأن العقاقير المحدثة للتعود تجعل الدارة الدماغية المسؤولة عن تقييم المثوبة تميل إلى اعتبار هذه العقاقير أكثر استحسانا من أي شيء آخر في الحياة. |
ثمة مكون رئيسي لداريّة المثوبة
(4) هذه يتمثل في
منظومة دوپامينية وسط حوفية mesolimbic: وهذه
المنظومة هي طقم من خلايا عصبية تقع في الباحة السقيفية البطنية
ventral tegmental
area (أو VTA
اختصارا)، وذلك بالقرب من قاعدة الدماغ، لترسل من هناك استطالات تستهدف مناطق
في مقدم الدماغ، ولا سيما نحو بنية عميقة أسفل القشرة المخية الجبهية تدعى
النواة المتكئة nucleus
accumbens. وتتواصل عصبونات الناحية السقيفية البطنية تلك بعضها مع بعض
عبر مرسال كيميائي (ناقل عصبي) هو الدوپامين، انطلاقا من منتهيات أو ذرا
استطالاتها الطويلة نحو مستقبلات موجودة على عصبونات النواة المتكئة. فالمسار
الدوپاميني (انطلاقا من الباحة VTA باتجاه النواة
المتكئة) هو مسار حاسم في موضوع الإدمان؛ إذ إن الحيوانات المصابة بآفات في هذه
المناطق الدماغية لا تعود تبدي اهتماما بمواد السرف
abuse المحدثة للتعود.
ناظم تيار المثوبة
(***) إن مسارات المثوبة قديمة من الناحية التطورية. فحتى
الدودة البسيطة التي تسكن في التربة وتحمل اسم
Caenorhabiditis elegans، تمتلك صورة
بدائية من هذه المسارات. ففي هذه الديدان يؤدي تثبيط أربعة من العصبونات
الثمانية الرئيسة المحتوية على دوپامين إلى أن يشق الحيوان طريقه قُدما عبر
كومة بكتيرات
(5) تشكل طعامه المفضل.
أما في الثدييات فإن دارة المثوبة هي أكثر تعقيدا،
وتتكامل ببضع مناطق دماغية أخرى تعمل على صبغ الخبرة بشيء من الانفعال وتوجيه
استجابة الفرد نحو منبهات المثوبة، بما في ذلك الغذاء والجنس والتآثر
الاجتماعي
(6). فعلى سبيل المثال تفيد اللوزة المخية
amygdala في تقدير ما إذا كانت خبرة ما سارة أو منفِّرة (وما إذا كان
ينبغي تكرار تلك الخبرة أو تفاديها). كما تفيد في تشكيل ارتباطات بين الخبرة
ودالات cues أخرى غيرها. أما الحصين
hippocampus فإنه يشارك في تسجيل ذاكرات الخبرة،
بما تتضمنه من أين ومتى ومع من حدثت هذه الخبرة. أما المناطق الجبهية للقشرة
المخية فإنها تنسق جميع هذه المعلومات وتعالجها لتقرر السلوك النهائي للفرد.
وفي الوقت ذاته يعمل المسار (المتكئ ـ السقيفي البطني) ناظمًا لتيار المثوبة؛
بحيث يخبر مراكز دماغية أخرى عن مدى المثوبة الحاصلة. فكلما خفتت مثوبة نشاط ما
زاد احتمال تذكر المتعضية (الكائن الحي) لذلك النشاط وتكرارها له.
ومع أن معظم معارفنا عن دارية المثوبة الدماغية كانت
قد أتت من تجارب أجريت على الحيوانات، فإن دراسات التصوير الدماغي التي جرت
طوال السنوات العشر الماضية كشفت مسارات معادلة تتحكم في شكليْ المثوبة الطبيعي
والعقاقيري لدى البشر. وباستخدام مسوح التصوير بالرنين (التصوير التجاوبي)
المغنطيسي الوظيفي (fMRI) أو التصوير الطبقي
بالإصدار الپوزيتروني (PET) ـ وهما تقنيتان
تقيسان تغيرات التدفق الدموي المرافق للنشاط العصبوني ـ لاحظ الباحثون تألق
النواة المتكئة لدى مدمني الكوكائين حينما تُقَدَّم إليهم جرعة منه. وعندما يرى
نفس المدمنين شريط فيديو لشخص يتعاطى الكوكائين أو صورة فوتوغرافية لهذه المادة
ممثلة بخطوط بيضاء على مرآة، فإن النواة المتكئة تستجيب على نحو مشابه، ومعها
اللوزة المخية وبعض الباحات في القشرة الدماغية كذلك. ونشير هنا إلى أن هذه
المناطق ذاتها ترتكس لدى المقامرين القسريين حينما يرون صورا لماكينات القمار،
مما يحمل على الافتراض بأن "المسار المتكئ ـ السقيفي البطني" له دور حاسم مشابه
في جميع أشكال الإدمان، وبخاصة الإدمان غير المرتبط بالعقاقير المخدرة.
الدماغ تحت التأثير
(****) إن التعاطي المزمن لمواد الإدمان يستطيع تغيير سلوك جزء رئيسي من دارة الثواب الدماغية: يتمثل في المسار pathway الممتد من الخلايا العصبية (العصبونات) المولدة للدوپامين في الباحة السقيفية البطنية (VTA) إلى الخلايا الحساسة للدوپامين في النواة المتكئة. وتسهم تلك التغيرات (الناجمة جزئيا عن الأفعال الجزيئية المرسومة في يسار هذه الصورة ووسطها) إلى حد كبير في التحمل tolerance والاعتماد dependence والتوق craving التي تغذي آلية التعاطي المتكرر للمخدر وتفضي إلى انتكاسات حتى بعد فترات طويلة من الامتناع عنه. وتبين الأسهم الملونة على الدماغ بعض المسارات الواصلة بين النواة المتكئة والباحة السقيفية البطنية وبين مناطق أخرى تساعد على جعل متعاطي المخدر فائقي الحساسية عند تذكر المسرات الماضية، وأكثر عرضة للانتكاس عند تعرضهم للضغوط النفسية وغير قادرين على ضبط اندفاعاتهم في السعي وراء المخدرات.
فيما إذا كان المتعاطي متحملا للمخدر أو على النقيض من ذلك حساسا له، فهذا أمر يعتمد جزئيا على مستويات الپروتينين CREB ودلتا FosB الفعّالة في خلايا النواة المتكئة. ففي البداية يسود الپروتين CREB مؤديا إلى التحمل، وفي غياب المخدر يسود انزعاج لا يزيله إلا مزيد من المخدر. ولكن فعالية الپروتين CREB تتراجع في غضون أيام إذا لم تعزز بجرعات متكررة من المخدر. وعلى عكس ذلك تبقى مستويات الپروتين دلتا FosB مرتفعة لعدة أسابيع بعد آخر تعرض للمخدر. وفيما تتراجع فعالية الپروتين CREB تشرع تأثيرات الپروتين دلتا FosB التحسيسية الطويلة الأمد في الهيمنة.
|
دوپامين، من فضلك
(*****) كيف يكون ممكنا لمواد إدمان مختلفة (لا تملك معالم
بنيوية مشتركة وتسبب تأثيرات متنوعة في الجسم) أن تثير استجابات متماثلة في
دارية المثوبة الدماغية؟ كيف يمكن للكوكائين الذي هو منبه يسبب تسريع ضربات
القلب، والهيروين الذي هو مسكن مفرج للألم، أن يكونا متعاكسين جدا في بعض
النواحي، ومع ذلك فإنهما متشابهان في استهدافهما منظومة المثوبة؟ والجواب عن
ذلك أن جميع عقاقير السرف تجعل النواة المتكئة، إضافة إلى أي تأثيرات أخرى،
تتلقى فيضا من الدوپامين وكذلك إشارات محاكية للدوپامين في بعض الأحيان.
حينما تُستثار خلية عصبية في الباحة السقيفية
البطنية (VTA)، فإنها ترسل رسالة كهربائية تسري
على طول محوارها axon الذي هو الطريق الرئيسي
الناقل للإشارة والذي يمتد في عمق النواة المتكئة. وهذه الإشارة تحرر الدوپامين
فينطلق من ذروة المحوار إلى داخل الفضوة الضئيلة (أي الفالق المشبكي
synaptic cleft)
التي تفصل بين نهاية المحوار وأحد العصبونات في النواة المتكئة. ومن هناك
يمسك
(7) الدوپامين مستقبِله الكائن على عصبون النواة المتكئة (على نحو يشبه مسك
المزلاج) ويرسل إشارته إلى داخل الخلية. وكي يتم إسكات الإشارة لاحقا، يعمل
عصبون الباحة السقيفية البطنية على إزالة الدوپامين من الفالق المشبكي، معيدا
تغليفه كي يُستعمل مجددا عند الحاجة إليه.
يشل الكوكائين (ومنبهات أخرى غيره) بشكل مؤقت
الپروتين الناقل الذي يعيد الناقل العصبي إلى نهايات العصبون السقيفي البطني
مؤديا بذلك إلى ترك فائض من الدوپامين يفعل فعله فوق النواة المتكئة. ومن ناحية
أخرى يتثبت الهيروين (وأفيونات أخرى غيره) على عصبونات في الباحة السقيفية
البطنية تقوم عادة بإسكات عصبونات الباحة السقيفية البطنية المنتجة للدوپامين.
وتحرر الأفيونات هذا الملقاط الخلوي cellular
clamp، فتسمح بذلك للخلايا المفرزة للدوپامين بصب
مزيد من الدوپامين في داخل النواة المتكئة. وكذلك تستطيع الأفيونات توليد رسالة
مثوبة قوية عن طريق تأثيرها بشكل مباشر في النواة المتكئة.
بيد أن المخدرات تفعل أكثر من مجرد تهيئة الرّجّة
الدوپامينية التي تبعث الشمق (الشعور بالغبطة) وتحدث المثوبة والتعزيز الأوليين.
فمع مرور الزمن وتكرار التعرض لهذه الرجات تولد تلك العقاقير تكيفات تدريجية في
دارية المثوبة من شأنها أن تسبب الإدمان.
بعد ولادة الإدمان
(******) تتصف مراحل الإدمان الأولى بالتحمل
tolerance والاعتماد
dependence. فبعد مرح صاخب يحدثه المخدر يطلب المدمن مزيدا منه لبلوغ
نفس التأثير في المزاج أو التركيز وهكذا دواليك. وبعدئذ يثير هذا التحمل تصعيدا
في استعمال المخدر، وهذا يولد الاعتماد، الذي يصبح حاجة تظهر على شكل ارتكاسات
انفعالية (وأحيانا جسمية) مؤلمة إذا حُرِم المدمن من المخدر. ويحدث التحمل
والاعتماد كلاهما لأن الاستخدام المتكرر للمخدر يستطيع أن يكبت أجزاءً من دارة
المثوبة الدماغية.
وفي قلب هذا الكبت القاسي يقع جزيء يعرف بالرمز
CREB، وهو پروتين رابط لعنصر الاستجابة
للأدينوزين الأحادي الفسفات الحلقي (cAMP). فجزيء
CREB هذا هو عامل انتساخ
transcription factor، بمعنى أنه پروتين
ينظم الإفصاح (التعبير) expression عن الجينات أو
عن فعاليتها، ومن ثم ينظم السلوك الإجمالي للخلايا العصبية. فحينما يتناول
المرء عقاقير السرف (أيْ المخدرات)، تزداد تراكيز الدوپامين في النواة المتكئة،
فتحرض الخلايا المستجيبة للدوپامين على زيادة إنتاج جزيء تأشير صغير هو
الأدينوزين الأحادي الفسفات الحلقي CAMP الذي
ينشط بدوره الپروتين CREB. وبعد انقداح الپروتين
CREB يرتبط بمجموعة نوعية من الجينات تقدح إنتاج
الپروتينات التي تكوِّدها تلك الجينات.
يسبب الاستخدام المزمن للمخدر تنشيطا مستديما
للپروتين CREB الذي يزيد من إفصاح الجينات التي
يستهدفها والتي يكوِّد بعضها پروتينات تعمل فيما بعد على تثبيط دارية المثوبة.
فعلى سبيل المثال يتحكم الپروتين CREB في إنتاج
الدينورفين dynorphin، الذي هو جزيء طبيعي ذو
تأثيرات شبيهة بالأفيون. ويقوم على اصطناع الدينورفين مجموعة فرعية من
العصبونات في النواة المتكئة تتحلق مرتدة لتثبط عصبونات في الباحة السقيفية
البطنية. وعبر تخليقه للدينورفين يكبت الپروتين CREB
دارية المثوبة الدماغية مسببا التحمل عبر جعل جرعة المخدر القديمة ذاتها أقل
مثوبة. وكذلك تسهم زيادة الدينورفين في الاعتماد
(8) ما دام تثبيط الدينورفين
لمسار المثوبة يترك الفرد في غياب المخدر مكتئبا وغير قادر على بلوغ السرور في
الأنشطة التي كانت سابقا ممتعة.
بيد أن الپروتين CREB
هو جزء فقط من القصة. فعامل الانتساخ هذا ينطفئ في غضون أيام بعد توقف استعمال
المخدر. وهكذا لا يستطيع الپروتين CREB تعليل
السيطرة الطويلة التي تتصف بها مواد السرف على الدماغ، بمعنى أنه لا يستطيع
تعليل التغيرات الدماغية التي تجعل المدمنين يعودون إلى تلك المادة حتى بعد
سنوات أو عقود من الامتناع عنها. ومثل هذه الانتكاسة تعود إلى حد كبير إلى
التحسيس sinsitization الذي هو ظاهرة تتضخم
بوساطتها تأثيرات المخدر.
ومع أنه يبدو مضادا للحدس، فإن المخدر ذاته يستطيع
إثارة التحمل والتحسيس معا. فبعد نجاح تأثير المخدر بوقت قصير، تزداد فعالية
الپروتين CREB ويسود التحمل لعدة أيام؛ بمعنى أن
المتعاطي يحتاج إلى كميات متزايدة من ذلك المخدر لاستنهاض دارة المثوبة. ولكن
إذا امتنع المدمن عن تناوله، تتراجع فعالية الپروتين
CREB. وعند هذه النقطة، يفتر التحمل ويبدأ التحسيس الذي يستهل التوق
الشديد الذي يشكل أساس سلوك السعي القسري إلى تعاطي المخدر لدى المدمن، حتى إن
مجرد التذوق أو التذكر يكفي لعودة المدمن إلى تعاطي المخدر. ويدوم هذا التوق
الجارف حتى بعد فترات طويلة من الامتناع عن العقار المخدر.
ولنفهم أسس التحسيس هذا، يجب علينا أن نبحث عن
التغيرات الجزيئية التي تدوم أكثر من أيام قليلة. وهناك متسبب مرشَّح في هذا
الصدد يتمثل في عامل انتساخ آخر يُعرف باسم: دلتا FosB.
الطريق إلى الانتكاسة
(*******) يبدو أن الپروتين "دلتا FosB"
يعمل بطريقة في الإدمان مختلفة جدا عن عمل الپروتين CREB.
فالدراسات على الجرذان والفئران تشير إلى أنه استجابة للإدمان المزمن في
استعمال المخدِّر، ترتفع تراكيز الپروتين دلتا FosB
تدريجيا وبشكل مطرد في النواة المتكئة والمناطق الدماغية الأخرى. إضافة إلى كون
هذا الپروتين منيعا بشكل استثنائي، فإنه يبقى فعالا في هذه الخلايا العصبية
أسابيع أو شهورا بعد تناول المخدر، مما قد يمكِّنه من الحفاظ على التغيرات في
الإفصاح الجيني مدة طويلة بعد الكف عن تناول المخدِّر.
تبين الدراسات على الفئران الطافرة التي تولّد كميات
فائضة من الپروتين دلتا FosB في النواة المتكئة
أن التحريض المطول لهذا الجزيء يجعل الحيوانات مفرطة الحساسية للمخدرات. فهذه
الفئران كانت عالية التأهب للانتكاس بعد إيقاف المخدر، ثم إعادة وضعه في متناول
هذه الحيوانات من جديد (وهذا اكتشاف يتضمن أن تراكيز الپروتين دلتا
FosB تستطيع أن تسهم فعلا في زيادات طويلة الأمد
في الحساسية داخل مسارات المثوبة لدى البشر). وإنه مما يلفت النظر أن الپروتين
دلتا FosB يتم إنتاجه أيضا في النواة المتكئة عند
الفئران استجابة لتكرار مثوبات
(9) غير مخدرة، مثل التدوير المكثف للدولاب أو
استهلاك السكر. وكذلك فإنه قد يتصف بدور عام أكبر في تطوير السلوك القسري تجاه
مجموعة واسعة من المنبهات المثوبية.
تبصرات مستقاة من التصوير
(********) تؤكد بقع اللون في مسوح أدمغة مدمنين على الكوكائين (في الأعلى) ما أوضحته دراسات أجريت على الحيوان بأن تناول المخدر يمكن أن يحدث تغيرات فورية عميقة في الفعالية وذلك في عدة مناطق دماغية، بما في ذلك تلك المبينة في هذه الصور؛ فألمع البقع يظهر التغير الأكثر أهمية. وأثناء عمل المسوح، كان المفحوصون يقدرون مشاعر الاندفاع والتوق على مقياس من الصفر إلى ثلاثة، كاشفين بأن الباحة السقيفية البطنية (VTA) واللوزة الممتدة تحت العدسية sublenticular ضروريتان للاندفاع المسبب بالكوكائين وأن اللوزة والنواة المتكئة ضروريتان للاندفاع والتوق إلى مزيد من المخدر، وهذا يصبح أشد قوة أثناء التناقص التدريجي للشمق (الشعور بالغبطة) euphoria (المخطط البياني).
تظهر الصور المجهرية لعصبونات النواة المتكئة لدى حيوانات تعرَّضت لعقاقير غير إدمانية فروعا تغصنية dendritic branches ذات أعداد عادية من نتوءات مستقبلة للإشارة تدعى أشواكا spines (في اليمين والوسط). ولكن أولئك الذين يصبحون مدمنين على الكوكائين يبرعمون أشواكا إضافية على الفروع التغصنية التي تظهر بالتالي كثة المظهر (في اليسار). ومن المفترض أن إعادة النمذجة remodeling هذه تجعل العصبونات أكثر حساسية للإشارات الواردة من الباحة VTA وأمكنة أخرى، وبذلك تسهم في الحساسية للمخدر. وتوحي مكتشفات حديثة أن الپروتين دلتا FosB يؤدي دورا في نمو هذه الأشواك.
|
اتضح حديثا وجود آلية للكيفية التي تمكن من دوام
التحسيس حتى بعد عودة تراكيز الپروتين دلتا FosB
إلى المستوى العادي. فأصبح من المعروف أن التعرض المزمن للكوكائين وعقاقير
السرف الأخرى يحرض عصبونات النواة المتكئة المستقبلة للإشارة على إنماء براعم
إضافية (يطلق عليها اسم أشواك تغصنية dendritic
spines) تقيم اتصالات بين الخلية العصبية المعنية
وعصبونات أخرى. ويمكن أن يستمر هذا التبرعم عند القوارض بضعة أشهر بعد التوقف
عن تناول المخدر. ويوحي هذا الاكتشاف بأن الپروتين دلتا
FosB يمكن أن يكون مسؤولا عن تلك الأشواك. وهذه النتائج تشجع المغامرة
على القول بإمكانية قيام هذه الاتصالات الإضافية المتولدة من نشاط الپروتين
دلتا FosB بتضخيم التأشير بين الخلايا المتواصلة
فيما بينها لبضع سنين وإمكانية أن يتسبب هذا التأشير المرتفع في مبالغة تأثر
الدماغ بالدالات المتعلقة بالمخدر. ويمكن أن تكون هذه التغيرات التغصُّنية في
النهاية هي التكيف الرئيسي الذي يفسر عناد الإدمان.
تَعلُّم الإدمان
(*********) وهكذا ركزنا حتى الآن على التغيرات التي يسببها
المخدر والتي تتعلق بالدوپامين في منظومة المثوبة الدماغية. ولكننا نستذكر أن
ثمة مناطق دماغية أخرى (وبخاصة اللوزة المخية والحصين والقشرة المخية الجبهية)
معنية بالإدمان وتتصل جيئة وذهابا بالباحة السقيفية البطنية والنواة المتكئة.
فجميع هذه المناطق تشارك مسار المثوبة عبر إطلاقها الناقل العصبي المسمى "گلوتامات".
فحينما تزيد عقاقير السرف (المخدرات) إطلاق الدوپامين من الباحة السقيفية
البطنية نحو داخل النواة المتكئة، فإنها تغير كذلك استجابية كل من الباحة
والنواة للناقل العصبي "گلوتامات" عدة أيام. وتشير التجارب المجراة على الحيوان
إلى أن التغيرات في الحساسية للگلوتامات في مسار المثوبة إنما تحسن إطلاق
الدوپامين من الباحة السقيفية البطنية، وكذلك الاستجابة للدوپامين في النواة
المتكئة، وبذلك تعزز فعالية الپروتينين CREB
ودلتا FosB ومعهما التأثيرات غير السارة لهذه
الجزيئات. وأكثر من ذلك، يبدو أن ما أصاب حساسية الگلوتامات من تغيرات إنما
يقوي المسار العصبوني الذي يربط ذاكرات خبرات تناول المخدر بالمثوبة القوية،
وهذا من شأنه تغذية الرغبة في السعي إلى المخدر.
لا تُعرف الآلية التي بوساطتها تغير المخدرات
الحساسية تجاه الگلوتامات في عصبونات مسار المثوبة حتى الآن بشكل أكيد، ولكن
يمكن صياغة فرضية عمل مبنية على كيفية تأثير الگلوتامات في عصبونات الحُصين.
فثمة أنماط معينة من منبهات قصيرة الأمد تستطيع تحسين استجابة الخلية
للگلوتامات طوال سنوات. وتساعد الظاهرة التي تدعى التمكين الطويل الأمد
long term
potentiation على تشكيل الذاكرات وضبطها عبر
مكوكية تمارسها پروتيناتُ مستقبلاتٍ رابطة للگلوتامات تنطلق من مخازن داخل
خلوية (حيث تكون بحالة خاملة [غير وظيفية]) نحو غشاء الخلية العصبية (حيث
تستطيع الاستجابة للگلوتامات المتحررة داخل المشبك). وتؤثر عقاقير السرف (المخدرات)
في مكوكية المستقبلات الگلوتاماتية في مسار المثوبة. وهناك مكتشفات توحي بأنها
تستطيع أن تؤثر كذلك في اصطناع مستقبلات گلوتاماتية معينة.
وبأخذ كل ما تقدم بالحسبان، فإن جميع التغيرات التي
يسببها المخدر في دارة المثوبة (والتي جرت مناقشتها) إنما تعزز التحمل
والاعتماد والتوق والانتكاس والسلوكيات المعقدة التي تصاحب الإدمان. ولئن بقيت
بعض التفصيلات غامضة، فإننا نستطيع قول بعض الأشياء بقدر من اليقين. فأثناء
التعاطي المطول للمخدر، وبعد الكف عن هذا التعاطي بوقت قصير، تسود تغيرات في
تراكيز الأدينوزين الأحادي الفسفات الحلقي (cyclic
AMP) وفي فعالية الپروتين
CREB في العصبونات داخل مسار المثوبة. وتسبب هذه التبدلات التحمل
والاعتماد وتقلل الحساسية تجاه المخدر وتجعل المدمن مكتئبا ومفتقرا إلى
الدافعية. ولدى الامتناع المطول عن المخدر، تسود تغيرات في فعالية الپروتين
دلتا FosB والتأشير الگلوتاماتي. ويبدو أن هذه
الفعالية هي ذاتها التي تجر المدمن رجوعا إلى طلب المزيد، عن طريق زيادة
حساسيته لتأثيرات المخدر إذا ما استعمل هذا المخدر مجددا بعد انقطاع، وعن طريق
إثارة استجابات قوية لذكريات مسرات الماضي ولدالات تعيد هذه الذكريات إلى الذهن.
تعد التعديلات في الپروتينين
CERB ودلتا FosB والتأشير الگلوتاماتي
أمرا محوريا للإدمان، ولكنها بالتأكيد ليست كل القصة. ومع تقدم الأبحاث سوف
يكتشف علماء الأعصاب حتما تكيفات خلوية وجزيئية مهمة أخرى في دارة المثوبة وفي
مناطق الدماغ المعنية، وهذا من شأنه توضيح حقيقة طبيعة الإدمان بشكل موثوق.
معالجة مشتركة؟
(**********) إضافة إلى تحسين فهمنا للأساس البيولوجي للإدمان على
المخدرات، يزودنا اكتشاف هذه التغيرات الجزيئية بمستهدفات جديدة للمعالجة
الكيميائية لهذا الاضطراب. وما أكبر حاجتنا إلى معالجات حديثة في هذا الميدان،
إذ إنه إضافة إلى الأذى النفسي والبدني الواضح تشكل هذه الحالة سببا رئيسا
للكثير من المشكلات الطبية. فالكحوليون يكونون عرضة لتشمع الكبد، ويكون
المدخنون عرضة لسرطان الرئة، كما ينشر المدمنون على الهيروين الڤيروس
HIV (المسبب لمرض نقص المناعة: الإيدز) حينما
يتشاركون في إبر الحقن. وقد قُدِّرت أضرار الإدمان الصحية والإنتاجية في
الولايات المتحدة بما يفوق 300 بليون دولار سنويا، وفي هذا ما يجعله واحدا من
كبرى المعضلات التي تواجه المجتمع وأكثرها خطورة. وإذا توسع تعريف الإدمان
ليشمل أشكالا أخرى من السلوك المرضي القسري (مثل فرط الأكل ولعب القمار)، تصبح
التكلفة أكبر بكثير. وهكذا فإن المعالجات التي تستطيع تصحيح الارتكاسات
الإدمانية المنحرفة تجاه المنبهات المثوبية (سواء كانت الكوكائين أو مفاتن
امرأة أو نشوة الكسب في لعب الورق) كفيلة بأن تقدم للمجتمع فوائد كبيرة. وتُخفق
معالجات اليوم في إشفاء معظم المدمنين. فثمة أدوية تمنع المخدر من الوصول إلى
هدفه. ولكن هذا التدبير يترك المتعاطين متصفين "بدماغ مدمن" وتوق شديد إلى
المخدر. وثمة مداخلات طبية أخرى تحاكي تأثيرات مخدرٍ ما فتضعف التوق زمنا يكفي
المدمن لإقلاعه عن تلك العادة. بيد أن هذه البدائل الكيميائية قد تستغني عن
إحدى العادات بعادة أخرى. ومع أن معالجات التأهيل غير الطبية (مثل برامج الخُطى
الاثنتي عشرة الشعبية
(10) أفادت الكثير من الناس في مقارعة إدمانهم، فإن
المشاركين في هذه البرامج ما زالوا ينتكسون بمعدل عال.
مخدرات مختلفة وتأثير واحد
(***********) تصيب عقاقير السرف (المخدرات) أهدافا متباينة في الدماغ، ولكنها جميعا، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، تزيد كمية التأشير الدوپاميني في النواة المتكئة، وبذلك تعزز الإدمان. وتبعث معرفة هذه الأهداف أفكارا حول المعالجة (انظر الإطار في الصفحة المقابلة).
استطالة من القشرة المخية أو اللوزة المخية أو الحصين
يحصر الكوكائين والمنبهات الأخرى ذات الصلة قَبْطَ uptake الدوپامين أو يزيد تحريره من قبل نهايات خلايا الباحة (VTA)، وبذلك يزيد التأشير الدوپاميني في النواة المتكئة.
تستطيع عدة مخدرات (ومن ضمنها الكوكائين والأمفيتامين والمورفين والكحول) أن تغير استجابات النواة المتكئة وخلايا الباحة (VTA) للگلوتامات بطرق طويلة الديمومة. وتسهم هذه التغيرات في التوق إلى المخدر بإحياء ذكريات خبرات المخدر الماضية حتى لو بعد التوقف عن تعاطيه.
يستحث النيكوتين خلايا الباحة (VTA) على إطلاق الدوپامين إلى داخل النواة المتكئة.
عصبون محرر للدوپامين
تابع للباحة VTA
عصبون مثبط في الباحة VTA
يزيد الكحول والأفيونات (الأفيون والهيروين وأقرباؤهما) إطلاق الدوپامين بوساطة عصبونات ملطفة تتثبط بدونها العصبونات المفرزة للدوپامين.
ناقل شبه أفيوني تصنعه عصبونات
تحاكي المخدرات الأفيونية بعض الأفعال الدوپامينية في خلايا النواة المتكئة.
إمكانات المعالجة
عامل فرضي يمكن أن يقلل التأشير الدوپاميني في النواة المتكئة عن طريق التدخل في مقدرة الكوكائين على حصار قبط الدوپامين من قبل نهايات عصبونات الباحة (VTA).
عامل فرضي واسع الطيف عن طريق تخفيف التأثيرات الدوپامينية عبر منع الپروتين CREB أو الپروتين دلتا FosB من التراكم أو من تفعيل الجينات المستهدفة لهذه الجزيئات.
عامل فرضي واسع الطيف يمكن أن يتدخل في التغيرات غير المساعدة في التأشير الگلوتاماتي الذي يحدث في خلايا النواة المتكئة مع التعاطي المدمن للمخدر.
تحصر مضادات الأفيون (مثل الناتريكسون)، والموجودة حاليا في الأسواق، المستقبلات الأفيونية. إنها تستخدم ضد الكحولية وتدخين السگائر، لأن الكحول والنيكوتين يقدحان إطلاق الجزيئات الشبيهة بالأفيون والخاصة بالدماغ نفسه.
|
وعبر تسلحهم بالبصيرة في موضوع بيولوجية الإدمان،
يمكن أن يصبح الباحثون قادرين ذات يوم على تصميم أدوية تعاكس أو تعوّض
التأثيرات الطويلة الأمد لعقاقير السرف (المخدرات) في مناطق المثوبة. ويحتمل أن
تخف هيمنة المخدر على المدمن عبر مركبات تتآثر بشكل نوعي مع المستقبلات التي
ترتبط بالگلوتامات أو الدوپامين في النواة المتكئة أو من خلال كيماويات تمنع
الپروتين CREB أو الپروتين دلتا
FosB من التأثير في جيناتها المستهدفة داخل تلك
المنطقة.
إضافة إلى ذلك، نحتاج إلى أن نتعلم كيف نتعرّف أولئك
الأفراد الذين يكونون أكثر استعدادا للإدمان. ومع أن العوامل النفسية
والاجتماعية والبيئية تمثل عوامل مهمة حتما، فإن الدراسات المجراة على أسر
سريعة القابلية للتأثر بهذه العلة توحي بأن نحو 50 في المئة من خطر الإدمان على
المخدرات لدى البشر شأن جيني. صحيح إننا لا نعرف حتى الآن الجينات الخاصة
المعنية بذلك، لكن إذا أمكن تعرّف الأفراد ذوي القابلية للإصابة بصورة مبكرة
فإن التدخل الوقائي يمكن أن يتجه إلى هذه الجماعة ذات القابلية السريعة للتأثر.
ونظرا لوجود عوامل اجتماعية وانفعالية تفعل فعلها في
الإدمان، فإننا لا نستطيع توقع أدوية لعلاج تام لمتلازمة الإدمان. ولكننا
نستطيع أن نأمل في أن تُضعف علاجات المستقبل القوتين البيولوجيتين الشديدتين (أي
الاعتماد والتوق) اللتين تقودان الإدمان، وسوف تجعل هذه العلاجات، تبعا لذلك،
التدخل النفسي الوقائي أكثر فعالية في المساعدة على تعافي المدمن جسميا وعقليا.