ما أن
أطلقت صرختها الأولى حتى يُتّمت. قُطع حبل السرّة وانفصل الجسدان من دون
أن يكون لها الحق في الاختيار. صرختها الثانية كانت توسلاً لأن يعيدوها إلى
الرحم لتبقى. صرختها الثالثة كانت نشيجا ونحيبا لانقطاع أي أمل بعودتها..
ماء رأسها كان دمعاً.
حانت منها التفاتة. كانت تريد أن تسجّل في ذاكرتها صورة لأمها. إلاّ أن كل
ما استطاعت رؤيته هو الدم. ببكائها، كانت تحاول مناجاتها. محاسبتها على
تركها وحيدة في هذا العالم، فهي كانت تدري مسبقاً المصير التي ستؤول إليه.
هي، وحيث كانت، في الرحم، كانت متيقظة لكلّ ما في الخارج من بشاعة. ناهيك
عن ذلك، الخلوة الدائمة التي كانت تجمعهما سويا، جعلتها الشاهدة الوحيدة
على يوميات أمها بأدَق تفاصيلها. كانت تسمع أنينها، فتواسيها بقدر ما أوتيت
قدماها من قدرة على الرفس. كأنها تقول لها أنت لست وحيدة. أنا أشعر بك،
أنا معك، أنا منك.. تلبد حين تسمع رنة ضحكتها. تجمد مكانها لتتمكن أذناها
من رصد الصوت جيدا لتعيده على مسمعها لاحقا حين تكون.
كانت تريد أن تكون على صورتها. كانت تستعجل اللحظة التي سترى فيها وجهها.
تريد أن تجرّب مذاق قبلتها. أن تشعرها بأنها، ومن اللحظة الأولى التي
ستضمّها، ستريحها. ستنسيها معنى الشقاء، وتكون هي سعادتها التي لم تجرّبها
يوماً.
آه يا أمي لو بقيت يومها في الرحم. إلا أن ما دفعني للخروج باكرا كان الشوق
والحب فقط. لو كنت أدري أن خروجي باكرا سيكلفك حياتك ما كنت خرجت.. لو
قدّر لي أن أعود وأبقى لكنت اخترت أن أتعفّن هناك.. كانت تسمع صوتها:
"رحماك يا الله"، إلا أنه لم يرحم. لعله سدّ أذنيه حينها ليبرر خطأه
لاحقًا. إذاً، ها قد ولدت وبداخلي نقمة عليه عزّ وجل، فأنا ملحدَة بالفطرة،
كافرة من دون أن أكون ماركسية، من دون أن أشتمّ رائحة لينين.
أن أكون أنا يعني أن لا تكون هي. أن يكون هناك فدية. كانت حياتي مقابل
حياتها. لم أخلق من طين أو من ضلع رجل. خلقت من دم، وبي تشوهات نفسية
وفكرية. غسلت بالدموع، ومع ذلك لم تطهرني من رجسي، بل ازداد حقدي على
والدي. فهو كان على علم مسبق بخطورة حبلها، إلا أنه كان يريد ولدا من صلبه،
ولدا ابنا يحمل اسمه ويكون سندا له، لا فتاة يسمع عويلها يومياً، تحتاجه
أكثر مما يحتاجها..
لو كنت ذكراً لكان تغنّى وطرب بصريخي ليلا. إلا أني أنثى، خلقت ولعنتي معي،
فكان رحيل أمي بلا فائدة، وبالنسبة إليه، عليها اللعنة، حتى في رحيلها
هزمته. وكأنها بموتها تسخر منه.
اليوم وبعد كل تلك السنوات، أحمل في يدي رسالته. أشدها على صدري وأقف أمام
ما تبقى من طيفه. أرى عجزه. أحاول استغلال ذلك لأصبّ جام غضبي عليه، وأشعره
بحجم المآسي التي ألحقها بي، من دون ذنب. إلا أنه حتى في عجزه يغلبني.
يصفعني صمته. يغرز سكينه في صدري. يجلس في إطار صورته متفرجا، وعلى شفتيه
تعلو ابتسامة اعتذار.
السبت أكتوبر 01, 2011 12:56 pm من طرف هذا الكتاب