ي
«سوريا الأسد»، كان على أجيال الحركة التصحيحيّة أن تتعلّم الذهول كدرع
حماية من «قبح العالم». للذهول، كما لكل شيء آخر، حضيض وذروة. الحضيض حياة
يوميّة عامرة بالتفاصيل الصغيرة، بمعنى آخر حياة عديمة الحياة. وذروة
الذهول، ربما، حين يصير السوريّ شاعراً؛ أقصى الذهول الشّعر.
كمراهقين وشباب، لم يكن العالم بالنسبة لهم سوى سوريا «تلك». تبدّى الذهول
طريقة وحيدة، وإن بصور مختلفة، للحفاظ على رؤية مقبولة للوجود. أمّا أولئك
القلائل الذين خسروا رهان احتراف الذهول فقد ربحوا ذواتهم. كانوا أكثر
راديكاليّة، حقيقيّون هم «أكثر من اللازم وأعمق من اللازم»، بعضهم لم يأنس
أو يحترم الطرق الالتفافيّة، قالوا كلمتهم الأخيرة في قبح «عالمنا الوطني»
ورحلوا: انتحروا. من هم؟ لا نعرفهم، لكنهم وُجدوا يوماً!
يبدأ الذهول من المدرسة، مدرسة «طلائع البعث» بالطبع، في المقعد المحاذي
تماماً لأيّة نافذة تفسح المجال للتلصص على زرقة السماء أو رماديّتها،
هنالك، من ذلك المقعد بالذات، تبدأ رحلة الذهول.
أول دروسه، كانت تتمثّل في حصّة «التربيّة القوميّة الاشتراكيّة». قد
يسميّها البعض دروس الضجر. هي كذلك، لكنّ كثافة الأوهام فيها تحيل الدارس
إلى «ذاهل» بالقوة، يضبط ساعة «الوقائع» المحشوة بكتاب الإنشاء ذلك على
إيقاع الحقائق الفجّة: ينفجر الزمن، ولم لا؟! إنّه زمن «الحركة التصحيّحيّة
المجيدة»!
لدروس «التربيّة العسكريّة» قصّة أخرى، هذه تصنع شروداً من نوع آخر: كثافة
في الهلع والذعر تجعل من الرعب شروداً محضاً، لست شيئاً أمام هذا المدرب ـ
الرمز القائم بحدّ ذاته. ليس تماماً، في الحقيقة، أنتما تشتركان في أكثر
الأمور حقيقيّة: كلاكما لا شيء. الفرق، إن كان ثمّة فرق، أنّه برغي، غاية
في الصغر، في آلة ضخمة لصنع الخوف، يؤهّلك، على طريقته، لتكون برغيّاً آخر
في الآلة نفسها.
وكما يمكن لمدرّسة جميلة أن تصرخ في وجهك وتصفعك (يصحّ اعتبارها عزقة في
آلة الخوف؟!)، يمكن لمدرب التربيّة العسكريّة أن يجبرك لساعات على إسناد
قدميك إلى الحائط ويديك إلى الأرض. هكذا يغدو وجودك، كذليل، منتصباً على
قدميه!
رغم ذلك، كان عليك، حين يأمرك المدرب، أن تغني «منتصب القامة أمشي»!
سوريّ أنت، و«الذهول المطلق» شرط ضروريّ للاحتفاظ بشيء من إنسانيتك. تشرد،
تفقد حاسّة الانتباه، تضيّع البوصلة إلى نفسك، تصير «سوريّ طيّب». ذهول
يضمن لك أن تحيّد، إلى هذه الدرجة أو تلك، كل القبح الذي يمكن أن تجسّده،
واقعيّاً، عبارة «سوريا الأسد». ولكن أيضاً، أن تحيّد نفسك عن الانشغال
بهذا القبح، بمعنى أوضح، ألاّ تكتشف نفسك كجبان قزم!
تقول لنفسك: لكني لست «دون كيخوته». ثم تنتبه إلى كون هذا الـ«دون كيخوته»
نفسه محض اختراع. تستسيغ العفن، تطرب «للاستقرار» الشهير: التوتر في الدرجة
صفر، موتك، كإنسان، محقّق. لا تقلق!
على هذا النحو، وبتفاصيل أكثر تعقيداً وأشد مرّارة وأكثر اتساعاً، تم
تربيّة الجيل المسمّى «جيل الرفيق القائد حافظ الأسد». هذا الجيل، لا شيء
أكثر من كتلة خوف هائلة متجسّدة في مئات الألوف من الكائنات المحرومة من
تلّمس الطريق إلى حريّتها، الطريق المؤدي إلى آدميتها. بمعنى آخر، جيل من
المذهولين الخافضي الرؤوس!
مات «القائد الخالد»، في العاشر من حزيران من إحدى سنوات العمر الذي كان ما يزال مهدوراً. مات «القائد الخالد»؟! ليس تماماً.
تغيّر الزيّ الرسمي لطلاب وطالبات المدارس، استبدّلوا البذلة العسكريّة،
«بذلة الفتوة!»، بزيّ جديد: فيه شيء من ألوان الحياة، زهري وأزرق ورمادي
وغير ذلك. لكن هذا لم ينفع، ولم يكن له أن ينفع، فقد بقيّ كتاب «التربيّة
القوميّة الاشتراكيّة» على حاله. حدث تغيير وحيد ربما، انتزعت عن الصفحة
الأولى صورة «القائد الخالد» واستبدلت بصورة «الرئيس الشاب». نحن في مطلع
القرن الـ21، لكنّنا أيضاً في سبعينيات القرن الذي سبقه. هكذا يجري الزمن
في ظل أنظمة «إلى الأبد»: لا يجري!
منذ سبعة أشهر، دأب السوريون الثائرون على تمزيق صور كثيرة لمن اعتبر يوماً
قائداً خالداً، وحطموا تماثيل أكثر للقائد نفسه، ربما يفوق عددها عدد
الصور الممزقة والتماثيل المحطمّة لـ«الرئيس الشاب». يعادل هذا انتزاعاً
علنيّاً يقوم به طلاب مدرسة لصورة الصفحة الأولى من كتاب «التربيّة
القوميّة» في اجتماعهم الصباحي. ولكن لا، هنالك ما هو أكثر من ذلك،
فالتلامذة الذين «رجعوا للجد تاني» يتظاهرون اليوم حال خروجهم من المدرسة،
ويطالبون بإسقاط النظام الذي احتلت، حتى الأمس القريب، صور رمزه الأعلى
صفحات حياتهم. وهم إن سمعوا نداء الشعار: أمّة عربيّة واحدة، فإنّهم
يردّون: «رسالة البعث فاسدة». حدث هذا في إحدى ثانويّات منطقة القلمون.
طلاب سوريا الجديدة يقولون: وداعا «سوريا الأسد»!