|
تخزِن جزيئات الدنا البيانات بصورة طبيعية، جاعلة إياها مادة أولية مثلى لبناء الحواسيب. |
من النماذج إلى الجزيئات
(***) لقد
بدأ أحدنا (شاپيرو) هذا البحث انطلاقا من القناعة بأن السيرورات الأساسية
التي تقوم بها آلات جزيئية بيولوجية معينة ضمن الخلايا الحية ـ كتمييزِ
لبِنات البناء الجزيئية وقص الجزيئات الپوليمرية البيولوجية وإعادة ربطها
والتحرُّك على طول پوليمر ـ يمكن، من حيث المبدأ، أن تُستخدم جميعا في
تشييد حاسوب عام يستند إلى آلة تورينگ الافتراضية. فمن حيث الجوهر، يمكن
أن تُتَرجم العمليات الحاسوبية التي تقوم بها آلة كهذه إلى عبارات جزيئية
بيولوجية، من قبيل عملية «تعرُّفٍ» واحدة وعمليتي «قص» وعمليتي «ربط»، ثم
التحرك نحو اليسار أو نحو اليمين.
وكان
[من الشركة IBM] قد طرح أيضا ملاحظات مشابهة واقترح آلة جزيئية افتراضية في عام 1982
تستند إلى مفاهيم <تورينگ>. فنظرا لاهتمامه بفيزياء استهلاك
الطاقة، تنبأ بأن الجزيئات قد تصبح يوما ما أساسا لتجهيزات حاسوبية أشد
كفاءة في استهلاكها للطاقة. [انظر: «القيود الفيزيائية الأساسية على
الحسابات»،العلوم، العدد (1988) 6، ص 6].
آلات الحوسبة: المفاهيمية والطبيعية(****) تصوَّر الرياضياتي <تورينگ> خصائص الحاسوب الميكانيكي في عام 1936، أي قبل مدة طويلة من التمكن من رؤية آلات في مستوى الجزيئات ضمن الخلية ودراستها. وحين كُشف فيما بعد عن عمل مؤتمتات طبيعية متناهية الصغر(8)، ظهر تشابه مدهش مع مفهوم <تورينگ>: فكلتا المنظومتين تخزنان المعلومات في متتاليات من الرموز، وكلتاهما تعالجان هذه المتتاليات في خطوات متتابعة، وكلتاهما تعدِّلان الرموز أو تضيفانها وفقا لقواعد ثابتة. آلة تورينگ تتعامل هذه الآلة الافتراضية مع شريط تكويد للمعلومات يحمل رموزا من قبيل "a" و "b". وتعالِج وحدة تحكمٍ قادرة على القراءة والكتابة الشريط على أساس موقع رمز واحد في الوقت الواحد تبعا لتعليمات قائمة على قواعد الانتقال(9) بناء على الحالة الداخلية لوحدة التحكم. لذا تفرض قواعد الانتقال في هذا المثال أنه إذا كانت حالة وحدة التحكم S0) 0),وكان الرمز المقروء هو a، فإن على الوحدة تغيير حالتها إلى S1) 1),وتغيير الرمز ليصبح b، والتحرك بموضع واحد إلى اليسار (L). الآلة البيولوجية تقرأ الريباسة ribosome، وهي بنية صغيرة توجد في الخلية، المعلومات المكودة في مخطوطات جينية تُعرف بالرنا المرسال وتترجمها إلى سلاسل أحماض أمينية لتشكيل پروتينات. إن الأبجدية الرمزية للرنا المرسال تتكوَّن من ثلاثيات نيوكليتيدية(10) تسمى الكودونات codons، والتي يقابل كل منها حمضا أمينيا معينا. وحين تعالِج الريباسة شريط الرنا المرسال كودونًا تلو الآخر، تقدم جزيئاتٌ مساعدة (يسمى الواحد منها الرنا الناقل(11)) الحمض الأميني الصحيح. وتتحقَّق الرَّنَوات الناقلة من تطابق الكودون، ثم تطلق الحمض الأميني لينضم إلى السلسلة المتنامية.
|
لقد جرى أول استعراض واقعي للمقدرة الحاسوبية للجزيئات في عام 1994 حينما استخدم
[من جامعة كاليفورنيا الجنوبية] الدنا لحل مسألة مثلت دائما عبئا ثقيلا
على خوارزميات الحاسوب التقليدية. تهدف هذه المسألة، التي تدعى معضلة
المسار الهاملتوني أو معضلة البائع الجوال، إلى العثور على أقصر مسار بين
مدن تربطها خطوط طيران تمر في كل مدينة مرة واحدة فقط. فبتكوين جزيئات دنا
تمثل رمزيا المدن ورحلات الطيران وبجمع آلاف البلايين منها في أنبوب
الاختبار، تمكن <إدلمان> من استغلال النزوع إلى التزاوج بين
الجزيئات للحصول على حلٍّ للمسألة خلال بضع دقائق [انظر: «الحوسبة بوساطة
الدنا»،العلوم، العدد (1999) 10، ص 40].
لكنْ من سوء الطالع أنه استغرق مدة أطول لاستخلاص الجزيئات التي تمثل
الحل الصحيح من المزيج يدويا باستخدام الأدوات المتاحة له في المختبر
حينذاك. وتطلَّع <إدلمان> إلى تقانات جديدة تمكِّن من صنع حاسوب
جزيئي عملي حقا.
وكتب <إدلمان> في مقالة علمية واعدة في عام 1994
يصف تجربته التي استخدم فيها جزيئات الدنا: «في المستقبل، قد توافر
الأبحاث في مضمار علم الأحياء الجزيئية تقنيات محسَّنة للتعامل مع
الجزيئات الكبيرة.» ويتابع: «قد تتيح أبحاث الكيمياء تطوير إنزيمات
تركيبية(12) مصنِّعة. بل
يمكن للمرء أن يتخيل ظهور حاسوب متعدد الأغراض في المستقبل لا يحوي سوى
جزيء كبير وحيد ترافقه مجموعة من الإنزيمات المشابهة للريباسة وتؤثر فيه.»
وصار
وضع تصميم منطقي واقعي لآلة كهذه، يمكنها تمثيل «مواصفات التشغيل»
الأساسية لزمرة كبيرة من آلات الحوسبة الجزيئية المستقبلية، هدفا
<لشاپيرو>. وبحلول عام 1999 أصبح لديه نموذج ميكانيكي للتصميم مصنوع من قطع پلاستيكية. ثم ضمَمْنا جهودنا معا لنترجم هذا النموذج إلى جزيئات حقيقية.
لكن
عوضا عن التصدي مباشرة للمعضلة بصورتها النهائية المتمثلة ببناء آلة
تورينگ كاملة، قررنا أن نحاول أولا بناء آلة بسيطة شبيهة بآلة تورينگ
تُعرف بالمؤتمتة المحدودة(13)؛ أما المهمة الوحيدة لهذه الآلة فهي تحديد إنْ كانت سلسلة من الرموز أو الحروف من أبجدية مكونة من حرفين فقط، كالحرفين زaس و زbس مثلا، تحوي عددا زوجيا من الحرف b.
ويمكن تحقيق هذه المهمة بمؤتمتة محدودة ذات حالتين فقط وذات «برنامج»
يتألف من أربع تعليمات تدعى قواعد الانتقال. وخطرت لأحدنا (بننسون) فكرة
استخدام جزيء دنا مزدوج الشريط ليمثل السلسلة المُدخَلة، وأربعة جزيئات
دنا أخرى قصيرة مزدوجة الشريط لتمثل قواعد الانتقال، أو «البرنامج»، في
المؤتمتة، واثنين من الإنزيمات الطبيعية التي تتعامل مع الدنا، وهما
الإنزيم القاص(FokI(14 والإنزيم الرابط(15) ليمثلا العتاد(16) الحاسوبي.
نموذج آلة تورينگ الجزيئية(*****) يمكن لآلة تورينگ مصنوعة من جزيئات بيولوجية أن تستغل مقدرتها الطبيعية لتمييز الرموز وضم وحدات جزيئية جزئية معا أو قص روابطها. والنموذج الپلاستيكي الذي بناه أحد المؤلفيْن (اليمين) يمثل كيفية بناء منظومة من هذا القبيل. وفي هذا النموذج، تحمل لبنات «الجزيء» الصفراء الرموز، وتدل جزيئات البرمجيات الزرقاء على حالة الآلة وتعرِّف قواعد الانتقال؛ أما النتوءات التي على اللبنات فتميِّزها فيزيائيا. تعالج الآلة متتالية من الرموز الجزيئية. وعندما تكون وحدة المعالجة في المركز، يتحدَّد كل من الرمز والحالة الراهنة للآلة. كيفية العمل يمثَّل «الانتقال الحوسبي» computational transition الواحد بكيان جزيئي يحوي حالة ورمزا جديدين للآلة، وموقع تمييز لكشف الحالة والرمز الراهنين. ويُري المثال المبين قاعدة انتقال: «إذا كانت الحالة الراهنة هي S0 وكان الرمز الراهن هو b، فانتقلْ إلى الحالة S1 والرمز a، ثم تحرك خطوة نحو اليسار.» يَدخُل كيان انتقال حوسبي حر الحركة ضمن وحدة تحكم الآلة (1). ويتحد الكيان الجزيئي مع الرمز والحالة الراهنين ثم يزيحهما (2). وتستطيع وحدة التحكم التحرك موضعا واحدا إلى اليسار لاحتواء كيان انتقال آخر (3). وتتكرر السيرورة باستمرار مع حالات ورموز جديدة مادامت قواعد الانتقال قابلة للتطبيق. |
والمعضلة
المنطقية الأساسية التي كان علينا حلها في تصميم هذه الآلة هي كيفية
تمثيل الحالات الوسيطة المتغيرة في عملية الحوسبة، التي تتألف من الحالة
الداخلية الراهنة للمؤتمتة، ومن مؤشر إلى الرمز في سلسلة المدخلات الذي
تُجرى معالجته. وقد حقَّقنا ذلك بفضل حيلة حصيفة؛ ففي كل خطوة من عملية
الحوسبة كان العتاد الإنزيمي «يهضم» الجزيء المدخل فعلا، قاصّا الرمز
الحالي الذي تُجرى معالجته وكاشفا الغطاء عن الرمز الذي يليه. ونظرا لأن
الرمز يمكن أن يُقص في موقعين مختلفين، فإن كل نسخة ناتجة منه يمكن أن
تمثل إحدى حالتين ممكنتين لعملية الحوسبة، إضافة إلى الرمز ذاته. ومن
اللافت أننا اكتشفنا فيما بعد أن هذا العنصر الأخير كان مشابها لتصميمٍ
لآلة تورينگ جزيئية كان قد اقترحه [وهو من تلامذة <إدلمان> السابقين].
ومن اللافت أيضا أن الحاسوب الذي أعلنه فريقنا في عام 2001 كان ذاتي التحكم(17)؛
فحالما توضع الجزيئات التي تمثل المُدخلات والبرمجيات والعتاد، في محلول
حافظ مناسب، تبدأ عملية الحوسبة وتستمر متكررة إلى أن تكتمل من دون تدخل
بشري.
وحينما
اختبرنا هذه المنظومة تبين لنا أيضا أنها لم تحل المسألة الأصلية
المقصودة فحسب، أي تحديد إنْ كان عدد ظهور رمز ما في السلسلة زوجيا، بل إن
بإمكانها القيام بالمزيد. فالمؤتمتة المحدودة ذات الحالتين والرمزين
تمتلك ثمانية تراكيب ممكنة لقواعد الرموز والحالات (32).
ونظرا لأن تصميمنا قائم على وحدات مستقلة، فإن جميع قواعد الانتقال
الثماني الممكنة قد تُنفَّذ مباشرة باستخدام ثمانية جزيئات انتقال مختلفة.
لذا يمكن جعل المؤتمتة تؤدي مهام مختلفة بانتقاء «برامج» مختلفة، أي
بانتقاء خليط مختلف من جزيئات الانتقال.
وبتجريب
برامج متنوعة في آلتنا الجزيئية البسيطة، عثرنا أيضا على طريقة لإدخال
مزيد من التحسين في أدائها. فقد تضمنت اختباراتنا تجربةَ حذف جرى فيها
تقييم عمل المؤتمتة مع إزالة مكوناتها الجزيئية، واحدا تلو الآخر. وعندما
أزلنا من المزيج جزيء الإنزيم الرابط، الذي يلصق الجزيء البرمجي بجزيء
الدخل ليتمكن الإنزيم الآخر (FokI) من تمييزه وقصه، تبين أن عملية الحوسبة تحرز أيضا بعض التقدم. وبهذا اكتشفنا مقدرة غير معروفة سابقا كامنة في الإنزيم FokI لتمييز متتاليات دنا معينة وقصها، بِغضّ النظر عن كون شريطَيْ الجزيء ملتصقين معا أو لا.
بناء مؤتمتة جزيئية(******) نظرا لأن المتعضيات الحية living organisms تعالج معلومات، فإن موادها وآلياتها تساعد فعلا على الحوسبة. يخزن الدنا البيانات مكتوبة بأبجدية النيوكليتيدات، وتقرأ آلية خلوية تلك المعلومات وتعدلها باستخدام إنزيمات وجزيئات أخرى. إن الشيء المركزي في نظام التشغيل هذا هو التزاوجات الكيميائية بين الجزيئات التي تمكنها من تمييز بعضها بعضا والاتحاد معا. لذا فإن تشكيل الجزيئات ضمن تجهيزة مشابهة لآلة تورينگ يعني ترجمة مفهومِه إلى لغتها. يمكن لحاسوب مفاهيمي بسيط يسمى المؤتمتة المحدودة أن يتحرك باتجاه واحد، وأن يقرأ سلسلة من الرموز، وأن يبدِّل حالته الداخلية وفقا لقواعد الانتقال. وبهذا يمكن لمؤتمتة ذات حالتين الإجابة عن أسئلة أجوبتها نعم و لا بالانتقال بين حالتين تسميان 1 و 0، أما حالتها في نهاية الحساب(18) فتمثل النتيجة. تتضمن المواد الأولية للمؤتمتة الجزيئية شرائط دنا بتشكيلات متنوعة لتعمل بوصفها مدخلات وبرمجيات، والإنزيم FokI القاص للدنا بوصفه عتادا. والنيوكليتيدات التي اختُصرت أسماؤها بالأحرفA ، C ، G ، T ، تمثل هنا الرموز وحالة الآلة الداخلية. الرمز والحالة تمثَّل تراكيب الرمزين a أو b أو المُنهي (t) مع حالتي الآلة 0 و 1 سلاسل رباعية النيوكليتيدات. وبناء على كيفية قص السلسلة النيوكليتيدية الخماسية TGGCT، على سبيل المثال، سوف تدل تلك السلاسل على الرمز a وعلى الحالة 0 أو على الحالة 1. البرمجيات تُكوَّد قواعد الانتقال بثمانية جزيئات دنا قصيرة مزدوجة الشرائط تحوي موقع تمييز الإنزيم FokI (الأزرق)، تليها نيوكليتيدات فاصلة (الأخضر)، ونهاية لاصقة وحيدة الشريط (الأصفر) سوف تنضم إلى السلسلة المتممة لها في جزيء الدخل. العتاد(19) يميز الإنزيم FokI (الرمادي) دائما السلسلة النيوكليتيدية GGATG (الأزرق)، ويقص شريط دنا مزدوجا في موضعي النيوكليتيدين 9 و 13 اللذين يقعان بعد موقع التمييز ذاك. الحوسبة الذاتية التحكم يميز كيان عتادي برمجي تركيب الحالة/الرمز المتمم له على جزيء الدخل. ويتحد الجزيئان معا لتكوين كيان دخل عتادي برمجي، ثم يقص الإنزيم FokI جزيء الدخل لإظهار الرمز التالي. يميز كيان عتادي برمجي جديد الحالة والرمز التاليين على ما يتبقى من جزيء الدخل. تستمر التفاعلات حتى انتهاء القواعد أو حتى ظهور رمز الإنهاء. في هذا المثال، أنتج القصُّ الحوسبي المؤدي إلى الخرج النهائي (أقصى اليمين) رمزَ إنهاء رباعي النيوكليتيدات الدالّ على حالة الآلة 0، وهي نتيجة الحساب.
|
وقد أسعدتنا إمكانية إزالة الإنزيم الرابط من تصميم حاسوبنا الجزيئي لأنها تقلص العتاد الإنزيمي اللازم مباشرة بمقدار 50%.
والأكثر أهمية هو أن عملية الربط كانت الوحيدة التي تستهلك طاقة في
الحوسبة، ولذا فإن تجاوزها يسمح للحاسوب الجزيئي بالعمل من دون مصدر خارجي
للوقود. يضاف إلى ذلك أن حذف خطوة الربط يعني أن الجزيئات البرمجية لن
تُستهلك أثناء عمليات الحوسبة، بل يمكن أن يعاد استخدامها.
لقد
استغرقت مجموعتنا في استكمال المنظومة الخالية من الإنزيم الرابط شهورا
من الجهود الشاقة وتحليل البيانات. وقد كان عمل المنظومة ذا كفاءة منخفضة
جدا في البداية، إذ كانت تتوقف بعد خطوة أو اثنتين من عملية الحوسبة.
لكننا كنا متحفزين لمواجهة التحديات الحاسوبية والكيميائية البيولوجية
معا. وبفضل مساعدة ونصيحة
وزملاء آخرين، وَجد <بِننسون> الحل أخيرا. فبإدخال تعديلات طفيفة،
لكنْ جوهرية، على متتاليات الدنا التي استخدمناها في مؤتمتتنا، أمكننا
الاستفادة من قدرة يتمتع بها الإنزيم FokI لم تكن معروفة من قبل لإحراز قفزة كبرى في أداء الحاسوب. وبحلول عام 2003،
أصبح لدينا حاسوب ذاتي التحكم وقابل للبرمجة ويمكنه استخدام جزيئات
دَخْلِهِ مصدرا وحيدا للوقود [انظر الإطار في الصفحة المقابلة].
لذا،
بإمكان هذا الحاسوب، من حيث المبدأ، أن يعالج أي جزيءِ دخل مهما بلغ
طوله، باستخدام عدد ثابت من جزيئات العتاد والبرمجيات من دون نفاد طاقته.
أما من وجهة النظر الحاسوبية، فقد كانت مؤتمتتنا بالنسبة إلى الحاسوب الذي
كنا نصبو إليه، أي آلة تورينگ البيولوجية الجزيئية، أشبه بدراجة ذاتية
الدفع مقارنة بسيارة رولّْس رويس.
الدنا الطبيب(*******)
وبما
أن المؤتمتة المحدودة الثنائية الحالات كانت أبسط من أن تكون مفيدة في حل
مسائل حاسوبية معقدة، فقد اعتبرناها مجرد استعراض مثير لمفهوم الحواسيب
الجزيئية البيولوجية القابلة للبرمجة والذاتية التحكم. ولذا قررنا متابعة
العمل. ولكنْ حينما ركَّزنا جهودنا لفترة من الزمن على محاولة بناء
مؤتمتات أشد تعقيدا، سرعان ما جابهتنا المعضلة التي أدركها <إدلمان>،
وهي أن «الإنزيمات المصممة» designer enzymes التي تاق للحصول عليها خلال عقد من الزمن، مازالت غير موجودة.
لا يستطيع أي إنزيم، أو مجموعة إنزيمات، متوافرة في الطبيعة أن تقوم بمهام التمييز والقص والربط تسلسليا وبالترادف(20)،
بالمرونة التي يتطلبها تحقيق تصميم آلة تورينگ. لذا يجب تحوير الإنزيمات
الطبيعية، أو هندسة إنزيمات صنعية جديدة تماما. ولما كان العلم لا يمتلك
هذه المقدرة حتى الآن، كان لا بد من انتظار ابتكار أجزاء آلة تورينگ
البيولوجية الجزيئية التي توصلنا إلى مواصفات تصميمها المنطقية.
وهذا
ما حدا بنا على العودة إلى مؤتمتتنا الثنائية الحالات لنرى إنْ كنا
نستطيع، على الأقل، إيجاد شيء مفيد بوسعها تحقيقه. لذا، وعلى ضوء
التطبيقات الطبية التي كانت في بالنا، تساءلنا إنْ كانت آلتنا تستطيع أن
تقوم بنوع من التشخيص البسيط، كتحديد وجود مجموعة أعراض لمرض ما.
يكفي
لهذه المهمة توافر حالتين فقط، أسمينا إحداهما «نعم» وأسمينا الأخرى
"لا". تبدأ المؤتمتة الحوسبة في الحالة نعم وتتفقد الأعراض واحدا تلو
الآخر. فإذا كان أحد الأعراض المدونة في لائحة التدقيق لديها موجودا، بقيت
في الحالة نعم؛ وإذا لم يكن أيٌّ من الأعراض موجودا، فإن المؤتمتة تنتقل
إلى الحالة لا وتبقى فيها حتى نهاية الحوسبة. لذا تنتهي عملية الحوسبة في
الحالة نعم فقط إذا كانت جميع أعراض المرض موجودة، أما إذا كان أحد الأعراض
غير موجود، فإن «التشخيص» يكون سلبيا.
لجعل هذا النهج المنطقي يعمل، كان علينا العثور على طريقة لربط المؤتمتة الجزيئية(21)
بمحيطها البيولوجي الكيميائي لتتحسَّس وجود أعراض معينة لمرض ما. إن
الفكرة العامة حول إمكان تأثير البيئة في التراكيز النسبية لجزيئات
الانتقال المتنافسة، ومن ثَمَّ في عملية الحوسبة، كانت قد اقتُرحت سابقا
في المخطط التصميمي لآلة تورينگ الجزيئية. ولتطبيق هذا المبدأ لتحسُّس
أعراض المرض، كان علينا أن نجعل وجود مؤشر المرض أو غيابه محدِّدا لتركيز
الجزيئات البرمجية التي تُثبِت وجود العرَض.
وعلى
سبيل المثال، يتميز كثير من السرطانات بمستويات غير طبيعية لپروتينات
معينة في الخلية نتيجة جنوح جينات معينة نحو الإفصاح الزائد(22)
أو الناقص عن پروتينها المكوَّد. وحين إفصاح جينة ما، تنسخ الإنزيمات في
نواة الخلية سلسلتها على شكل نسخة رنا. وتقرأ هذه المخطوطةَ الجزيئيةَ
للجينة، والتي تُعرف بالرنا المرسال (mRNA)،
بنيةٌ تسمى الريباسة التي تُترجِم متتالية الرنا إلى سلسلة من الأحماض
الأمينية التي ستشكِّل الپروتين. لذا فإن مستويات مخطوطات رنا مرسال معين،
الأعلى من الطبيعية أو الأدنى، يمكن أن تعبِّر عن نشاط جيني.
لقد
ابتكر <بِننسون> منظومة يمكن أن تتفاعل فيها بعض جزيئات قواعد
الانتقال انتقائيا مع متتاليات الرنا المرسال. ويؤثر هذا التفاعل بدوره في
مقدرة جزيئات الانتقال على المشاركة في عملية الحوسبة. فالمستوى العالي
للرنا المرسال، الذي يمثل عرَضا لمرض، يسبب هيمنة جزيئات الانتقال من
الحالة نعم إلى الحالة نعم، وهذا ما يزيد احتمال اكتشاف الحاسوب لوجود
العرَض [انظر الإطار في الصفحتين 32 و 33].
عمليا، يمكن استخدام هذه المنظومة لأي مرض يقترن بمستويات غير طبيعية من
الپروتينات الناجمة عن نشاط جيني، ويمكن أيضا تكييفها لتكشف الطفرات
الضارة في سلاسل الرنا المرسال.
بعد
أن توافرت لنا آلية الدخل التي يمكنها تحسُّس أعراض المرض والأداة
المنطقية لإجراء التشخيص، برز السؤال الآتي: ما الذي يجب على الحاسوب فعله
حين تشخيص المرض؟ في البداية، درسنا إمكانية جعل الحاسوب يصدر إشارة
تشخيص مرئية. لكنْ في العالم الجزيئي، ليس إصدار الإشارة وإنجاز الخطوة
المنطقية التالية المتمثلة بإعطاء الدواء بعيدين أحدهما عن الآخر. لذا
اقترح [وهو طالب دراسات عليا ضمن فريقنا] آلية تمكِّن الحاسوب من إطلاق جزيء دواء حين التشخيص الإيجابي، ونفَّذ تلك الآلية.
ومع
ذلك، لم تكن خطتنا كاملة. وقد يكون السؤال المركزي في تصميم العتاد
الحاسوبي هو كيف نبني منظومة موثوقة بمكونات غير موثوقة. ولا تقتصر هذه
المشكلة على الحواسيب الكيميائية البيولوجية فقط، بل هي خاصة متأصلة في
جميع المنظومات المعقدة؛ فحتى التجهيزات الميكانيكية تصير أقل وثوقية مع
تضاؤل أحجامها وازدياد أعداد مكوناتها. وفي حالتنا، في ضوء الطبيعة
الاحتمالية الشاملة والسلوك غير الدقيق للعناصر البيولوجية الجزيئية، لا بد
أن تنتهي بعض العمليات الحاسوبية إلى تشخيص إيجابي حتى لو لم تكن جميع
أعراض المرض موجودة، والعكس صحيح. لكنْ من حسن الطالع أن هذا السلوك
الاحتمالي قابل للقياس والتكرار، ولذا يمكننا التعويض عما يحصل من أخطاء
بواسطة منظومة للرقابة المتوازنة(23).
لذا
صنعنا صنفين من الجزيئات الحاسوبية، صُمِّم أحدهما ليطلق عقارا عندما
تنتهي عملية الحوسبة إلى الحالة نعم، وصُمِّم الآخر ليطلق مثبِّطا للعقار
ذاته عندما تنتهي عملية الحوسبة إلى الحالة لا. وبتغيير التراكيز النسبية
لهذين الصنفين من الجزيئات، أمكننا إحراز سيطرة دقيقة على عتبة وثوقية
التشخيص التي يُطلَق عندها العقار الفعال.
إن
الأطباء البشريين يتخذون مثل هذه القرارات عندما يوازنون بين حجم
المجازفة بالنسبة إلى شخص يعاني مرضا محتملا وبين مقدار سمية العقار
ووثوقية التشخيص. ومؤتمتتنا الجزيئية يمكن أن تُبرمج لتقوم بمحاكمة مماثلة
إذا أُرسلت في مهمة طبية في المستقبل.
بزوغ فجر فصيلة جديدة(********)
لقد
تبيَّن أن دراجتنا البسيطة حملتنا إلى أبعد مما كنا نعتقد أنها تستطيعه،
وفي اتجاه يختلف إلى حد ما عما تصورناه في البداية. لقد جرى حتى الآن
استعراض حاسوبنا البيولوجي الجزيئي في أنبوب اختبار فقط. وجرت محاكاة
بيئته البيولوجية بإضافة تراكيز مختلفة من جزيئات الرنا والدنا، ثم وضع
جميع مكونات المؤتمتة في ذات الأنبوب. أما هدفنا الآن فهو جعل الحاسوب
الجزيئي يعمل ضمن خلية حية، لرؤيته وهو يحسب ضمنها ولجعله يتواصل مع
بيئته.
لكن
مجرد إدخال المؤتمتة إلى الخلية يمثل تحديا، لأن معظم منظومات إيصال
الجزيئات إليها قد صمِّم إما للدنا أو للپروتين، وحاسوبنا يحوي كلا منهما.
ولذا فإننا نحاول العثور على أساليب لإدخال هذه الجزيئات إلى الخلية
واحدا تلو الآخر. أما العقبة الأخرى فهي العثور على طريقة لمراقبة جميع
جوانب عملية الحوسبة وهي تُجرى ضمن الخلية، للتحقُّق من أن المؤتمتة قادرة
على العمل من دون أن تعرقل أنشطةُ الخلية خطوات الحوسبة ومن دون أن تؤثر
مكونات الحاسوب في سلوك الخلية على نحو غير مقصود. وأخيرا، نحن نستقصي
أساليب بديلة لربط المؤتمتة ببيئتها. إن أبحاث السرطان الحديثة جدا تشير
إلى أن جزيئات الرنا الميكروية، وهي جزيئات صغيرة ذات وظائف تنظيمية مهمة
ضمن الخلايا، تمثل مؤشرات أفضل إلى المرض، ولذا فإننا نعيد تصميم حاسوبنا
كي «يخاطب» الرنا الميكروي بدلا من الرنا المرسال.
صحيحٌ
أننا مازلنا بعيدين عن استخدام حاسوبنا ضمن خلايا حية، وبلا ريب عن
تشغيله ضن متعضِّيات حية، إلا أن هذا البرهان المهم على المفهوم صار
بحوزتنا. فبربط أعراض المرض البيولوجية الكيميائية مباشرة بخطوات الحوسبة
الأساسية في حاسوب جزيئي، أكَّد استعراضنا في أنبوب الاختبار أن حاسوبا
جزيئيا ذاتي التحكم يستطيع أن يتواصل مع منظومات بيولوجية، وأن يقوم
بتقديرات ذات مغزى بيولوجي؛ إذ يمكن لآلية دَخْلِهِ أن تتحسَّس البيئة
التي يعمل ضمنها، ويمكن لآلية الحوسبة فيه أن تحلل تلك البيئة، ويمكن
لآلية خَرْجِه أن تؤثر في البيئة بصورة ذكية بناء على نتائج تحليلاته.
الدنا الطبيب(*********) بعد أن بيَّنا أن مؤتمتة مصنوعة من دنا وإنزيمات يمكن أن تنفِّذ حوسبة نعم-أو-لا مجردة، سعى المؤلفان إلى تقديم استفسار عملي إليها يمكن أن تواجهه داخل خلية حية: هل توجد دلائل على مرض؟ إذا كان الجواب نعم، فإنه يمكن للمؤتمتة إطلاق عقار المداواة. فمفهوم الحوسبة الأساسي لا يختلف عن التصميم السابق: تعالِج كيانات من جزيئات انتقال «برمجية» وإنزيمات «عتادية» الرموز ضمن جزيء تشخيص، وتقصه على نحو متكرر لإظهار الرموز اللاحقة. يضاف إلى ذلك أن المهمة الجديدة تتطلب وسيلة كي تولد دلائل المرض دخلا للحوسبة، وآليات لتأكيد التشخيص وتقديم العلاج. الدخل input تؤدي المخطوطات الجينية المسماة الرنا المرسال مهمة مؤشرات المرض. فبالتآثر مع جزيئات البرمجيات، يحدِّد الرنا المرسال الجزيء الذي سيُستخدم في النهاية في الحوسبة. في هذا المثال، يبدأ شريطا جزيء الانتقال نعم، نعم منفصلين، وأحدهما ملتصق بشريط حام(24) وحيد. لكن الحامي ذو قدرة شديدة على التزاوج بالرنا المرسال المقترن بالمرض. فإذا كان الرنا المرسال موجودا، فيترك الحامي شريطه البرمجي ليلتصق بالرنا المرسال. بعدئذ سيتحد شريطا البرمجيات المنفصلين معا ليشكِّلا جزيء انتقال ناشط نعم← نعم. الحوسبة computation تعالِج كيانات من برمجيات جزيئات الانتقال وعتاديات FokI الإنزيمية سلسلةً من الرموز ضمن جزيء التشخيص الذي يمثل نشاطا قليلا ( ) أو نشاطا كثيرا ( ) بجينات معينة. تبدأ المؤتمتة الحوسبة في الحالة نعم. وإذا كانت جميع دلائل المرض موجودة، أعطت تشخيصا إيجابيا؛ أما إذا كان أحد الدلائل غير موجود، انتقلت المؤتمتة إلى الحالة لا وبقيت فيها. الخرج output بعد التشخيص الإيجابي، يحرر القص الأخير لجزيء التشخيص الدواءَ، وهو شريط مفرد يسمى جزيء دنا مضاد للاستشعار(25) (الأعلى). وللتعويض عن أخطاء التشخيص، ولَّد المؤلفان أيضا نسخا سلبية من جزيئات التشخيص لتنفيذ حوسبات موازية. وفي غياب دلائل على المرض، تطلق هذه المؤتمتات مثبِّطا للعقار. وبوجود الألوف من كلا نوعي جزيئات التشخيص التي تُحسب في الوقت نفسه، فإن الأغلبية سوف تُنتج التشخيص الصحيح، وسوف يفوق عدد الجزيئات المضادة للاستشعار عدد مثبطاتها (الأسفل)، أو يحصل العكس.
|
بهذا
تكون مؤتمتتنا قد وَفت بالوعد الخاص بالحواسيب البيولوجية الجزيئية التي
تمكِّن من التآثر المباشر مع العالم البيولوجي الكيميائي. وهي تعيد أيضا
علم الحوسبة ثانية إلى رؤية <تورينگ> الأولى. لقد كان على آلات
الحوسبة الأولى أن تنحرف عن مفهومه لتستوعب خواص المكونات الإلكترونية.
ولم يتسنَّ لعلماء الحاسوب رؤية منظومة عاملة(26)
مشابهة لفكرة <تورينگ> المجردة للحوسبة إلا بعد عقود من الزمن،
عندما بدأ علماء الأحياء بالكشف عن السيرورات التي تقوم بها آلات متناهية
الصغر ضمن الخلايا الحية.
ليس
القصد من هذا القول إن الجزيئات يمكن أن تحل محل الآلات الإلكترونية في
جميع عمليات الحوسبة. فلكلٍّ من فصيلتي الحاسوب مزاياه، وهما تستطيعان
التعايش معا بسهولة. لكنْ نظرا لأن الجزيئات البيولوجية تستطيع الوصول
مباشرة إلى البيانات المكودة ضمن جزيئات بيولوجية أخرى، فإنها متوافقة
فطريا مع المنظومات الحية على نحو غير ممكن للحواسيب الإلكترونية. لذا
نعتقد أن تجاربنا ترجح أن هذه الفصيلة الجديدة من الحواسيب سوف تكون ذات
أهمية كبرى، وسوف تثبت أنها مفيدة في مجال واسع من التطبيقات. لقد دبَّت
الحياة في الحاسوب البيولوجي الجزيئي.