خونة نوعاً ما
(*)ظلت الخلايا التي تتوقف عن الانقسام بصفة مستدامة بمثابة إحدى الطرق الدفاعية للجسم ضد السرطان. أما الآن، فَيُنْظر أحيانا إلى تلك الخلايا أيضا كمتهمة بإحداث السرطان وكسبب للتشيخ aging.
<.D ستيپ>
باختصار لقد اُفترض سابقا أن الخلايا المتشيخة senescent cells - أي التي فقدت قدرتها على الانقسام - تسهم في التشيخ عن طريق إضعاف عملية إصلاح الأنسجة. وكان من المعتقد أن الخلايا تتحول إلى مرحلة التشيخ لتتجنب التحول إلى خلايا سرطانية عندما تعرضها لخطر التكاثر غير المحكوم. أما فكرة أن الخلايا المتشيخة تؤدي دورا في تشيخ الأنسجة والأجسام، فقد تلاشى الاهتمام بها لاحقا، إلا أنها اكتسبت بعض الدعم مؤخرا. وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن الخلايا يمكن أن تسهم في التشيخ بالطريقة المقترحة بداية، وكذلك عن طريق تحفيز الالتهاب. إضافة إلى ذلك، من الممكن أن تُسبب هذه الخلايا الأذى للخلايا المجاورة بطرق تساعد على نشوء السرطان. وتشير بعض الأدلة في الفئران إلى أن تأخير التشيخ الخلوي قد يساعد على إبطاء التشيخ وتأجيل حدوث بعض الأمراض المرافقة له. |
في عام 1999، أراد<.M .J فان دويرسن> وزملاؤه [في مستشفى مايو كلينيك في روشستر بولاية مينيسوتا] أن يعرفوا ما إذا كانت الصبغيات (الكروموسومات) chromosomes المشوهة تسبب السرطان. ولذلك قاموا بهندسة فأر يفتقر إلى بروتين يساعد على الحفاظ على سلامة الصبغيات. وكانت لفائف الدنا DNA لدى تلك القوارض مشوهة على نحو كاف. ومع أن الحيوانات لم يكن لديها استعداد خاص للإصابة بالسرطان، كانت المفاجأة إصابتها بمجموعة غريبة من الأمراض المزعجة، مثل السادّ cataract والضمور العضلي، وترقق النسيج الشحمي تحت الجلد، وازدياد مترق في انحناء العمود الفقري، مما جعل الفئران تبدو وكأنها جِمالٌ وحيدة السنام، كما أصبحت تنزع إلى الوفاة المبكرة.
لم يكن لدى <فان دويرسن> أدنى فكرة عن سبب ظهور هذه التشوهات الخاصة. وفي عام 2002، اكتشف تقريرا عن فئران مصابة بالتشيخ المبكر وأدهشته الصور التي أبدت ظهوره وقد صارت هذه الفئران محدودبة مع تقدمها في السن. وفجأة، التمعت الفكرة التالية في ذهنه: ففئرانه المحدودبة الظهر كانت تَشيخ كذلك بسرعة غير معتادة. وعند سبر المشكلة بعمق أكبر، اكتشف فريق عمل مايو كلينيك أن خلايا العديد من أنسجة هذه القوارض قد انزلقت إلى حالة تدعى التشيّخ الخلوي cellular senescence، والتي تفقد فيها بشكل دائم قدرتها على الانقسام وتبدو شاذة بصورة ما. وفشل الخلايا في الانقسام يفسر الشذوذات العظمية والعضلية والعينية والجلدية التي لاحظها فريق <فان دويرسن>.
وبعد ذلك، تجاوز الباحثون التفسيرات وقاموا بأمر يتعلق بالأعراض: فعن طريق إضافة تبديل جيني ثان إلى فئرانهم، استطاعوا التخلص من الخلايا المتشيّخة كلما تشكلت، وبذلك بدت مظاهر مختلفة للتشيخ السريع لدى تلك الحيوانات. وهذا الاكتشاف، الذي أُعلن عنه في الشهر 2011/11، أدى إلى دفع حقل التشيخ الخلوي إلى طليعة علم التشيخ، وأعاد الروح إلى فكرة خلافية طُرحت قبل أكثر من خمسين عاما، مفادها أن فقدان الخلايا لقدرتها على الانقسام يؤدي إلى تدهور الجسم بمرور الزمن. وهناك أبحاث أخرى حديثة تلفت الانتباه إلى تلك العملية لسبب ذي علاقة بالموضوع. فالتشيخ الخلوي الذي اعتُقِد لمدة طويلة أنه وسيلة دفاعية ضد السرطان بدا وكأنه ذو وجهين - فهو يثبط نمو الأورام بطرق معينة، بينما يقوم بتحفيز نموها بطرق أخرى.
تشير النتائج البحثية الحديثة إلى أن إبطاء دخول الخلايا مرحلة التشيخ قد يساعد على تأجيل حدوث السرطانات والأمراض الأخرى التي تقع في أواخر الحياة. وبما أن استئصال الخلايا المتشيخة لدى فئران التجارب في مايو كلينك تطلّب تحويرات جينية genetic manipulations معقدة، فإن طرح العلاج نفسه للاستخدام البشري لن يكون ممكنا في القريب العاجل. ولكننا لم نخسر كل شيء، لذا فإن عددا من التدخلات الأبسط ربما أمكنها أن تفي بالغرض منها.
رؤية الخلايا: يتعرف الباحثون الخلايا المتشيخة - التي فقدت قدرتها على الانقسام - عن طريق لونها. يتحول لون هذه الخلايا إلى الأزرق عند تعرضها لمادة كيميائية بعينها. [ltr] [/ltr] |
خلايا مسنة متعبة
(**) مثلت دراسة الخلايا المتشيخة قصة حفلت بالعديد من المفاجآت المثيرة والمراجعات الواسعة. ففي البداية، ظن علماء البيولوجيا أن هذه الخلايا فقدت ببساطة قدرتها على التكاثر. وفي عام 1961 أثبت <.L هايفليك> [وهو أحد مكتشفي حالة التشيخ الخلوي] أن ثمة عدادا جزيئيا يقدح زناد التشيخ بعد 50 دورة من التنسخ في الخلايا البشرية. ووضع نظرية مفادها أن حد التنسخ هذا، والمعروف باسم حد هايفليك Hayflick limit، قد تكمن وراءه آلية تشيخ الجسم بكامله لأن تباطؤ التكاثر قد يمنع الخلايا من أن تحل محل خلايا الأنسجة التالفة. وأكد كذلك أن الخلايا مبرمجة بحيث تتلاشى قدرتها على الانقسام بعد عدد معين من دورات التنسخ replication cycles، لأن وجود حد داخلي للانقسام قد يمنع الخلايا التالفة من التكاثر بصورة غير محكومة، ومن أن تصبح خلايا سرطانية. وبعبارة أخرى، فإن التشيخ الخلوي الذي يسهم في حدوث التشيخ كان يعتبر الثمن الذي ندفعه مقابل مساعدته لنا في دفاعنا عن أنفسنا ضد السرطان.
وقد شاعت النظرية القائلة إن الخلايا المتشيخة توجه التشيخ بعد أن اكتشفت دراسات بدأت في سبعينات القرن العشرين وجود ساعة جزيئية وراء حد هايفليك. ففي كل مرة تنقسم فيها الخلية، فإن القسيمات الطرفية telomeres - وهي امتدادات من الدنا توجد عند أطراف الصبغيات - تقصر، وتتوقف الخلايا عن الانقسام عندما تقصر القسيمات الطرفية إلى طول محدد. ويبدو الأمر وكأن خلايانا قد برمجت حتى تتشيّخ إذا عشنا زمنا كافيا لذلك.
وعلى أية حال، فقد قللت الأبحاث اللاحقة من قيمة هذه النظرية. فقد أعلن العديد من المختبرات في نهاية التسعينات أن قدرة خلايا الجلد على التكاثر لا تتراجع كثيرا بتقدم السن – وهذه إشارة إلى أنه لا يتم بالضرورة الوصول إلى حد هايفليك بتواتر كاف حتى يؤدي إلى تعطيل كبير في عملية إصلاح الأنسجة خلال حياة الإنسان. ويؤيد هذه الفكرة ما أثبته آخرون بأن الفئران تمتلك قسيمات طرفية طويلة للغاية، يبدو أنها تمنع خلاياها المتكاثرة من دق ساعة توقف الانقسام قبل نفوق الحيوان. وفي عام 2001، أعلن اثنان من علماء طب التشيخ، هما: <.H و .D غيرشون> في مقالة استعراضية أن نظرية القسيمات الطرفية لتفسير التشيخ يجب اعتبارها غير ذات صلة.
وفي الوقت الذي كانت فيه نظرية دقات الساعة للتشيخ تتراجع، تراكمت الأدلة المؤيدة لثمة دور آخر للتشيخ الخلوي s´cell senescence - وهو الدفاع عن الجسم ضد السرطان. وبحلول التسعينات، كان من المعروف جيدا أن بعض أنواع الأذى الذي يصيب الخلية مثل الطفرات الوراثية يمكن أن يحرض حدوث تكاثر غير مسيطر عليه للخلايا وغيره من التغيرات المميزة للسرطانات. وقد تبين أن أشكالا مختلفة من الأذية الخلوية يمكنها أن تسبب التشيخ الخلوي - على افتراض أن ذلك يمنع الخلايا المتأذية من أن تتحول إلى خلايا سرطانية. فإغراق الخلايا بكيميائيات مؤكسدة متلفة للدنا، على سبيل المثال، يمكنه أن يسبب توقف الانقسام المميز لها. وفي عام 1997، اكتشف فريق يقوده <.M سيرانو>، الذي يعمل حاليا في المركز الإسباني لأبحاث السرطان في مدريد، أن التشيخ قد يحدث بفعل موجة مستمرة من الإشارات ضمن الخلية تدفعها إلى الانقسام. فالجينات الورمية oncogenes - وهي جينات طافرة تساعد على توجيه تكاثر غير المكبوح للأورام - معروفة بدقها هذه الدقات المحفزة المتواصلة.
وتشير هذه الاكتشافات وغيرها إلى وجود آلية مضادة للسرطان داخل الخلايا ترصد باستمرار إشارات التلف التي قد تدفعها نحو النمو غير المحكوم. وإذا استمر إصدار هذه الإشارات وتجاوز عتبة حرجة، فإن هذه الآلية يمكنها إيقاف انقسام الخلية بصفة مستدامة عن طريق تحفيز عملية التشيخ، التي تسمح للخلية بإصلاح التلف، إذا كان ذلك ممكنا، ومن ثم الاستمرار بحالة تشبه التقاعد.
محفّزات السرطان
(***) ومن ثم جاءت صدمة: فقد اكتشف الباحثون أن الخلايا المتشيخة يمكنها أحيانا أن تحفز نشوء السرطان. ومن بين هؤلاء الباحثين <.J كامبيسي> [التي تعمل حاليا في مؤسسة بوك لأبحاث التشيخ بمدينة نوفاتو، في ولاية كاليفورنيا] والتي وضعت حينئذ نظرية ساعدت على دحض الفكرة القائلة إن الخلايا المتشيخة تظل هادئة في شيخوختها وحسب. وتقول النظرية إن هذه الخلايا يمكنها أن تعزز نمو الأورام وأن تسبب تلفا واسع الانتشار في أنواع الخلايا الأخرى.
إن أولى التلميحات على أن الخلايا المتشيخة يمكنها أن تؤدي مثل هذا الدور الخفي برزت إلى الوجود في أواخر التسعينات، حيث ظهرت أدلة على أن الخلايا المتشيخة يمكنها إتلاف الخلايا والأنسجة الواقعة ضمن محيطها القريب - أي في «بيئاتها الميكروية
(1)» – ربما عن طريق تحويل هذه المناطق إلى جوار سيئ يمكنه أن يحرض على نمو الأورام. وفي عام 2001 عزز هذه الفكرة مختبر <كامبيسي> بدراسة مبدعة أظهرت أن الخلايا المتشيخة المزروعة في طبق يمكنها أن تحرض الخلايا المحتملة التسرطن الموجودة في وسط الزرع نفسه لتشكل أوراما شديدة العدوانية عند حقنها في الفئران. وقد بدا أثر المحيط السيئ وكأنه ينشأ عن نزوع العديد من الخلايا المتشيخة إلى إفراز خليط من الجزيئات المحتملة الخطورة، بما في ذلك جزيئات تحرض تكاثر الخلايا وأخرى تحطم البروتينات خارج الخلوية extracellular proteins التي تحيط بالخلايا وتدعمها (يُعتقد أن خلايا الأورام المنتشرة تستخدم الإنزيمات المخربة نفسها لتنساب خلال الحدود البنيوية للأنسجة.) وفي عام 2008، نشرت <كامبيسي> مزيدا من الدعم لنظريتها القائلة بوجود «نمط إفرازي مرتبط بالخلايا المتشيخة»
(2) أو اختصارا SASP. وباستخدام هذا المصطلح لتأكيد النظرية، ضمن سياقات بعينها، فإن الخلايا المتشيخة تفرز جزيئات مؤذية تسلك سلوك السم المتقاطر من الزومبي zombie المصاب بالجمود.
وقد تساءل العلماء: لماذا أن الخلايا التي اعتبرت لمدة طويلة أنها تقي من السرطان، تحرض بقوة المرض نفسه الذي بدا أنها تطورت لمنع حدوثه؟ وقد استعانت <كامبيسي> بدراسات متعلقة باندمال الجروح، إضافة إلى أبحاث أخرى، لتشرح كيف اكتسبت الخلايا المتشيخة هذا الدور.
لقد أظهر أحد اتجاهات الأبحاث أن السرطان واندمال الجروح متشابهان إلى حد ما، وهذا ما يدعو إلى الدهشة. فالأورام والجروح الملتئمة جزئيا كلتاهما مربوطتان بحزام من البروتينات الليفية التي تتشكل عندما تتسرب طلائع بروتينات التخثر من الأوعية الدموية وتتبلمر على شكل مصفوفة matrix لدعم إعادة البناء. وفي عام 1986، ونتيجة لدهشته البالغة من هذا التشابه، تخيل <.H دفوراك> [عالم الباثولوجيا في كلية طب هارفارد] أن الأورام تُلجم وتدمر استجابة الجسم لشفاء الجروح تدعيما لنموها الشاذ. واستنتج أنه بسبب هذه الخدعة المِكيافيلية تبدو الأورام لأجسامنا وكأنها «سلاسل غير منتهية من الجروح التي تبدأ الاندمال باستمرار، ولكنها لا تندمل أبدا.»
لقد أبدى توجه بحثي آخر بالعمل أن الخلايا المتشيخة تسهم في اندمال الجروح. فعندما تصاب الأنسجة بالأذى تستجيب بعض الخلايا الموجودة في جوارها بالتحول إلى خلايا متشيخة، وتحرض بعدها مرحلة التهابية تبدأ بعملية الاندمال. وتتضمن هذه المرحلة إفراز مراسيل كيميائية تدعى السيتوكينات cytokines تجذب الخلايا المناعية وتنشطها لمكافحة العداوى وإزالة الخلايا الميتة والحطام. وبعد ذلك، تتكاثر الخلايا السليمة لتستبدل الخلايا المفقودة، ثم تفسح المرحلة التكاثرية المجال لمرحلة إعادة التشكّل التي تفرز خلالها الخلايا المتشيخة إنزيمات تدركية degradative تمزق البروتينات الليفية التي توضعت سابقا كسقالة أولية؛ ويحد هذا التدمير من تشكل الندوب.
وبجمع هذه الأفكار معا، افترضت <كامبيسي> أنه إضافة إلى تسخير التشيخ الخلوي لكبح التكاثر المفرط للخلايا المتضررة، فقد استخدم التطور هذه العملية في إصلاح الجروح، الأمر الذي يتطلب إضافة نمط إفرازي إلى مجموعة الأدوار التي تؤديها الخلايا المتشيخة. ولسوء الحظ، تجعل الآلية الإفرازية من الخلايا المتشيخة شركاء مثاليين في الجريمة وذلك في الأورام المصممة على تسخير برنامج اندمال الجروح لنموها الخاص. ومن المؤسف أيضا أن قدرتها على إحداث الالتهاب قد تحول الجسم كله إلى جوار سيئ - يُعتقد أن الالتهاب المعتدل الشدة يحرض انتشار السرطان، إضافة إلى التصلب العصيدي ومرض ألزهايمر والداء السكري من النوع 2، والعديد من أمراض التشيخ الأخرى.
المنظور الجديد
تحول الخلايا الجيدة إلى سيئة(****) إن الخلايا المتشيخة senescent cells - أي التي لا تستطيع الانقسام بشكل دائم - كانت تعتبر خلايا هادئة ذات وجهين (يسار الشكل): فهي من ناحية تدافع ضد السرطان (لأنها لا تستطيع الانقسام بلا نهاية)، ومن ناحية أخرى تسهم في التدهور الذي يميز التشيخ (لأن انقسام الخلايا ضروري لإصلاح الأنسجة). وكلا الدورين مقبول حاليا، مع أن مساهمة الخلايا في التشيخ ظلت محل شك لفترة من الزمن. إضافة إلى ذلك، يُعرف الباحثون أن الخلايا تستطيع إفراز مواد تحفز نمو الأورام في محيطها، ومن ثم تحرض الالتهاب في الأنسجة (يمين الشكل). |
عوامل التشيخ، بعد كل شيء
(*****) عندما أدرك الباحثون أن الخلايا المتشيخة يمكنها أن تسلك طريقا يمكّنها من أن تحفز السرطان، بدؤوا كذلك بتجميع أدلة جديدة على دورها في حدوث التشيخ. وعلى وجه الخصوص، وجدوا أن الخلايا المتشيخة تظهر بكثرة مريبة في أنسجة القوارض والبشر حيث تسير الأمور بقوة نحو الشذوذ، كما هو الأمر في الأجساد المتشيخة ككل. وعلى سبيل المثال، أظهر الباحثون في عام 2006 أن التراجع الطبيعي لجهاز المناعة في الفئران المسنة يحدث بالتوازي مع زيادة متعلقة بالعمر في تشيخ الخلايا الجذعية التي تُولّد باستمرار أنواعا مختلفة من الخلايا المناعية.
أدلة على تأدية دور في التشيخ: تبقى الطبقة الشحمية في الجلد مكتنزة لدى الفئران القادرة على التخلص من الخلايا المتشيخة (اللون الأبيض في الصورة العليا)، ولكنها تتضاءل في الفئران الأخرى مع مرور الوقت (الصورة السفلى).
|
جرى التوصل إلى عدد من هذه النتائج، جزئيا، بفضل اكتشاف المظاهر التي تحدد تشيخ الخلايا. ومن بين أكثر مؤشرات التشيخ فائدة، نجد ازدياد تركيز بروتين يكوده encode جين اسمه p16INk4a (أو اختصارا p16). وقد تبين لاحقـــا أن فعـــــاليـــة الجـــين p16، الـــذي اكتشفــه عـــام 1993 <.D بيتش> [من جامعة كوين ماري التابعة لجامعة لندن]، تساعد على إجبار الخلايا على التوقف عن الانقسام عندما تستشعر وجود أنواع مختلفة من الضرر.
أجرى <.E .N شاربلس> وزملاؤه [في كلية طب جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل] عددا من الدراسات التي تربط بين مستويات الجين p16 والتشيخ. وعلى سبيل المثال، فقد أظهروا أن مستوياته ترتفع مع التقدم في السن في خلايا القوارض والبشر، وأن هذا الارتفاع المسبب للتشيخ يرتبط بانخفاض قدرة الخلايا على الانقسام وإصلاح الأنسجة التالفة. وفي عام 2004، نشر الفريق أن الجين p16 يزداد بصورة ملحوظة في الغالبية العظمى من أنسجة القوارض مع التقدم في العمر، وأنه يمكن كبحه بتقييد الكالوريات (السعرات الحرارية) calories - وهو نوع من الحمية الصارمة معروف منذ ثلاثينات القرن العشرين بإطالته للعمر وتعزيزه للتشيخ الصحي لدى العديد من أنواع الكائنات الحية. وبعد خمس سنوات من النتائج المنشورة عام 2004، أظهر مختبر <شاربلس> أن التقدم في السن يترافق مع زيادة كبيرة في مستويات الجين p16 في الخلايا التائية الموجودة في الجهاز المناعي البشري. ومن المحير أن مستويات الجين p16 في الخلايا التائية تكون أكبر لدى المدخنين والأشخاص الذين لا يمارسون الرياضة، مما يشير إلى أن هذين السلوكين يمكنهما تعزيز التشيخ الخلوي. وللطرافة، أخبرني <شاربلس> بمرح أنه بعد أن طور مختبره اختبارا سهل الاستخدام لقياس مستويات الجين p16، اكتشف أن مستويات هذا الجين في جسمه كانت ضعف المستويات الموجودة في أجسام طلبته الذين يدرسهم، على الرغم من مظهره الشاب وعمره الذي لا يتجاوز 45 عاما.
وإضافة إلى ربط الجين p16 والتشيخ الخلوي بمظاهر التشيخ، نشر <شاربلس> وزملاؤه سلسلة من النتائج التجريبية التي تدعم فكرة إسهام التشيخ الخلوي في تشيخ الأنسجة والأعضاء. ففي عام 2006، ذكر تقرير لهم أن الفئران المسنة التي يكون الجين p16 لديها معطلا، ومن ثم يفترض أن ينخفض استعدادها لتشكيل الخلايا المتشيخة، تشبه الفئران الشابة في قدرتها على تجديد الخلايا البنكرياسية المتضررة بفعل تعرضها لذيفان؛ وأن الفئران المسنة التي عُطِّل عندها الجين p16 تستطيع تجديد العصبونات في بعض أجزاء دماغها بشكل أفضل من أندادها الأصحاء؛ وأن إعادة تفعيل الجين p16 في الخلايا الجذعية للجهاز الدموي - وهي الخلايا التي تتحول إلى الخلايا المناعية وكريات الدم الحمراء - تؤخر التراجع المرتبط بالتشيخ في قدرة الخلايا الجذعية على التجدد.
وأشارت دراسات أخرى أُجريت خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى وجود اختلافات جينية تؤثر في كمية البروتين p16 التي يصنعها البشر - ومن ثم في معدل تحول خلاياهم إلى خلايا متشيخة مع التقدم في السن - مما يساعد على تحديد استعدادهم للإصابة بالعديد من الأمراض المرتبطة بالتشيخ، بما في ذلك التصلب الشرياني ومرض ألزهايمر. ويقول <شاربلس> إن هذه الاكتشافات «الشيقة للغاية» أحيت اهتمام الباحثين الطبيين بالجين p16، وأنها تمثل «المفتاح لمعرفة أن شيئا حقيقيا يحدث» في الأبحاث التي تتهم التشيخ الخلوي بكونه المتسبب في التدهور المرتبط بالتشيخ.
وفرت دراسة مستشفى مايو كلينيك في عام 2011 الدليل الأكثر وضوحا على كون التدخل في عملية التشيخ الخلوي قد يكون أمرا مفيدا، كما قام فريق <دويرسن> بذلك عن طريق الاستفادة من دور الجين p16 كبطاقة تعريف شخصية لهذه الخلايا. قام الفريق بهندسة فئرانه جينيا بحيث تمتلك نقائص صبغية أدت إلى حدوث تشيخ خلوي مبكر في العديد من الأنسجة، كما تحمل جينا يجعل الخلايا عرضة للموت باستخدام عقار معين إذا تم تفعيل الجينات p16 لديها؛ أما الخلايا غير المتشيخة التي تم تفعيل الجين p16 الخاص بها فلم تتأثر. وقد أدى العلاج الدوائي مدى الحياة إلى التخلص من الخلايا المتشيخة وتأخير ضمور الشحم تحت الجلدي وضمور العضلات وحدوث الساد وظهور الترديات الأخرى المتعلقة بالسن، والتي حدثت قبل الأوان لدى الفئران التي لم تعالج. وأدى العلاج الذي بدأ في وقت متأخر من حياة الفئران إلى إبطاء فقدان الشحوم وضمور العضلات المرتبطين بالسن.
وبقدر ما كانت نتائج مستشفى مايو كلينيك مثيرة فإنها بحد ذاتها لم تبرهن على أن التخلص من الخلايا المتشيخة خلال التشيخ الطبيعي سيكون مفيدا لدى البشر أو يطيل العمر. وحذرت <كامبيسي>، على سبيل المثال، من أن الدراسة لم تثبت بشكل قاطع أن الخلايا المتشيخة توجه عملية التشيخ الطبيعي؛ فالفئران المشمولة بالدراسة عانت تشيخا متسارعا. كما لم تكن جميع مظاهر تشيخها المتسارع تنطوي على تشيخ خلوي سريع. ففي الحقيقة، لم يساعد التخلص من الخلايا المتشيخة على تفادي السبب الرئيس لنفوق تلك القوارض - وهو البدء المبكر لخلل وظائف القلب والأوعية الدموية – ومن ثم فإن بقياها لم تزد إلى حد كبير.
خطوات بسيطة
(******) وحتى لو افترضنا أن العلماء وجدوا في وقت ما أن إنقاص التشيخ الخلوي عند البشر لا يؤدي بالضرورة إلى تأجيل التشيخ أو على الأقل يؤخر ظهور التجاعيد وبعض الاضطرابات الأكثر أهمية المرتبطة بالتشيخ، فكيف يمكن للمرء أن يتدخل بصورة مأمونة في عملية التشيخ؟
إن تكرار تجربة مستشفى مايو كلينيك بحذافيرها لدى البشر يتطلب تحوير جينوماتهم قبل الولادة، ولذلك فإن هذا الخيار لن يكون قابلا للتطبيق في القريب العاجل. فإذا اقتصر الأمر ببساطة على تعطيل نشاط الجين p16 باستخدام عقار ما، فإن ذلك قد يؤدي إلى نتيجة عكسية بزيادة احتمال حدوث تكاثر خلوي غير مرغوب فيه وزيادة احتمال وقوع السرطان. وفي جميع الأحوال، فإن خيارات بسيطة على نحو مدهش قد تكون متاحة لنا في هذا المجال.
إن وجود مستويات أعلى من الجين p16 لدى المدخنين والأشخاص الذين لا يمارسون الرياضة يشير إلى أن الامتناع عن التدخين وممارسة الرياضة بانتظام قد يساعد على منع حدوث التلف الجزيئي الذي يحرض التشيخ الخلوي. وقد يكون فقدان الوزن طريقة أخرى لتنفيذ هذه الآلية. فقد افترض <دويرسن> وزميله <.J كيركلاند> [من مايو كلينيك] أن طلائع الخلايا الدهنية المسماة طلائع الخلايا الشحمية preadipocytes قد تسبب حدوث حالة شبيهة بالتشيخ المتسارع في الحيوانات والبشر البدناء؛ لأن الخلايا تميل إلى أن تتشيخ بأعداد كبيرة، وبحسب نظرية <كامبيسي> فإنها تحرض حدوث حالة التهاب مزمنة منخفضة الدرجة في كافة أجزاء الجسم.
وتشير بعض الأدلة المبكرة إلى أن دواء يدعى رابامايسين
(3) يمكنه تثبيط التشيخ الخلوي من دون أن يعزز السرطان. وقد تبين أن تناول الفئران للرابامايسين بشكل دائم أدى إلى إطالة أعمارها. وقد أظهر مختبر <كامبيسي> حديثا أن بعض الأدوية المضادة للالتهاب تثبط النمط الإفرازي المدمر للخلايا المتشيخة. وعلى الرغم من ذلك، فإن <شاربلس> يقول إن الطريقة الأكثر حصافة لمكافحة التشيخ الخلوي المؤذي الآن هي: «لا تدخن، وكُلْ باعتدال، ومارسْ الرياضة.»
لا أحد يعرف حتى الآن ما إذا كان كبح التشيخ الخلوي يمكنه إبطاء التشيخ الطبيعي. فالنظرية القائلة إن الخلايا المتشيخة تمثل عوامل مساهمة مهمة في حدوث التدهور المرتبط بالتشيخ على مستوى الأنسجة والأعضاء، وهي بحد ذاتها تتعرض للتشيخ الواضح. ويبدو من المرجح على نحو متزايد أن هذا التبصر العميق في الموضوع سيؤدي في يوم من الأيام إلى اكتشاف وسائل جديدة قوية لتحفيز التشيخ الصحي.
المؤلف
| David Stipp |
كاتب علمي مقيم في مدينة بوسطن، تتركز كتاباته على طب التشيخ منذ نهاية تسعينات القرن العشرين. والكتاب الذي ألفه حول هذا الموضوع، والمعنون «حبة الشباب: علماء على حدود الثورة المضادة للتشيخ (4)»، فقد طبعته مجموعة النشر Current/ Penguin في عام 2010. يكتب <ستيپ> بانتظام مدونات حول علم التشيخ على الموقع www.davidstipp.com | |
مراجع للاستزادة