يبدو أنّ الثورات العربية
الراهنة فجّرت الكثير من أسئلة تجد أساس انطلاقها من ثقافة الخوف والقهر
والأحادية الشمولية في الرأي والتفكير وفي المواقف والعلاقات المجتمعية.
وهي بنية رسّخها وكرّسها الاستبداد العربي لقرون متواصلة. ما ذا بعد؟ ما هو
البديل؟ كيف وما العمل حتى لا يعود الاستبداد ؟ هل هناك قوى سياسية محددة
تهدد التحول الديمقراطي سواء كقوى مضادة للثورة تتمثل في بقايا النظام
؟وكيف العمل على تغيير بنيتها الموضوعية في سيطرتها على ثروات وخيرات
البلاد أو في نفوذها وهيمنتها داخل إدارات ومؤسسات الدولة والمجتمع أو تلك
القوى التي تكن العداء للديمقراطية في بنيتها الفكرية والسياسية كبعض
الأحزاب الدينية والعرقية؟. هذه الأسئلة أو بالأحرى الهواجس والمخاوف
تتكاثر وتتناسل اليوم بين صفوف النخبة المثقفة والسياسية والأكاديمية ويشهد
منبر الأوان على الكثير من طروحاتها وأفكارها في صورة مقالات او تعليقات.
كما نجد نفس الأسئلة بين فئات الشعب. وهي تجسد مدى القهر السياسي والفكري
الثقافي الذي عانت منه في ظل الاستبداد القهري الى درجة جعل من الصعب اليوم
ولادة البديل كمفهوم وتصور وبرنامج سياسي فكري اقتصادي واجتماعي. وإذا
تأملنا بصورة شاملة نقدية هذه المخاوف نجدها تنبني انطلاقا من محورين او
سؤالين هما سؤال الديمقراطية وسؤال المعارضة السياسية كتلازم بنيوي بحيث
لانستطيع ان نتحدث عن نظام ديمقراطي في غياب المعارضة السياسية دستوريا
وقانونيا كقوة تنافسية لخدمة الصالح العام في الوجود والممارسة والفعل
والإسهام في بناء وتطوير ورقي الديمقراطية في الدولة والمجتمع والمؤسسات
بما في ذلك داخل الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والإطارات الفكرية
والثقافية…
1- سؤال المعارضة السياسية׃ نعرف بان المعارضة السياسية التي كانت سائدة في ظل الأنظمة
الاستبدادية تتفاوت تنظيميا وأيديولوجيا وسياسيا بين اليسار والإسلاميين
وما يسميه البعض بالمعارضة الإصلاحية التي تجد قبولا ورضا وحضورا في المشهد
السياسي للنظام الاستبدادي العربي كتضليل للشعوب على انها تمثل معاناتها
وطموحاتها وتطلعاتها من اجل التحرر والديمقراطية. وغالبا ما تحايلت هذه
المعارضة الإصلاحية - بما في ذلك الاسلاميين كالإخوان في مصر - على شعوبها
ونحن نرى اليوم كيف ناورت وشاركت بل ومددت من عمر النظام قليلا قبل ان
ينهار ويسقط في كل من تونس ومصر واليمن قريبا…أما المعارضة اليسارية رغم
التفاوت الموجود في خلفياتها الإيديولوجية ومنطلقاتها الفكرية السياسية فهي
كانت ملتصقة بقطاعات محددة من الشعب ومحدودة كالنخب المتعلمة ( المحامون
الأطباء المهندسون… وفي صفوف الحركة الطلابية ) وقدمت الكثير من التضحيات
وزج بها داخل السجون لسنوات طويلة او التهجير والنفي والاغتيالات
والاستشهاد في معارك نضالية سلمية او في إضرابات عن الطعام… وكانت لهم
برامج سياسية اقتصادية واجتماعية في صورة مشروع مجتمعي. عكس الاسلاميّون
رغم قوتهم التنظيمية التقليدية تمثلا للطرقية والزوايا في خلق جمعيات
تتفاوت في المسكنة والدروشة كجمعيات خيرية تلعب على وتر لقمة العيش في
حماية شرف الأخلاق المختزل في البطن والفرج وفق منطق بما فضل الله بعضكم
على بعض في الرزق والدرجات بين الغني والفقير وبين الرجل والمرأة في إطار
ثنائيات الخير والشر الصديق والعدو المؤمن والكافر الحياة والآخرة… في غياب
أي برنامج سياسي اقتصادي واجتماعي ثقافي مستقبلي لأنها ترى حياتها
الدنيوية المستقبلية في الماضي كنوع من اضطراب الديمومة في الفكر والرؤية
ومصدر هذا الالتباس كونها امتدادا لحضارة الفقه في الإسلام حيث بنيتها
الفكرية ومنطقها الداخلي يشتغل في حدود السياسة الشرعية الأخلاقية وينتهي
عند بداية السياسة العقلية العملية التاريخية لصيرورة المجتمعات ( قال ابن
خلدون مرارا إن الفقهاء يخطئون في حقل السياسية العملية لأنهم يلجاون إلى
أداتهم المفضلة أي القياس "" لا يقاس شيء من أحوال العمران على الأخر إذ
كما اشتبه في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور ""عبد الله العروي مفهوم
العقل). وسطوتها على ما ليست أهل لها هو بمثابة الانقلابات العسكرية
المعاصرة الشيء الذي افسد حركة المجتمعات العربية والإسلامية وعطل صيرورتها
التاريخية في نوع من التخلف والانحطاط أكدته التجربة التاريخية في واقع
المجتمعات العربية. ولم تجد المعارضة الإسلامية واليسارية اعترافا وقبولا
من قبل الاستبداد العربي بل جوبهت بمختلف أشكال القمع والتصفية الى درجة
تحطيمها واختراقها وتفتيت ما تبقى منها في شكل جمعيات او منتديات محدودة
الوجود والفعل وان كانت طورت تواجدها النضالي من خلال حضورها في نقابات او
في الجمعيات الثقافية والحقوقية… وعلى العموم اعتبرت الأنظمة العربية
المعارضة السياسية شرا لابد من القضاء عليه ومحاصرته ولو في حدود ما سماه
ياسين الحاج صالح بسياسة الكتابة في الكتابة السياسية بل وحتى في الممارسة
السياسية بما يعني تغييب السياسي في التناقض والصراع السياسي بين الأنظمة
والمعارضة السياسية. نشير الى هذه المعطيات التاريخية لنعترف اولا
بالتراكمات النضالية التي قدمهتا بعض المعارضات السياسية في وقت كانت
الكثير من فئات الشعوب تتخوف من فتح فمها في كل ما يخص شؤون الحياة
المجتمعية. وثانيا لنعرف حجم المأساة التي عاشتها الشعوب العربية في ظل
أنظمة تقنعت إما بالقومية أو الاشتراكية أو العلمانية في مصر واليمن
والعراق وسوريا والجزائر وتونس. أو تقنعت بالإسلام الممزوج بالليبرالية في
السودان والمغرب والأردن ودول الخليج وكلها كانت قهرية شمولية استبدادية
بتفاوت في طريقة القتل للأخر كمعارضة سياسية بين الشنق والنفي والإعدام
والسجن… وخلاصة القول في هذا أن المناعة والحصانة الحقيقية لثورات اليوم هي
في وجود ديمقراطية قادرة على احتضان واستيعاب المعارضة السياسية كمصدر قوة
للنظام الديمقراطي في المخالفة والمحاسبة والمراقبة والمساءلة والنقد
والاحتجاج والتعبير السلمي وفق ما يعرف بالتظاهر السلمي. عند هذا الحد نجد
أنفسنا أمام السؤال الديمقراطي.
2- السؤال الديمقراطي׃نحن نرى، اليوم، أنّ الكثير من المشاكل التي تعيشها المجتمعات العربية
هي نتيجة غياب أنظمة ديمقراطية حقيقية في الفصل بين السلط التنفيذية
والتشريعية والقضائية وفي التداول السلمي للسلطة وفق ما هو متعارف عليه من
مبادئ وقيم وأخلاق ومؤسسات ديمقراطية تعكس إرادة وتطلعات وطموحات الشعوب
في الحكم وتدبير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي احترام
الحقوق الأساسية والحريات الديمقراطية بصورة منسجمة مع المعاهدات
والاتفاقات الدولية ومواثيق حقوق الانسان في الحرية والمواطنة والعدالة
والفردية والتسامح… هذه البنيات التحتية الدستورية والقانونية كنظام سياسي
مجتمعي هي التي تؤسس لأشكال العمل والسلوك الديمقراطي تبعا لآليات تتجاوز
الجميع بما يعني استقلال الدولة والمؤسسات عن هيمنة الأحزاب وسطوتها في
الانقلاب على الديمقراطية وقد رأينا كيف فازت الجبهة اليمينية المتطرفة في
فرنسا على الاشتراكي جوسبان إلا ان ذلك لم يدفع النظام الديمقراطي الى الزج
بهم في السجون والقتل والتصفية بل تفاعلت القوى الديمقراطية والمجتمع
المدني الحر بناء على المكتسبات الديمقراطية لتنتصر الديمقراطية كنظام
سياسي يمنح حق الوجود السياسي والدستوري والقانوني لكل أصناف المعارضة التي
تقبل بالأرضية الديمقراطية وكما يقول برهان غليون إن وجود المعارضة هو
التعبير البسيط عن وجود السياسة ذاتها وهي صمام الأمان الوحيد ضد احتمال
تحول النزاعات الداخلية الى صراعات وحروب. ونرى بان الثورات الحقيقية هي
التي تعيش هذا المنعطف من خلال تأسيس ثقافة سياسية تؤمن بالتعددية السياسية
والمشاركة السياسية حيث لايمكن لأية أغلبية حاكمة ان تنفرد بتقرير المصير
المشترك للشعب بل ضرورة استحضار كل مكونات المجتمع السياسي والمدني خاصة
المعارضة السياسية وبذلك يعبر المجتمع عن مدى قوته وصحته ومناعة وحصانة
نظامه ومؤسساته الديمقراطية بعيدا عن التجريم والإلغاء والتصفية للأخر
المخالف والمختلف بتهم التحريفية والتخوين ضد الثورة كما مورس سابقا تحت
قهر الاستبداد باسم الشرعية التاريخية والوطنية والثورية…