قبل سنوات، وتحديداً في العام 2003، زال من الوجود نظام الرئيس صدام حسين
في العراق، النظام الذي كان يوصف بأنه الأعتى والأكثر وحشيّة بين أقرانه من
نظم الشموليّة والاستبداد القمعيّة الأخرى في المنطقة. سقط صدّام وحكمه
ورحلا غير مأسوفٍ عليهما، لكنّ سقوطه لم يكن بفعل ثورة شعبيّة أو تحرّك
داخليّ، سواء بشكل سلميّ أو بصورة ثورة مسلّحة، وإنّما كان بفعل القوّة
العسكريّة الأمريكيّة التي رفعت شعار "تحرير العراق ونشر الديمقراطية" ثمّ
احتلّته بعد حرب مثيرة للجدل، استهدفت ليس فقط الإطاحة بالنظام وإنما أيضاً
الإحاطة بالنفط!
لم يحظ ذلك السيناريو في شكله وفي مضمونه أو في تداعياته، بتأييد غالبية
الشعوب في المنطقة العربيّة، رغم توقها الشديد إلى الحرّية، ورغبتها في
التخلص من أنظمة القمع الجاثمة فوق صدورها.
أمّا الآن، وقد هبّت رياح التغيير أخيراً على البلدان العربية من داخلها
هذه المرّة، فقد تزلزلت عروش الحكم المطلق على أيدي من كانوا ضحايا تلك
العروش لعقود مضت. حسمت الشعوب خيارها وعادت لتقول كلمتها، واختارت طريق
صنع مستقبلها بيدها.
الطريق ما زال في أوّله، لكنّ ما لا شكّ فيه أنّ قرار خوض غمار هذا الطريق لا رجعة عنه.
يمكن الجزم أنّ ذلك كلّه ما كان ليتمّ بالشكل الذي رأيناه ونراه إلا بعد
أن كسر الشباب في البلدان الثائرة حاجز الخوف، ومزّقوا جدران الصمت، ونزلوا
إلى الشوارع والميادين، ثم لتتبعهم شعوبهم إلى شوارع التغيير وميادين
التحرير.
شبّانٌ في مقتبل العمر صنعوا أقدار بلدانهم، ووضعوا النهايات الملائمة
لطغاة مزمنين. فجّر الشباب ثورتهم، بأرواحهم وعقولهم المستنيرة مستخدمين
أساليبهم وأدواتهم العصريّة الحديثة، فكانت بحقّ ثورة انتصرت فيها أجهزة
الكومبيوتر على أجهزة المخابرات، واستطاعت أصابع شابّة تنقر أزرار الكيبورد
أن تخطّط وتنفّذ ما عجزت عنه لسنوات طويلة المعارضات والأحزاب العربيّة في
آلاف صفحات أدبياتها ومناشيرها وبياناتها. رغم كلّ ما قدّمته من تضحيات،
وما قاسته من سجن وقتل وتشريد ومنافي، وما تزال.
لقد سئمت الشعوب ـ وشريحة الشباب بشكل خاصّ ـ ونفد صبرها من حكّام يصرّون
على التعامل معهم كـ"ناقصي أهلية" بحاجة دائمة إلى القائد/الأب الذي يرعى
مصالحهم التي يجهلونها.
في هذا الصدد يرى الدكتور إمام إمام أنّ من مظاهر تبرير الديكتاتوريةّ
"الحاكم الذي يبرّر حكمه بأبوّته للمواطنين، يعاملهم كما يعامل الأب
أطفاله، على أنهم قصّر غير بالغين أو قادرين على أن يحكموا أنفسهم. ومن هنا
كان من حقّه توجيههم، بل عقابهم إذا انحرفوا لأنّهم لا يعرفون مصلحتهم
الحقيقيّة" (الطاغية، تأليف: أ.د. إمام عبد الفتّاح إمام، سلسلة عالم
المعرفة، مارس 1994، ص 45).
يمكن من خلال هذا الطرح فهم صيغة الخطاب الشائعة في بلداننا
العربيّة: "أخي المواطن، أختي المواطِنة" في تشويه وقح لمعنى (المواطَنة)
من حيث كونها مفهوما مدنيّا يعبّر عن علاقة سياسيّة وحقوقيّة، أي رابطة
مدنيّة بين المواطن والدولة من جهة، وبينه وبين باقي المواطنين من جهة
أخرى، بما يرتّبه ذلك من حقوق وواجبات متبادلة يُفترض أنّ دستور الدولة
وقوانينها تنصّ عليها وتضمنها، واستبدال ذلك كلّه بعلاقة قبل مدنيّة، علاقة
طبيعيّة، رابطة دم : العائلة أو الأسرة. فالمواطنون عبارة عن "إخوة
وأخوات" في "أسرة الوطن"، التي كغيرها من الأسر لا بدّ لها من "ربّ أسرة"،
وهو بلا شكّ الحاكم : القائد أو الملك أو الرئيس أو الأمير أو السلطان أو
غيره من تنويعات الألقاب التي تطلق على سادة النظم العربية المختلفة.
وبالطبع لا تجوز معارضته فهو "أب للجميع" و"كبير العائلة" وطاعته من طاعة
الله بصفته الأبوية تلك، وبالتالي مخالفته والخروج عن طاعته أمر غير مقبول.
رغم أنّها مسألة وقت لا أكثر لينتقل نفاد الصبر، ولهيب الفعل الثوريّ
الشابّ إلى هشيم بلدان أخرى تنتظر شعوبها التخلّص من الخوف، بخروج شبّانها
كما خرج شباب تونس ومصر، إلا أنّ بعض الأنظمة لم تتّعظ ولم تتعلم بعد من
الدرس المصريّ أو التونسيّ، ولا ندري بعد من أين سيأتي الدرس القادم.
لكنّ أكثر ما نخشاه أن يكون مثالهم المحتذى السلوك الوحشيّ لدكتاتور ليبيا
معمّر القذافي في قمع احتجاجات الشعب الليبيّ، وما يمارسه من جرائم حرب
وجرائم ضد الإنسانيّة في حقّ شعبه، وتحويل البلد إلى ساحة حرب مفتوحة شرعت
الباب واسعاً للتدخّل العسكري الغربي. أليس العقيد القذافي "عميدهم" لأنّه
الأقدم في السلطة؟!
من أهمّ سمات نظم الاستبداد والديكتاتوريّة، أنّها حتّى وهي في طور
الانحطاط والسقوط تبقى خارج الحسابات العقلانية، لعلّ من أسطع أمثلة ذلك،
الكيفيّة التي تعامل بها نظام مبارك في مصر، وقبله بن علي في تونس، ثمّ
الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وغيرهم، مع الثورات والاحتجاجات الشعبيّة
ومطالب المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام ورحيل الديكتاتور، حيث يصرّ
كلّ منهم على أنّ "الشعب معه" وأنّ "مؤامرة خارجية تستهدف الوطن
واستقراره"، ويطنب ويرطن في خطابات الوعظ والأستذة على الشعب في تحليل
الأوضاع، ويرغي ويزبد في إطلاق التهديد والوعيد ضد "المندسين والمتآمرين
والعملاء.." ثمّ في مرحلة تالية حين يبدأ "يفهم" مطالب الشعب ـ بعد أن يفوت
الأوان طبعاً ـ يرسل الوعود بالتغيير والإصلاح مقرونة بـ "سـَ" و"سوف"،
ومشفوعة بالحديث عن أمجاده وخدماته الجليلة لشعبه، وكأنّهم جميعاً يجسّدون
عبارة حنّة أرنت الشهيرة : "في النظم الديكتاتورية الأمن مستتب حتى الربع
ساعة الأخيرة".
إنّ الفرحة العارمة التي تغمرنا مع المآثر الجليلة التي تخطّها الشعوب
العربيّة في طريقها نحو الديمقراطيّة، والانتصارات المتتالية على طريق
التغيير، تجعل من الضرورة بمكان العمل على تحصين تلك الانتصارات والحفاظ
على ما أنجزته الشعوب ودفعت ثمنه غالياً.
ليس من باب التشاؤم، وإنّما الحيطة والحذر، ينبغي على أبطال الثورات
العربيّة ألا يُغفلوا أنّ ثورة 1979 في إيران التي أسقطت الشاه ونظامه
القمعي، كانت في الأصل حركة شعبيّة اجتماعية تحرّرية، وكان الشباب الإيراني
عصبها الرئيسيّ، لكنّها انتهت إلى ما نراه اليوم : ديكتاتورية دينية.
إنّ ما يجري في البلدان العربيّة عموماً، وفي ليبيا حاليّاً بشكل خاصّ،
يحيلنا إلى واحد من دروس ماركس الهامّة : إنّ الصراع بين خصمين يمكن أن
ينتهي بانتصار أحدهما على الآخر، لكنّه من الممكن أن يؤدي أيضاً إلى ضياع
المتخاصمين معاً.
من هنا التأكيد على أنّ الانتقال من التحرير إلى تنظيم الحريات هو التّحدي الحاسم الذي يواجه أغلب ثورات الحرّية إن لم نقل جميعها.
مسألة أخرى هامّة لا بدّ من التوقّف عندها : الجيوش ودورها. إنّ الحياد
"الإيجابي" والدور المشكور للجيش في حماية المتظاهرين وعدم مهاجمتهم في كل
من تونس ومصر لأمر يستحقّ التحيّة.
لكنّنا نحذّر هنا من خطورة رهان البعض على الجيوش مع احترامنا لدورها
الوطنيّ، لأنّ بقاء الجيش على حياده السياسيّ إلى ما لا نهاية ليس احتمالاً
وحيدا،ً بخاصّة في مراحل تاريخيّة مفصليّة كهذه. والانقلابات العسكريّة
غالباً ما كانت وسيلة لاحتواء الغليان الشعبي والالتفاف عليه بالسلاح أو
بالشعارات، وحينها تبدأ "ديمقراطية الجنرالات" التي تقاس بعدد الدبّابات
والجنود التي يستطيع كلّ منهم تحريكها والتحكّم بها، فيُفتح الباب مجدّداً
للديكتاتوريّة التي نظنّ أننا انتهينا منها.
وذلك ليس ببعيدٍ عن الأجندة المفضّلة لوكالة الاستخبارات الأمريكيّة، فهي
تجيد التفاوض في الغرف المغلقة مع الفرد الذي يستطيع فرض الأمر الواقع الذي
يحمي مصالحها. الأمر المتعذّر الوصول إليه مع الشعوب الثّائرة في وجه
حكّام هم بالأصل عملاء الولايات المتّحدة الأوفياء، على الأقل من وجهة نظر
شرائح واسعة من شعوبهم.
لكنّنا ندرك الآن أكثر من أي وقت مضى أنّ الشعب حين يريد الحياة والحرّية
سيكون الطرف المنتصر في خصومته مع سالبي حقّه في الحياة والحرّية.
من مأثورات الأديب السوري الراحل محمد الماغوط : "لا أراهن على نفاد
الخبز، أو الماء، أو الوقود، بل على نفاد الصبر". ويبدو أنّ صبر الشعوب
العربية قد نفد.
الأحد أكتوبر 23, 2011 1:50 pm من طرف هذا الكتاب