في آخر مقال تفضّلت الأوان بنشره لي "لا لباس للوجه"، والذي كان موضوعه
الدلالات السياسية والأخلاقية للبرقع، تكرّم أحد الإخوة بإبداء ملاحظات
وجيهة حول ما عرضت فيه من أفكار، وعدَّد جملة اعتراضات، أولها تعلّق
بالمنحى الفلسفيّ الخالص الذي نحاه المقال، وقد رأى الأستاذ الكريم من
زاوية نظره أنّ هذا المنحى حدّ من آفاقه ومنعه من أن يرتاض في أبعاد أخرى
أهمّها البعد الاجتماعي، فكان أن ظلّ التحليل فيه محصورا فيما هو فلسفيّ،
ولم يمتدّ ليشمل ما هو ثقافيّ وسوسيولوجيّ؛ وثاني الاعتراضات كان أنّ
المقال استند في مقدّماته وحججه على مبادئ فلسفية "غربية"، وقدّمها
باعتبارها مبادئ "كونية"، هكذا جاء في التعليق.
ورغم أنّه من الممكن أن ننهي النقاش بالقول مبدئيا بأنّ الطابع الفلسفي
للمقال كان مقصودا، إذ أني كتبت في مستهلّ المقال ما نصه "لست أرغب في أن
أتناول الموضوع في حيثياته العقدية ولا في "ظرفيته" الأوربية، بل أريد أن
آخذ الحدث مناسبة للتفكير في البرقع ذاته، أي في دلالته ومعناه، ومن منظور
فلسفيّ محض، تاركا جانبا الحوافّ واللواحق الثقافية والاجتماعية للمسألة،
لأنّها قد تتيه بنا عن المقصد"؛ ورغم أنّه من الممكن أيضا أن أقول بأنّ
الكاتب يسأل فيما كتب، وليس فيما لم يكتب، ويحاكم بحسب الشروط الداخلية
لنصه؛ إلا أنّي اعتبارا لأهمية الموضوع، ولأهمّية الاعتراضات، وتعميقا
للنقاش الذي افتتحه الأستاذ مشكورا، فإنّني عزمت على مناقشة الاعتراضات
بتفصيل، دون أن أزعم طبعا الحسم في الأجوبة أو النتائج.
القول الفلسفي بين الخصوصية والكونية :
يحتج الأستاذ الكريم، كما ورد أعلاه، بكون المقال في تقويمه قد استند على
وجهة "فلسفية غربية"، وسعى لأن يتناول من هذه الوجهة موضوعا إسلاميا صرفا
هو البرقع، وهو بذلك يضفي على ما هو خاص - الفلسفة الغربية- صفة
"الكونية"، وهذا خطأ.
يبدو لي صراحة بأن هذا الاعتراض ليس قويا، بل هو ربما غير سليم، وذلك
لأسباب عديدة، أولها متعلق بمفهوم "الفلسفة الغربية"، وثانيها بمفهوم
"الكونية".
من بين ميزات الفكر الفلسفي، والفكر النظري عموما، أنه فكر "مطلق"، وهذه
من العناصر التي تصله بالخطاب العلمي. ما يعنيه هذا الأمر عمليا هو أن هذا
الخطاب لا يتوجه لقوم مخصوصين أو ثقافة معينة، بل هو موجه للإنسان بما هو
إنسان، وفي هذا يختلف عن الخطاب العقدي، وهكذا فنحن عندما نقرأ لديكارت،
فإننا لا نولي أهمية لكونه "مسيحيا" يسوعيا، أو فرنسيا أوربيا، بل ننظر في
القيمة النظرية والقوّة الاستدلالية لما يقول، تماما كما أننا عندما نقرأ
أرسطو فإننا لا نتناوله باعتباره فيلسوفا "وثنيا" أو يونانيا خالصا، بل
ننظر فيما هو فكريّ وقيمي وعقلي في خطابه، بهذا المعنى فالخطاب الفلسفيّ
كونيٌّ بالضرورة، سواء كان المشتغل به مسلما أو يهوديا أو عربيا أو بوذيا
أو غيره، فلا قيمة للانتماءات العقدية في الخطاب الفلسفي، تماما كما هو
عليه الحال في العلم، وهذا أمر معروف، فكما أننا لا يمكن أن نختزل ابن
خلدون في إسلاميته أو "مالكيّته"، فإننا لا يمكن أن نختزل كانط في
"تقَويّته" أو غربيته، هذا على فرض أن صفة "الغربية" هذه واضحة بذاتها،
وإلا ففيها نظر كثير، أقلّه أنّه إن كان هذا الوصف مقبولا نسبيا في السابق،
حيث الفروق الثقافية واضحة بين دار الإسلام ودار الكفر، فإنّ الأمر لم يعد
كذلك اليوم، إذ ما حدود الغربيّ وغير الغربي في تفكيرنا وسلوكنا وأنماط
عيشنا اليومي الآن؟ بل ما معيار التمييز بين الغربي وغير الغربي فينا؟
في هذا السياق يميّز الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في تمهيد نص "أسس
الفكر الفلسفي المعاصر" بين مفهومين هما "العالمية" و"الكونية"، ويقارن كلا
من المفهومين بـ"الخصوصية"، ويبيّن بوضوح كيف أنه لم يعد هناك إمكان
للحديث في العالم المعاصر، العالم الذي اكتسحته "التقنية"، الموحِّدة،
"المعسكِرة" بلغة هايدغر، إلا من زاوية "كونية"، فالمقاييس تغيّرت، ولهذا
فلا معنى للحديث عن الأصالة أو الخصوصية وما إليها من مفاهيم (1).
لا إمكان للحديث عن "خصوصيات" عقدية أو ثقافية في الفلسفة إذن، لأنّ
الفلسفة خطاب إنساني لا يكون معياره إلا مدى لزوم الحجة والعقل ومدى قوة
المنهج. والأمر صار أوضح في عالم اليوم، على ما يبين الأستاذ بنعبد العالي
في هذا النص المهمّ.
ينضاف إلى هذه الأمور عنصر آخر لا يقل أهمية، وهو أن الحديث عن فلسفة
"غربية مخصوصة"، يفترض ضمنيا إمكانية وجود فلسفة "إسلامية مخصوصة"، وهذا
طرح خطير، لأنه يفتح الباب واسعا أمام الأصولية الفكرية، وهي الأصولية التي
باسمها حُورب الفلاسفة العرب القدامى واضطهدوا، بدعوى اشتغالهم بعلوم
الأوائل "الكافرة" التي ليست من دين الإسلام ولا من عادات أهله في التفكير،
بل إن هناك من المفكرين المعاصرين من يحاول اليوم إعادة التنظير لهذه
الأصولية، فيتحدث عن "المأصول العربي" ضدا على "المنقول الغربي"، وعن
"المجال التداولي" الذي يصفّي من الفلسفات ما يناسب "الخصوصية" الإسلامية،
وهذا هو عينه الأساس الذي يستند إليه رهط آخر من الباحثين "الإسلاميين"
ليتحدّثوا عن "أدب إسلامي" و"سوسيولوجيا إسلامية" و"علم نفس إسلامي" وهلم
جرا من أشكال التخريف التي يمتاز بها بنو جلدتنا على غيرهم من الأقوام.
خلاصة الأمر، لا وجود لفلسفة ولا علم غربي أو إسلامي، بل هناك فكر إنساني
هو ذخيرة لكل الناس، لأن كل الناس ساهموا فيه من خلال الأطوار التي تقلّب
فيها، منذ أن ابتدأ في الشرق القديم إلى اليوم، وهذه الأوصاف (إسلامي –
أوربي- يوناني …) حين تستعمل في تاريخ العلم أو الأفكار أو الفلسفة، فذلك
يكون لغايات منهجية ومدرسية صرف، و ليس من باب الفصل أو قطع الصلات، وهذه
الوحدة في المسار هي التي أباحت لفيلسوف وفقيه "مسلم" مثل ابن رشد، أن
يعتبر مرجعه الفلسفي فيلسوفا "وثنيا" "يونانيا " هو أرسطو، بالاعتماد على
ترجمات قام بها نصارى مشرقيين، ومن ثمة انتقلت لتقدح الوعي الأوربي
الوسطوي، وهذه الوحدة هي أيضا ما أباح لأب كنسي مثل دان سكوت أن يبني أحد
أهم مفاهيمه على مرجعية فلسفية "إسلامية" هي الشيخ الرئيس ابن سينا. ولعله
لهذا السبب نجد من الفلاسفة اليوم من يرفض الحديث أصلا عن "تاريخ" للفكر،
فيعوّضه بـ "جغرافية الفكر".
حدود النظرة الاجتماعية والثقافية:
عاب الأستاذ الكريم أيضا على المقال كونه لم يتطرّق لما هو سوسيولوجي و ثقافي في القضية، وأنه ظل في ما هو فلسفي خالص.
يمكن أن أقول بأن هذا الأمر كان عن وعي تام، وذلك لاعتبارات عديدة، أهمها
في نظري أنه لا إمكان لتناول هذه القضايا، ذات الخلفية الأخلاقية السياسية،
إلا من هذا المنظور الفلسفي.
لماذا ؟
لأن التناول الاجتماعي في سياق حديثنا ذاك لن يضيف شيئا، بل سيتيه بنا عن
القصد و يجعلنا نسقط في نوع من النسبية و "التثقيف" الأنثروبولوجي للقضية،
وهو ما سينتهي ضرورة إلى إضعاف الخلفية القيمية التي طرح من داخلها
الموضوع.
ما الذي يمكن أن يقوله التناول السوسيولوجي لقضية البرقع؟
أمران اثنان، إما أن يعتمد تصوّرا "عقلانيا" فيحصل حاصلا، بأن يقول مثلا
بأن هذه المجتمعات هي ذكورية، وأن المرأة فيها لا تحتلّ مكانة لائقة، وما
إليه من خلاصات هي من المنظور الفلسفي مسلّمات قبلية لا ترقى لأن تناقش،
وإما أن يعمد لبناء تصور "أنثروبولوجي" ثقافي حول المسألة، فيحاول أن
يربطها ب "السياق" الصحراوي والقبلي، وهو ما سينتهي حتما إلى تنسيب القضية،
بل وتبريرها، إذ من عيوب التناولات الأنثروبولوجية أنها تنسِّب القيم، وهو
ما لا ينبغي أبدا التسليم به هنا، لأن هذا عين ما يستند إليه الأصوليون في
دفاعهم عن الحجاب والبرقع، بل وفي دفاعهم عن العبودية وتعدد الزوجات
وتعذيب الخدم وقتل المعارضين وغيرها من الأفعال البربرية، فهذه السلوكات لن
تكون في النهاية – من هذا المنظور الثقافي – إلا "خصوصيات" ثقافية تبرّر
أنثروبولوجيا. بل إن هذا المنهج هو الذي يستند إليه في العمق اليمين
العنصري الأوربي، فكل دعاة اليمين العنصري يرفضون ثقافة العرب والمسلمين
ويدعون لطردهم بدعوى "اختلاف" الثقافات، بل منهم من لا يجد عيبا في أن يوجد
برقع أصلا في بلاد المسلمين، بما أن "الطبيعة الثقافية العميقة" للمسلمين
هي هذه، وهو ما يستنتج منه بعضهم أن لا معنى للدعوة لتطوير وتقوية ومساندة
"عقلانية" عربية، لأن الثقافة العربية ليست عقلانية أصلا.
التصور الأنثروبولوجي والسوسيولوجي لا يمكن الاستناد إليه إذن في هذه
القضايا السياسية والأخلاقية ذات العمق الفلسفي؛ وأنا أحيل هنا – لبيان
عيوب هذا المنهج – على نقد الأستاذ عبد الله العروي القوي له في كتابه
"العرب والفكر التاريخي"، حيث قتل تحليلا هذا التصور "الثقافي" للقيم، وعلى
رأسه التصور البنيوي لكلود ليفي ستروس، كاشفا عن الخلفيات الإيديولوجية
والتاريخية التي حكمت موقفه في نهاية الحرب العالمية الثانية (2).
في هذه القضايا التي تمس ما هو عملي وأخلاقي إنساني، وحدها الفلسفة تمتلك
قوة الفعل والنقد، لأن الفلسفة، من حيث هي "تخصص الكليات" بلغة ألتوسير،
وحدها تستطيع أن تجمع المتفرقات في إطار "غاية" عملية واضحة، تماما كما
استطاع أن يفعل ذلك فلاسفة النهضة الكبار، الذين زاوجوا في فكرهم بشكل بديع
بين النقدي "العملي" والتأسيسي "النظري"، وأما التحليلات القطاعية فهي
تكشف وتبين جوانب في الموضوع، ولكنها تظل عاجزة عن منحها القيمة العملية.
هوامش:
1- عبد السلام بنعبد العالي، "أسس الفكر الفلسفي المعاصر"، مجاوزة
الميتافيزيقا؛ دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1991، صفحات
: 6 – 9.
الإثنين أكتوبر 17, 2011 4:44 am من طرف احمدي نجاد