يلاحظ أن هناك خلافا ثريا بين
منظري السياسة في العالم العربي حول أيهما أولى بالاتباع: تغيير السلط
العربية أم إصلاح الفكر الذي يسيطر على هذه الشعوب. هذا الخلاف قديم في
جذوره، وينطرح بصياغات مختلفة، ولعل الاسئلة المتعلقة بكيفية تجذير مسائل
مثل العقلانية، والتحديث، والحرية، والديموقراطية، وحقوق المرأة والطفل،
والأقليات، تظل مشدودة إلى الخلاف حول تغيير سلوك الحاكم أولا أم
المحكومين، بصيغة أخرى.
بيد أن هذا الخلاف يكتسب ثراءه، وأهميته، في ظل تعثر الثورتين التونسيّة
والمصرية، في تقويض البناءات التي قام عليها النظامان السابقان، مع وضع في
الإعتبار أن ظروف الإنتقال تتطلب قدرا من الصبر، والتفاؤل، وعدم تثبيط
الهمة.
فمن جهة ما تزال جيوب غير مرئية للنظامين على مستوى الإعلام،
والقضاء، والجيش، والإقتصاد، تعيق طموحات الثوريين هنا وهناك، إذ تستميت
هذه الجيوب آناء الليل، وأطراف النهار، في الإبقاء على إمتيازاتها
التاريخية، ومجابهة الحماس الثوري الدافق بالتآمر.
ومن الجهة الأخرى اسهمت خلافات الإنتقال من مرحلة الثورية إلى الشرعية
في تسريب الحزن إلى كثير من المواطنين الذين يخافون من أن تسهم ممارسات
متخاذلة، وشخوص إنتهازيين، وأجواء تسوية، في تفريغ هاتين الثورتين من
مضامينها. ليس ذلك فحسب فخوف الشعوب المتحررة، كل الخوف، أن تتناثر حبات
التضام الإجتماعي، والإثني، والمذهبي، النسبي، وبالتالي تمارس هذه الشعوب
نوستالجيا إلى أوضاع كانت رغم سطوتها وقمعها إلا أنها حافظت بالجبروت على
هذا التضام، وإن بذرت في غده عناصر التشظي.
إلى الآن، يبدو من خلال المحاكمات المتلفزة، أن المسؤولين الذين أداروا
أوضاع ما بعد الثورتين لم يدركوا أن المحاكمة الحقيقة إنما هي لأوضاع وليست
لشخوص فحسب. فالوضع السياسي التونسي والمصريّ الذي سبق خروج الناس إلى
الشارع عزلا، ومواجهة الدبابات، عززته بنيات وعي، وغيابه، أكثر من أن تعززه
هياكل خربة دستورية، وتنفيذية، وتشريعية، وإعلامية. ولذلك تغدو محاكمة
الرموز، على أهميتها ليست السبيل الوحيد لإرساء نظامين جديدين يتاسسان على
كامل ديموقراطية العمل الحزبي، وحرية فردية غير منقوصة، وأسس للمحاسبة،
وتبذيرات للمستقبل المشرق لهذه الشعوب التي ترنوا الآن لأن تبرز طاقاتها
المجتمعية للبناء بعد أن كبلتها أعراف النظامين.
إن الخلاف الحاد بين قادة الثورتين المذكورتين آنفا، رغم أهميته في
تمتين أسس البناء لهذا المستقبل، وكونه خطوة مهمة، وأولى، لترسيخ ثقافة
ديموقراطية الحوار، وإستقرارها، إلا أن معطيات هذا الخلاف تعيد ـ من جهة ـ
إنتاج السؤال حول دور السلوك والفكر في التغيير. فهناك ألف سبب لمسائلة دور
الدين والثقافة في تسيد شخوص على بلدين كان حظهما من التطور النسبي في
البنيات العصرية غير منكور، ذلك قياسا ببلدان عربية أخرى.
صحيح أنه لا بد من إقامة تلك الهياكل الدستورية التي تمهد لوجود،
وإنطلاق، وتطور، ومراجعة، ثقافة الديموقراطي الحرة التي تتناول قضايا
الإصلاح الديني، والثقافي، والأخلاقي، والديموقراطي أيضا. ولكن ترينا هذه
الخلافات حول طبيعة وشكل الدستور جانبا من الخطل حول الكيفية التي بها
ستستقيم، أو تتعطب، أوضاع المستقبل لبلادنا. فالأصوات العالية وسط هذه
الخلاف ما تزال تسعى للقبض على عصا وجزرة المستقبل، وتوظيفهما، لمكاسب
فئوية وليست جمعية. فالأخوان في مصر وتونس، برغم إستبطانهم لحلم الدولة
الدينية، وهم بهذه القدرة التنظيمية في وراثة هذا المستقبل سيكونون، لا
محالة، صوتا مخالفا للتجديدين الديني والثقافي، واللذين هما سيجنيان
للتغيير الثوري ثمراته إن تحققا.
على الجانب الآخر، إذا تمحصنا في الثورات الأخرى التي لم تتبلور لأجل أن
ترينا حجم تحدي الإنتقال الذي قد يواجه المنتصرين فيها، نلاحظ أيضا أن
وضعها لن يكون أفضل في ترسيخ مستقبل الإصلاحين الديني، والثقافي. فحالات
التثوير الماثلة في سوريا واليمن وليبيا، في حال إنتصارها،سيكون ناتجها كما
هو ناتج الخلاف حول دستور المستقبل، أو مستقبل الدستور المتفق عليه.
إن الدستور، في حد ذاته، ليس غاية، وإنما يكمن في بنوده، وتطبيقاته،
السبيل لحفظ التداول السلمي للسلطة، والأفكار، ورموز العمل العام. وإذا كان
الخلاف حول مهتديات، ومرجعيات، الدستور هو بهذا الشبق في كتابته بفهم
الأغلبية، فإلى أي مدى تكون كارثية تطبيقاته القاصمة لظهر الإصلاح الأكبر،
إن كانت الثورة هي الإصلاح الأصغر. ومن هنا يكون الخلاف حول مرجعية وبنود
الدستور القشة التي تقصم ظهر البعير. وستكون طريقة الإحتكام إليه وتوظيفه
البداية لخلق الفوضى المجتمعية في هذه البلدان التي تحتاج إلى تثوير مواز
في وقائعها الدينية، والإجتماعية، والسلوكية.
فالإخوان يريدون كسب جولة
التنظير للدستور الذي يقوم عليه التغيير الحقيقي، وكذلك يسعون بحكم
أغلبيتهم الظاهرة لتعريف ما غمض من بنوده لصالح التحجير على المفكرين الذين
يسعون لنقد التراثين الديني، الإسلامي، والعربي، الثقافي، ولعل هذا النقد
الحر والكثيف هو الذي يحقق حلم التغيير الثوري الذي يطبق على ثوريي العرب
من الخليج إلى المحيط.
إن الخلاف حول تعريف التغييرين السياسيين اللذين حدثا في مصر وتونس،
أهما ثورتان أم لا؟، ينبغي رده إلى تفهم طبيعة التغيير الذي حكم الثورة
الفرنسية التي إستوى فيها التغيير الفكري قبل سقوط سلطة الكهنوت الديني.
فالأوضاع التي سبقت ثورتي مصر وتونس عززتها رغبة شعوب العالم للتحرر
السياسي، ومساهمة الميديا الجديدة في تسريع خطوات التغيير. فحظ العرب من
العصر أنه قدم لهم الإمكانية لتغيير السلطات قبل تغيير الموروث الثقافي
الذي أقعد بهم دون اللحاق بركب الحضارة. فما تزال في أتون التراث الذي أنجب
نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي عوامل حية قادرة على إنجاب حكام
جدد أكثر تسلطا من وسط الذين اسهموا في تغيير النظامين.
والحقيقة أن
النظامين اللذين سقطا جاء كسبب للتغيير الذي كان ضروريا بمعطيات زمانيهما
الغابرين، وخرجت الجماهير، آنذاك، لتؤيدان شعاراتهما ولأنهما نشأ في البيئة
التي كانت تحتاج إلى التغيير الفكري وليس الثوري القومي فحسب سارا في طريق
التسلط. وليس هناك ما لا يحمل الأخوان أو غيرهم من ثوريي اليوم على إقتفاء
آثار المتسلطين السابقين إن لم يدركوا أهمية بناء مؤسسات دستورية تلجم
رغباتهم الإستبدادية، سواء عن طريق سن التشريعات الدستورية، أو الهياكل
السياسية التي تترجمه واقعا.
عودا إلى بدء، الثورة العربية ما تزال بحاجة إلى التنبه إلى رغائب،
وإشتهاءات، القوى التي تستبطن شهوات الأغلبية الحركية لجني ثمار المستقبل
وحدها. وسيظل الخلاف حول أولويتي تغيير السلط العربية، وإصلاح شؤون الفكر،
والثقافة، والإجتماع، رهينا بقدرة الثوريين على تغيير سلوكياتهم التي أوجدت
الإستبداد من قبل، حتى يمكن حمل أفكارها على التخلي عن المكاسب الفئوية،
وهي التي تغذي قتامة المستقبل.
الخميس أكتوبر 27, 2011 5:24 am من طرف هذا الكتاب