ذات مرة كتب جون مينارد كينز*** يقول: "من المألوف أن الناس العمليين،
أولئك الذين يؤمنون بأنهم مستثنون من أي تأثير فكري، هم عبيد هذا الاقتصادي
الراحل أو ذاك". ومعشر الساسة والموسوعيين يرون العالم عبر غرائز وفرضيات
متجذرة في تربة الفكرة الكبرى لهذا الفيلسوف أو ذاك. بعض الأفكار قديمة
ويجري التسليم بها في طول المجتمع وعرضه. وبالنسبة إلى أكثر الأمريكيين فإن
أفكار التراث الليبرالي من جون لوك إلى وودرو ولسن هي التي تؤطر تفكيرهم
حول السياسة الخارجية. فمفاهيم الحرية، الفردية، والتعاون المقدسة عميقة
التأصل في الثقافة السياسية الأمريكية إلى حد أن معظم الناس يفترضون أنها
النظام الطبيعي للأمور، أنها القيم الكونية الشاملة التي من شأن الناس في
سائر الأمكنة أن يتبنوها إذا ما توفرت لهم الفرصة المناسبة.
في أزمان التغيير يتساءل البشر بقدر أكبر من الوعي حول كيفية عمل العالم.
والفجوة الفاصلة بين الحرب الباردة والحادي عشر من أيلول كانت زمناً من هذا
القبيل؛ باتت الحكمة التقليدية بحاجة إلى إعادة اختراع. ما يقرب من قرن
كامل من الصراع الهائل حول الإيديولوجية التي كان من شانها أن تشكل أساس
تنظيم المجتمعات في طول كوكب الأرض وعرضه ــ الفاشية، الشيوعية، أم
الديمقراطية الليبرالية الغربية ــ كان قد أدى إلى بقاء الأخيرة منتصبة
وحدها. فبعد صراع شامل للعالم كله كانت النزاعات الوحيدة الباقية نزاعات
محلية، كثيرة العدد ولكنها ثانوية. ما الذي من شأن القوى المحركة لسياسة
العالم أن تكونها بعد القرن العشرين، قرن الحرب الشاملة؟
بين أساتذة التنظير الذين قفزوا إلى السوق بوصفهم أصحاب رؤى أنموذجية
للمستقبل ثمة ثلاثة طفوا على السطح: فرانسيس فوكوياما، سامويل هنتنغتون
وجون ميرشهايمر. كل منهم أطلق رشَّةً بمقالة سجالية ثم ما لبث أن صفّى
الحجة في كتاب ــ فوكوياما في نهاية التاريخ والإنسان الأخير، هنتنغتون في
صدام الحضارات وإعادة صوغ النظام العالمي، وميرشهايمر في مأساة سياسة القوى
العظمى. بادر كل منهم إلى تقديم رؤيا جريئة كاسحة حركت وتراً محدداً لدى
قراء معينين، وتعرض كل منهم للنبذ من قبل آخرين ممن هوجمت معتقداتُهم أو
ممن قفزوا إلى استنتاجات حول ما تصوروه كامناً في الأطروحات (ردود الأفعال
كانت متطرفة لأن الجزء الأكبر من الحوار دوّم حول العظام العارية للآراء
الواردة في المقالات التمهيدية الأولية بدلاً من نظيرتها المبسوطة في
الطبعات الكاملة، المنقحة للكتب اللاحقة. وغرض هذا المقال هو إعطاء كل من
الطبعات الكاملة للرؤى الثلاث حقها).
لم تنجح أيُّ من الرؤى الثلاث في الفوز بمرتبة الحكمة التقليدية الجديدة،
على الرغم من أن رؤيا فوكوياما بدت هي الأصدق لدى سقوط جدار برلين، ورؤيا
هنتنغتون فعلت الشيء نفسه بعد الحادي عشر من أيلول، كما أن من شأن رؤيا
ميرشهايمر أن تفعل ذلك عند اكتمال قوة الصين. ومع ذلك فإن الأفكار الثلاث
تبقى منارات هادية لأنّ صناع القرار السياسي العمليين الذين يأنفون نظرات
الأبراج العاجية مازالوا يفكرون من منطلقات إحدى هذه الرؤى تقريباً ولم يجر
تقديم أي رؤى أخرى موازية مدى وعمقاً. كل منها ترسم مساراً مفضياً إلى
السلم والاستقرار شرط قيام الساسة باتخاذ القرارات الصحيحة ــ غير أن أياً
منها لا تضمن قيام المعنيين بتجنب الخيارات الخاطئة.
اندماج أم تنوع؟ الأكثر تفاؤلاً كانت رؤيا فوكوياما عن الإجماع الحديث الأخير على
الديمقراطية والرأسمالية، على العولمة والليبرالية الغربية، وعلى إضفاء
"صفة التجانس على سائر المجتمعات البشرية"، بدفع من التكنولوجيا والثروة.
ومع أن البعض جرى استبعادهم جراء عرض فوكوياما الفلسفي المكثف لهيغل ونيتشه
فإن رؤيته ظلت هي الأقرب إلى التيار السائد في التفكير الأمريكي. جاءتْ
متناغمة مع بيانات أخرى منطوية على الوعد بقيادة أمريكية ومعايير أمريكية
مثل بيان جوزف ناي عن القوة الناعمة، بيان جي جون آيكنبوري عن النزعة
الدستورية الكوكبية، وبيان نظرية السلم الديمقراطي لمايكل دويل وآخرين.
تجاوزتْ التهليل للعولمة الاقتصادية المتجلية في مؤلفات موسوعيين معينين من
أمثال توماس فريدمان. إن طبعة فوكوياما كانت أعمق، متميزة بطريقة كان من
شأنها آخر المطاف تأهيل تفاؤله وجعل نبوءته أكثر تناغماً مع نبوءتي
ميرشهايمر وهنتنغتون. قام فوكوياما بالتخفيف من تركيز التيار الليبرالي
السائد على المادية والعدالة عبر التشديد على "النضال في سبيل الحصول على
الاعتراف"، ذلك الالتماس الروحي للكرامة والمساواة الإنسانيتين (أو للتفوق
أحياناً). بوصفه العنصر الحاسم لعملية التحول.
وشرط فهمه فهماً صحيحاً، لم يكن فوكوياما قط على المستوى الذي افترضه
منتقدوه من السذاجة. فهو لم يزعم أن التاريخ كان (بالمعنى الهيغلي لارتقاء
العلاقات البشرية من ثنائي السيادة والعبودية إلى الحرية، المساواة، والحكم
الدستوري) قد انتهى تماماً؛ بل لعله جادل قائلاً إنه كان في سيرورة مفضية
إلى الانتهاء، مع التغلب على العقبات الرئيسية رغم بقاء أطراف سائبة مازالت
بحاجة إلى لملمة وربط. فكرته الرئيسية تمثلت بأن "الديمقراطية تبقى المطمح
الوحيد الذي يلف سائر الأقاليم والثقافات المختلفة في طول كوكب الأرض
وعرضه"، إلا أنها أقرت بأن من شأن السياسة والنزاع اللاليبراليين أن
يتواصلا لبعض الوقت في العالم النامي، الذي يبقى "أسيراً للتاريخ".
شبه فوكوياما العملية التاريخية بقطار عربات مترابطة، تتوقف فيه بعض
العربات أو تنحرف إلا أنها لا تلبث أن تصل إلى المحطة الأخيرة المطلوبة
نفسها. ومع انتهاء الاختلافات الأساسية حول الأسلوب الذي يجب اعتماده
لتنظيم المجتمعات، لم يعد ثمة ما هو مهم وجدير بالصراع من أجله. مقال
فوكوياما الأصلي في مجلة ذه ناشيونال انترست عام 1989 كان سابقاً تماماً
لزمانه، إذ كُتب قبل قيام ميخائيل غورباتشوف بوضع حد للحرب الباردة. حتى
كثيرون ممن أخطؤوا في رؤية الرسالة تبسيطية أدركوا أن انهيار النظام
الشيوعي أدى إلى صيرورة القيم الغربية مَوْجَةَ المستقبل، والحرب الكارثية
من مخلفات الماضي.
مثل كثير من الأمريكيين المفعمين حيوية، دأب فوكوياما على رفض نظرية
الواقعية الجامدة في العلاقات الدولية، تلك النظرية التي لا ترى التاريخ
تقدماً نحو التنوير والسلم بل دَوّامة صراع ثمة تهديدات دهرية متكررة جعلت
الواقعية مقنعة خلال الجزء الأكبر من قَرْن الحرب الشاملة (القرن العشرين)،
إلا أنها ــ الواقعية ــ غريبة عن الغرائز الأمريكية وليست ذات شعبية إلا
في صفوف بعض المحافظين المزاجيين، الماركسيين، وأساتذة التنظير
الأكاديميين. (وقد سبق لي أن اتُّهمتُ بأنني واحد منهم)، أكثرية الناس
أعلنت أنها باتت بالية، ولّى زمانها، لحظة تبدد الخطر الشيوعي بانفجاره من
الداخل. كتب فوكوياما يقول: "بات الواقعيون الدائبون على علاج مرض لم يعد
موجوداً يجدون أنفسهم متورطين في اقتراح علاجات باهظة التكاليف وخطرة على
زبائن أصحاء".
أما ميرشهايمر فواقعي لم يدركه الفساد بعد، وقد سارع إلى صب الماء البارد
على انتصار الحرب الباردة. متصدياً نَطْحاً لموجةِ التفاؤل، راح يجادل أن
الحياة الدولية كانت ستظل هي هي حَلَبَةَ المنافسة الوحشية على السلطة
والنفوذ التي سبق لها أن كانتها على الدوام. وقد أصر على إلباس التنافس
ثوباً مأساوياً لأن البلدان تتصارع لا جراء، بل رغم، رغبتها في السلم. ففي
غياب إدارة عالمية تفرض الحقوق عنوةً، تجد البلدان أن الثقة المتبادلة
مستحيلة، وأن مجرد التماس الأمن يدفعها ببساطة إلى السعي للتحكم ببيئاتها
وصولاً إلى الهيمنة. وإذا كان السلم سيدوم، فإن من الضروري، إذن، إرساؤه
على قاعدة راسخة من توازن القوة، لا على أساس نشر أفكار نبيلة وجميلة.
باختصار، ليس ثمة أي جديد حقاً في هذا العالم الجديد.
كان ميرشهايمر داعية حزبياً، مولعاً بتحدي ما كان يبدو بديهياً. كثيرون
وجدوا دَحْضَ فكره سهلاً حين زعم أن من شان انتعاش الصراعات التقليدية أن
يفضي سريعاً إلى جعل الجميع نوستالجيين ذوي حنين إلى الماضي لأن الحرب
الباردة كانت متحلية بصفَتَيْ البساطة والاستقرار. غير أنّه من المتعذر
إلغاء الواقعية لفترة طويلة من الزمن. فهذه المدرسة طالما ظلت دائبة على
تحريض، بل إثارة غيظ، الأمريكيين من الليبراليين والمحافظين الجدد (الذين
هم ليبراليون في أثواب ذئاب من نواحٍ كثيرة). هذه النظرية تتعرض للإهمال
والنبذ لدى انتعاش السلم وازدهاره، ولكنها تظل تعود وتطل برأسها لأن السلم
يبقى دائم العجز عن أن يكون أَبَديّا. ورؤيا ميرشهايمر استثنائية المغزى
لأنها طبعة واقعية متطرفة لا ترى أي أطراف بريئة ولطيفة في النظام وتفترض
أن سائر القوى العظمى تسعى إلى الهيمنة: "ليس ثمة أي قوى أمر واقع… قوى
استقرار… باستثناء القوة المهيمنة الظرفية التي ترغب في الحفاظ على موقعها
المسيطر المتحكم".
الغرب والآخرون: كانت فكرة هنتنغتون التي انبثقت للمرة الأولى من صفحات هذه المجلة هي
الأَجَدّ والأقوى صَدْماً. مثل فوكوياما، أقر هنتنغتون بتأثير العولمة، إلا
أنه رآها مولِّدة صراعات لا منتجة إجماعات وتوافقات. ومتناغماً مع
ميرشهايمر، رأى أن "القوة الناعمة ليست قوة إلا إذا كانت مستندة إلى قاعدة
قوة صلبة وخشنة"، غير أنه أدرك أن بؤر تمركز القوة المعنية هي مناطق ثقافية
عابرة للحدود القومية ــ ثماني حضارات ــ لا دول معينة. وما رآه فوكوياما
موجة قوس ليبرالي رآه هنتنغتون مجرد قمة للموجة، أنموذجاً غربياً مركزي
الإثنية سبق لقوته أن بلغت ذروتها. وبنظر هنتنغتون كان العالم سائراً في
طريق التوحد على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي ولكن ليس على المستوى
الاجتماعي. كتب هنتنغتون يقول: "إن قوى الاندماج والتكامل في العالم فعلية
وهي التي تتولى، تحديداً، توليد قوى مضادة مؤكدة للثقافات". من شان الغرب
أن يبقى مسيطراً لبعض الوقت ولكنه موشك على الشروع في مسار التقهقر
التدريجي نسبة إلى حضارات أخرى ولاسيما تلك الموجودة في آسيا. أما أكبر
الصدوع في السياسة العالمية فمرشح لأن ينشق بين الغرب و"الآخرين".
قام هنتنغتون بشحن كتابه الصادر في 1996 بحشد من البيانات حول النهوض
الحاصل في ثقافات غير غربية: بيانات عن النسبة المتضائلة للغرب واليابان
(15 بالمئة آنذاك) من مجمل سكان العالم؛ النسبة المئوية المتناقصة لمن
يتكلمون الإنجليزية في الخارج؛ "تأصيل" التعليم الثانوي والإجهاز على عادة
التحصيل الدراسي في الخارج، ذلك التحصيل الغربي الذي كان قد وَفّرَ لِنُخَب
العالم الثالث تجربة الغرب الشخصية المباشرة؛ انتعاش ديانات غير مسيحية في
سائر الأمكنة؛ وما إلى كل ذلك. ثمة بنظر هنتنغتون أكثر من قاطرة عربات
واحدة، إذا استخدمنا صورة فوكوياما المجازية، والقاطرات المتحركة على
مسارات مغايرة دائبة على زيادة سرعتها.
تركزت أطروحة هنتغتون الرئيسية على القول بأن التحديث ليس هو نفسه
التغريب. وانخراط الأجانب في ثقافة الاستهلاك الغربية لا يعني أنهم يقبلون
بالقيم الغربية، مثل التعددية الاجتماعية، سيادة القانون، فصل الدين
(الكنيسة) عن الدولة، الحكم التمثيلي، أو الفردية. كتب هنتنغتون يقول إن
"جوهر الحضارة الغربية هو الماغنا كارتا [الميثاق العظيم]" لا شطيرة الماك
الكبيرة [سندويشة الماكدونالد العملاقة أو المزدوجة]. وهذا يعني أن "من شأن
بضعة شباب في مكان ما من الشرق الأوسط أن يكونوا مرتدين سراويل الجينز،
مدمنين على احتساء الكوكاكولا، مهووسين بالإصغاء إلى موسيقا الراب،
وعاكفين، بين انحناءاتهم نحو مكة، على تفخيخ متفجرة لنسف إحدى طائرات
الخطوط الجوية الأمريكية".
مسيرة التجانس التي رآها فوكوياما ليست أكثر من "ثقافة دافوس" حسب تعبير
هنتنغتون مشيراً إلى اجتماع النخبويين السنوي في سويسرا. لم يكن هذا إلا
الإجماع العابر للحدود القومية لفريق النفاثات الذي يتولى برأي هنتنغتون
"التحكم بِجُل، إن لم يكن، كل المؤسسات الدولية، بالعديد من حكومات العالم،
وبمجمل قدرات العالم الاقتصادية والعسكرية". إلا أن هنتنغتون رأى السياسة
بمنظار شعبوي وأبرزَ مدى رقة هذه القشرة النخبوية ــ "أقل من 50 مليوناً أو
نحو واحد بالمئة من سكان العالم". أما الجماهير والطبقات الوسطى في
الحضارات الأخرى فلها برامجها (أجنداتها) الخاصة. من المؤكد أن تقدم عملية
إشاعة الديمقراطية المحتفل به في نهاية التاريخ لا يرعى أي قيم كونية شاملة
غير أن من شأنه أن يؤدي إلى طرح تلك الملفات وتفعيل الحركات الكفاحية
الوطنية المحلية. وقد ذكَّرَ هنتنغتون القراء بأن "السياسيين في المجتمعات
غير الغربية لا يفوزون في الانتخابات عبر إظهار مدى تحليهم بالصفات
الغربية". ومع أنه لم يقل ذلك صراحة، فإن المماهاة الخاطئة بين التحديث
والتغريب تتسلل على نحو طبيعي إلى مواقف عدد كبير جداً من المحللين
الأمريكيين لأن هؤلاء لا يفهمون البلدان العجيبة إلا من خلال الإقامة في
فنادق غربية الطراز والاجتماع بأناس دافوسيين كوزموبوليتيين [أمميين] ــ
أناس الشريحة العليا ــ، بدلاً من الوقوف على حقيقة الأمور عن طريق عقد
المناقشات والحوارات باللغات المحلية مع المواطنين المتحركين صعوداً.
كثيرون أساؤوا فهم مقال هنتنغتون الأَوَّلي مخطئين في رؤيته نداء رُهابياً
داعياً الغرب إلى حمل السلاح ضد الأجانب، "ضد الغير"، "ضد الآخرين"، "ضد
الباقي". إلا أن الكتاب الذي صدر لاحقاً وضع النقاط على الحروف وبيّن أن
هدفه كان هو العكس تماماً: الحيلولة دون صيرورة الصدام المتنامي بين
الحضارات حرباً حقيقية بين هذه الحضارات. وقد دعا إلى التواضع بدلاً من
الغطرسة إذ كتب أن "الإيمان الغربي بكونية الثقافة الغربية يعاني من ثلاثة
عيوب: إنه على خطأ أولاً؛ إنه لا أخلاقي ثانياً؛ وإنه مشحون بالخطر
ثالثاً". وَنَشْرُ القيم الغربية لا يفضي إلى تعزيز السلم بل يستثير
المقاومة: "إذا كانت المجتمعات غير الغربية ستتعرض مرة أخرى للتشكيل من قبل
الثقافة الغربية، فإن ذلك لن يحدث إلا نتيجة توسيع النفوذ الغربي، نشره،
وتفعيله. فالإمبريالية هي العاقبة المنطقية الضرورية للنزعة الكونية
الشمولية". أما البديل الأكثر حكمة فيكمن، برأيه، في التسليم بأن "أمن
العالم يستدعي القبول بمبدأ التعددية الثقافية الكوكبية".
حَلُّ فوكوياما كان، إذن، مشكلة هنتنغتون. تجنباً لتصاعد وتائر الصراع بين
الحضارات لا بد من نبذ النزعة الكونية الشاملة، من احترام الثقافات غير
الغربية، ومن الإصرار، قبل كل شيء، على العزوف عن التدخل في الصراعات بين
حضارات غير غربية. وقد كان هنتنغتون يرى أن من شأن الوقوف جانباً أن يشكل
"الشرط الأول للسلم". كان من شأن هذا أن يثبت أنه استثنائي الصعوبة في
التعامل مع العالم الإسلامي المستند إلى سجل "التورط في أعمال العنف بين
الجماعات أكثر من منتسبي أي حضارة أخرى".
بعد تاريخ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر:
حين نجحت القاعدة في ضرب البُرْجين التوأمين ومبنى البنتاغون [وزارة
الدفاع] قرر عدد كبير من المسكونين بالشك أن هنتنغتون كان عالماً بالغيب،
نافِذَ البصيرة، آخر المطاف. والخبير في شؤون الشرق الأوسط فؤاد عجمي كتب
في النيويورك تايمز يقول: "من أخطائي أنني شكّكت بكلام سامويل هنتنغتون حين
تنبأ بالصراع بين الإسلام والغرب". أما فوكوياما فبقي حيث هو دون أن يتعرض
لأي إزعاج. وفي ذيل ختامي لطبعة لاحقة من طبعات كتابه جادل فوكوياما
قائلاً إن من شأن بلدان إسلامية من خارج العالم العربي أن تكون قادرة على
إشاعة الديمقراطية وإن مبادئ العنف الإسلامية ليست إلا إيديولوجيات غربية
مستلهمة من الفاشية والشيوعية الغربيتين وهي "لا تعكس أي تعاليم جوهرية
للإسلام". وفي متن الكتاب الأصلي رفض فوكوياما عدَّ الإسلام تحدياً للغرب
لأنه غير ذي جاذبية خارج المناطق التي هي إسلامية سلفاً: "صحيح أنه قادر
على استعادة أتباع ضالين وكسبهم من جديد، إلا أنه لا يُحْدث أي صدى لدى
الأجيال الشابة في برلين، طوكيو، أو موسكو".
إن فوكوياما الذي كتب قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لم ير الاستثناء
الإسلامي إلا نوعاً من الخلاف الثانوي. أما ميرشهايمر فلم يكن لديه أي شيء
يقوله عن الموضوع، لعدم وجود أي دولة إسلامية بين القوى العظمى التي يعدها
الوحدات السياسية المهمة الوحيدة. وفيما يخص الإرهاب، فإن الكلمة، حتى
الكلمة، لا ترد في فهرس أي من الكتابين. أما هنتنغتون فقد رأى بوضوح وأكد
صراحة أن الإسلام تحد ذو شأن، مؤمناً بأنه أكثر حيوية مما ظنه فوكوياما.
لقد بين، مثلاً، أن نسبة عالية جداً من الأصوليين الإسلاميين هم مثقفون
وتكنوقراطيون متحدرون من "القطاعات الأكثر "حداثة" من الطبقة الوسطى".
وحده هنتنغتون من الثلاثة كان سَبّاقاً في التكهن بمدى ضخامة المشكلة التي
كان الإسلام سيثيرها مع وصول التاريخ إلى محطته الأخيرة. بعد نشر كتاب
صدام الحضارات، واجه العالم الإسلامي الأمريكيين بتحدٍ متعدد الجبهات ــ
لأن الولايات المتحدة بادرت إلى الدفاع عن نفسها ضد القاعدة أولاً؛ لأن
واشنطن مصرة على دعم إسرائيل التي هي قاعدة عدوانية غربية متقدمة في
المنطقة الإسلامية ثانياً؛ ولأن الرئيس جورج دبليو بوش احتقر تنبيه
هنتنغتون المحذر من التدخل وشن غزواً كارثياً على العراق، ما أفضى إلى
استعداء سائر المسلمين في طول العالم وعرضه، ثالثاً. وفي العقد الأول من
القرن الحادي والعشرين، بدا فوكوياما وميرشهايمر كما لو كانا قد وقعا في
خطأ تحديد مكان التحرك المحتمل. غير أن أياً من الثلاثة لم يُصَدِّق أن من
شأن ظاهرتي الإرهاب والثورة الإسلامية ستبقيان الحَدَثين الرئيسيين.
ففي الفجوة الحاصلة عقب الحرب الباردة دأبت رؤى فوكوياما، هنتنغتون،
وميرشهايمر على لفت الأنظار إلى قوى مختلفة جداً منخرطة في عملية رسم حدود
الصراع والتعاون. وهذه الرؤى بدت صارخة التضارب فيما بينها، وأولئك الذين
كانوا يجدون واحدة مقنعة كانوا يعدون الأُخْرَيين على خطأ مئة بالمئة. أما
إذا تحمل المرء عناء إزالة القشور السطحية عن هذه الرؤى وصولاً إلى الشروط
التي وضعها المؤلفون لنبوءاتهم فإنه لا يلبث أن يكتشف أنها تشير جميعاً نحو
جهة لافتة بتماثلها ــ وتشاؤمها.
مع انتهاء كتابه نجد فوكوياما ــ وهو الأكثر تفاؤلاً بين الثلاثة ــ
مفتقراً إلى الاقتناع. رؤيته أكثر تعقيداً وعَرَضية من رؤى أخرى في سياق
النظرية الليبرالية، وأقل انتصارية. فهو يذهب إلى ما هو أبعد من كثيرين ممن
يحتضنون العولمة وثقافة دافوس ويعبر عن القلق إزاء عدم كون الوفرة
الاقتصادية وأسباب الراحة التكنولوجية كافية لإبقاء التاريخ منتهياً، لأن
"الإنسان ليس حيواناً
اقتصادياً مجرداً". إن القصة الحقيقية هي القصة المعنوية ــ الأخلاقية،
قصة النضال في سبيل الحصول على الاعتراف. يقوم فوكوياما بتزيين فكرة نيتشه
عن إرادة القوة ــ أن الناس سيكافحون لا لمجرد أن يكونوا متساوين، بل
ليتفوقوا ــ أنهم سيعيدون إعادة إشعال نار العنف التي كان من المفترض
لنهاية التاريخ أن أخمدتها. يعترف فوكوياما بأن هذا البُعد الروحي يضفي
زخماً على القوتين الأقل شبهاً بدافوس: على القومية (التي يراها ميرشهايمر
محركاً رئيسياً للصراعات الدولية) والدين (الذي يراه هنتنغتون القوة
الدافعة الأكثر تعرضاً للاستخفاف في السياسة).
متضافراً مع المؤلفين الآخرين يعبر فوكوياما عن القلق إزاء "احتمال" أن
تكون حضارة غربية لم تتجاوز المادية والعدالة "عاجزة عن الدفاع عن نفسها في
مواجهة حضارات… أفرادها مستعدون للتخلي عن الراحة والأمن وغير خائفين من
المخاطرة بحيواتهم كرمى لعين السيطرة". ورغم ثقته بأن التاريخ منته، فإنه
يقر بأن من شأن السأم من المحصلة، أو الاستثناءات من القاعدة أن يؤديا إلى
إطلاقه من جديد. مع الوصول إلى الفصل الأخير من كتاب فوكوياما تفوق نيتشه
على هيغل ولا يبدو التاريخ منتهياً بل في فترة استراحة.
هل ستتمكن الصين من إعادة إطلاق عجلة التاريخ؟ علاقات الغرب المستقبلية مع الصين، البلد الوحيد المرشح لإنهاء حقبة
الأحادية القطبية، هي القضية الأكثر لماً وضَفْراً لخيوط مضاعفات هذه الرؤى
الثلاث مع بعضها البعض. كُلٌ من المؤلفين يعرض خياراً لتجنب النزاع.
بالنسبة إلى فوكوياما، يتركز الخيار على مبادرة الصين إلى الالتحاق بركب
الغرب والتسليم بنهاية التاريخ. وبالنسبة إلى ميرشهايمر، يتمثل الخيار
بمبادرة الغرب إلى اجتراح تحالف قوي لموازنة قوة الصين واحتوائها. أما
بالنسبة إلى هنتنغتون فالعكس هو الصحيح ــ احترام اختلاف الصين والإحجام عن
المحاولات الرامية إلى خنق نفوذها. (فهنتنغتون يرى التصدي والاحتضان،
كليهما، معقولين وقابلين للتصديق إلا أنه يؤمن بأن من شأن الأول أن يتطلب
أفعالاً أكثر اتصافاً بالحسم من تلك التي فكَّرَتْ بها أوساط التنظير
لسياسة الولايات المتحدة حتى الآن). غير أن أياً من الثلاثة لا يقدم سبباً،
أيَّ سبب، للاعتقاد بان هذه المسارات المفضية إلى السلم قابلة بالمثل لأن
تُفهم بوصفها منطوية على وعد بصدام.
يبقى فوكوياما قليل الكلام عن الصين، بيد أنه لا يزعم بأنها ستتطور
بالضرورة حاذية حذو الغرب. وهذا يبقيها استثناء عملاقاً بحجم الفيل من
مقولة نهاية التاريخ، مع عدم وجود أي سبب لتوقع ألا يكون "نضالها في سبيل
الاعتراف" شبيهاً بنضالات قوى صاعدة كانت في السابق. أما هنتنغتون
وميرشهايمر فيفترضان، كلاهما، أن الصين ستسعى إلى الهيمنة في آسيا. كذلك
يقوم هنتنغتون بتقديم بيانات تكشف أن الصين هي القوة الكبرى الوحيدة التي
سبق لها أن كانت أكثر عنفاً من الدول الإسلامية؛ أنها أقدمت، في الأزمات،
على استخدام القوة بمعدلات بلغت أربعة أضعاف نظيراتها في الولايات المتحدة.
يسجل هنتنغتون أيضاً أن الثقافة الصينية متنافرة مع التعددية القطبية،
التوازن، والمساواة ــ التي هي أسس محتملة للاستقرار الدولي من منطلقات
غربية. بدلاً من ذلك، يجد الصينيون، برأي هنتنغتون، أن التراتب ونظام
"المركزية الصينية" التاريخية في آسيا الشرقية طبيعيان جداً.
وبنظر ميرشهايمر، من المحزن أن تبقى الصين القضية التي يكون تشخيصه
المأساوي بشأنها شديد الإقناع (على الرغم من أن وصفته قد لا تكون كذلك).
نبوءته المبكرة أن حلف الناتو كان سيتفكك بعد الحرب الباردة زادت هزالاً مع
مرور الأعوام، فيما إيمان فوكوياما وهنتنغتون بأن وحدة الغرب قد أحالت
اللاأمن على إجازة مفتوحة، دائمة كان أفضل حالاً هناك. أما عن مستقبل الصين
فإن السجل التاريخي أكثر تأييداً للنزعة التشاؤمية لدى ميرشهايمر. وكما
قال الباحث روبرت غلبن، فإن "الفترات الانتقالية للهيمنة" ــ فترات شروع
قوى صاعدة في الحلول محل نظيرتها المسيطرة ــ نادراً ما كانت سلمية. صحيح
أن رضوخ المملكة المتحدة للولايات المتحدة كان سلمياً، ولكن فوكوياما
وهنتنغتون يمكنهما عزو الأمر إلى علاقات قربى ثقافية وإيديولوجية ــ وهي
عناصر غائبة عن الصلة القائمة بين الصين والولايات المتحدة.
بالنسبة إلى ميرشهايمر، سياسة "التفاعل" الليبرالية لا توفر حلاً لمشكلة
القوة الصينية الصاعدة ولن تؤدي إلا إلى جعلها أكثر سوءاً. كتب ميرشهايمر
يقول إن "للولايات المتحدة مصلحة أساسية في تعريض النمو الاقتصادي الصيني
للتباطؤ. غير أن الولايات المتحدة اعتمدت استراتيجية مفضية إلى النتيجة
المعاكسة". إلا أن من شأن الحرب الاقتصادية المؤهلة لشل الصين أن تستثيرها
أيضاً، وهي ليست خياراً مقنعاً على أي حال.
إذا صَدَّق المرء ما جاء في باقي كتاب ميرشهايمر، فإن صعود الصين ينبغي
ألا يثير ذُعر المؤلف إلى هذه الدرجة. يجادل ميرشهايمر قائلاً إن الأنظمة
الدولية الثنائية تكون، بطبيعة الحال، الأكثر استقراراً. وهو ينكر كون
النظام الراهن أحادياً، غير أن من الصعب رؤيته نظام تعددية قطبية حقاً؛ ليس
ثمة بعد أي قوة منافسة للولايات المتحدة. إذا تأهل نظام الحرب الباردة لأن
يكون ثنائياً، فإن النظام المقبل الذي تصبح فيه الصين قوة عظمى ثانية يجب
أن يكون، هو الآخر، ثنائياً.
هل يتعين على الأمريكيين أن يناموا مطمئنين، إذن؟ لا. التعلق بالثنائية
القطبية خطأ. إنها مفرطة الاستناد إلى "السلم الطويل" السعيد للحرب الباردة
ــ التي لم تكن راسخة الاستقرار معظم الوقت – وليس واضحاً لماذا يجب
استخلاص العبر من مثالي الثنائية القطبية الآخرين اللذين تمخضا عن حربين
كاريثيتين: أثينا مقابل اسبارطة وروما مقابل قرطاجة. ثمة واقعيون آخرون،
مثل جيوفري بليني وروبرت غلبن، يبدو أكثر إقناعاً إذ يرون التراتب الهرمي
النظام الأكثر استقراراً والتناظر القائم على التكافؤ منبعاً للحسابات
الخاطئة وألوان المخاطرة. إذا كان الاستقرار هو الشيء الوحيد الجدير
بالرعاية، فإن من شأن الإذعان لواقع تحكم الصين بآسيا أن يكون أهون الشرور.
غير أن ميرشهايمر يبقى متخوفاً من احتمال هيمنة الصين على المنطقة. يبدو
التشخيص الواقعي على الوجهين بائساً، مثيراً للاشمئزاز.
لا تقوم النزعة التفاؤلية إلا على بدائل يعدُّها أساتذة التنظير الثلاثة،
جميعهم، غير واردة. أحدها هو المنظور الليبرالي الشائع، إلا أنه الخيار
المادي البسيط الذي يراه فوكوياما أكثر عقماً من أن يدوم. من شأن خيار ثانٍ
أن يتمثل بوصفة ضبط نفس محافظة شبيهة بوصفة هنتنغتون، غير أن هذا غريب عن
الشخصية الأمريكية منذ تورط الأمريكيين في إدمان الحركية الهجومية العنيفة
بعد عام 1945. في كتابه عالم ما بعد أمريكا، يقوم فريد زكريا باستخلاص شيء
من مزاوجة الأمرين. إنه يرى عالماً متضائل الخطر مع تغليب الاقتصاد على
السياسة. إلا أن نزعته التفاؤلية تبقى، هي الأخرى، ذات بطانة رصاصية ثقيلة
وكئيبة. يرى زكريا النظام السياسي الأمريكي "نقطة الضعف الجوهرية" في هذا
العالم بسبب الهوة العميقة الفاصلة بين النخبة الأممية [الكوزموبوليتية]
العرفانية (معشر دافوس) من جهة والأكثرية الشعبية قصيرة النظر التي تشد
البلد نحو الأسفل من جهة ثانية. وإذا كان النظام السياسي العزيز على القلوب
هو المشكلة، فهل يستطيع الأمريكيون، فعلاً، أن يمدوا يد المساعدة؟
يبقى هنتنغتون أكثر نزوعاً إلى التحلي بالصفة الديمقراطية، غير أنه يبقى
في الوقت نفسه خائفاً من عدم إقدام الأمريكيين على التصدي لخيارات صعبة.
يقول محذراً: "إذا لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للقتال ضد الهيمنة
الصينية، فإنها ستضطر إلى نفض يدها من نزعتها الكونية الخلاصية الشاملة".
غير أن من شأن هذا أن يشكل انعطافاً حاداً غير محتمل بعيداً عن التراث
والنصر. و"لعل أكبر الأخطار" حسب تخوفه "هو أن تبقى الولايات المتحدة محجمة
عن اعتماد أي خيار واضح فتنجر متعثرة إلى حرب مع الصين دون أن تعاين بدقة
وعناية ما إذا كان الأمر في خدمة المصلحة القومية ودونما استعداد لخوض مثل
هذه الحرب بفعالية ونجاح".
حدود الأفكار الكبرى: لم يقم أي من المؤلفين الثلاثة بالكتابة عن أكثر الرؤى حلكة حول المستقبل،
تلك الرؤيا التي تتجاوز السياسة وتطال ما بعدها. (فمارتن ريز، في كتابه:
ساعتنا الأخيرة، وفرد آيكله في: الإبادة من الداخل، يكشفان عن حشد هائل من
الأشكال التي تستطيع بها الكوارث الطبيعية أو ألوان التقدم العلمي في
الهندسة الحيوية، الذكاء الاصطناعي، وأسلحة التدمير الشامل أن تتمخض عن
عواقب قيامية مرعبة). ومع ذلك فإن الرؤى الثلاث الأكثر إدهاشاً التي ركزت
على السياسة العالمية بعد الحرب الباردة تكشفت عن أنها باعثة على القلق.
فالعالم في 2010 يكاد لا يبدو على مسار أكثر انطواء على الوعد مما كان حين
أقدم فوكوياما، هنتنغتون، وميرشهايمر على طرح وجهات نظرهم، وما من شان أحد،
سوى القلة النادرة، اليوم أن يكون مستعداً على المراهنة على احتمال قيام
أرباب السياسة بتبني الخيارات السياسية التي أوصى بها الثلاثة.
يذكرنا هذا أن الرؤى البسيطة لا تضمد، مهما كانت قوية، بوصفها نبوءات
جديرة بالتعويل عليها عن تطورات معينة. من المؤكد أن الرؤى حيوية على صعيد
إيضاح التفكير بالقوى التي تحرك العلاقات الدولية، بالتوجهات المحتملة
للأحداث، وبإيمان المرء الأساسي العميق بأمور السياسية، غير أنها لا تستطيع
أن تتحدث عن أشياء كثيرة محددة في زحمة التعقيدات الفعلية للحياة
السياسية. فأعظم الأفكار وأكبرها قد لا تتمخض إلا عن التقديرات والتخمينات
الأقل دقة وصواباً. قام أستاذ السايكولوجيا فيليب تَتْلوك في كتابه الحكم
السياسي الخبير بتجميع عشرات البطاقات التي دون عليها نبوءات أهل الخبرة في
السياسة واكتشف أن الخبراء الذين ذاعت شهرتهم بسبب نظرياتهم العظيمة
الكاسحة ("القنافذ" حسب تصنيف اشعيا برلين) كانوا أسوأ وسطياً من أولئك
الذين أطلقوا تحليلات أكثرت تعقيداً واحتمالاً ("الثعالب") ــ وأن سجلات
النبوءات عن سائر أصناف الخبراء تتكشف عن أنها بالغة الضعف. ثمة قراء
باحثون عن حجج لتجاهل النبوءات المتشائمة المنذرة بالكوارث قد يشعرون
بالاطمئنان عند الاطلاع على الدلائل المشيرة إل عدم وجود أي أمل في التنبؤ
(ولسان حالهم يردد المثل العربي المعروف: "كذب المنجمون ولو صدقوا"
[المترجم]). يرى نسيم نيكولاس طالب مؤلف البجعة السوداء أن التطورات الأكثر
تغييراً للعالم تتكشف عن أن أحداً لم يتنبأ بها، عن أنها نتيجة أحداث
شديدة البعد عن التوقعات من خارج معادلات المحللين. يجادل طالب قائلاً إن
العشوائية الطاغية لأسباب الأمور الطارئة على الحياة الاقتصادية والسياسية
حتمية، لا مجال للهروب منها؛ ليست الأفكار الكبيرة إلا أوهاماً كبيرة.
يحلو للعمليين أن يستمعوا إلى ما يذكِّرهم بأن للنظرية حدوداً. غير أن
التخطيط الحصيف القائم على المعرفة يبقى ميؤوساً منه إذا لم تكن الأسباب
والنتائج إلا عشوائية خالصة. ليس اللايقين المفرط خياراً بالنسبة إلى
السياسيين الذين لا يستطيعون أن يطلقوا النار في الظلام، فلا يمكنهم، إذن،
أن يستغنوا عن بعض الافتراضات حول أسلوب عمل العالم وحركته. ذلك هو ما
يُبْقي الناسَ العمليين عبيداً لاقتصاديين راحلين أو أساتذة تنظير سياسي
معاصرين. لابد لصانعي القرارات السياسية من وجود مرجعيات فكرية ونظرية إذا
كانوا يريدون اتخاذ قرارات مستندة إلى المعرفة، أميل ولو قليلاً إلى دفع
العالم في الاتجاه الصحيح بدلاً من الاتجاه الخطأ.
ما الذي تقدمه الرؤى الثلاث، إذن؟ على الرغم مما بدت أوجهَ تباين صارخة
عندما طُرحت للمرة الأولى، فإن كثرة من مضاعفاتها تتكشف عن أنها على الصفحة
ذاتها. نجح فوكوياما في التقاط دراما التوحيد الأخير للغرب، دراما تعزيز
تاريخي لليبرالية على نطاق واسع وتطور تشكيلي للعالم وإن لم يبادر الأنموذج
الغربي إلى إثبات أنه أنموذج كوني شامل. ثمة طبعة أقل طموحاً من طبعة
فوكوياما، طبعة لا ترقى إلى مستوى المطالبة بالغربنة الكاملة لـ "الآخرين"،
متناغمة تماماً مع طبعة هنتنغتون التي أصرت على مطالبة الغرب بالتركيز على
أن يبقى متلاحماً، دائباً على حل مشكلاته، عاكفاً على عكس توجه تقهقري
زاحف، وعازماً على تجديد حيويته. وعلى النقيض من تفضيل عدد كبير من
الليبراليين في الولايات المتحدة، كان هنتنغتون طامحاً إلى الكونية
الشمولية الخلاصية في الداخل والتعددية الثقافية في الخارج. من شأن رؤيا
فوكوياما أن تكون أيضاً مدهشة التناغم مع رؤيا ميرشهايمر، لأن فوكوياما
سلّم بأن الواقعية مازالت نافذة على صعيد التعامل مع أجزاء من العالم بقيت
عالقة بين براثن التاريخ. (إلا أن ميرشهايمر خالف الرأي القائل إن الدول
الغربية قد تجاوزت مرحلة احتمال نشوب الحرب فيما بينها).
كذلك بادر هنتنغتون إلى القبول بجزء كبير من النظرة الواقعية، لأن الصراع
الحضاري مازال، حسب وجهة نظره، يجري على قدم وساق في الغالب بين "دول
مركزية" في كل ثقافة. وقد أقر أيضاً بأن من غير الممكن حل المسألة الصينية
بالطريقة الليبرالية الدافوسية ــ طريقة التفاعل والاشتباك عبر المؤسسات
الدولية ــ وطالب الولايات المتحدة، بدلاً من ذلك، بالإقدام على الاختيار
الصريح والمباشر بين التسليم بهيمنة صينية زاحفة في آسيا والمبادرة إلى
اجتراح حلف عسكري قادر على وقف مثل ذلك الزحف الهيمني. وكان هنتنغتون راسخ
الإيمان أيضاً بالقيم الليبرالية التي تم الترحيب بها بوصفها نهاية التاريخ
ويجادل مدافعاً عنها وداعياً إلى تعزيزها في إطار الغرب؛ ببساطة كان يؤمن
بان للعالم تواريخ أخرى مفعمة بالحياة في الوقت نفسه. فخَلْطَةُ هنتنغتون
الجامعة بين التشخيص المتطرف والوصفة المحافظة تبقى في النهاية، مع حسم
كبير نتيجة ابتلاء أي نظريات عظيمة بسلسلة من العيوب، الرسالة الأمضى
والأفعل بين الرسائل الثلاث.
لعل وجه الشبه الأبرز، وجه شبه باعث على القنوط، هو أن المؤلفين الثلاثة
كانوا، جميعاً، على افتراق عن جملة المواقف التي ظلت طاغية على السياسة
الخارجية الأمريكية ودفعتها إلى المبالغة في طموحاتها بعد الحرب الباردة.
أولاً، تمكَّنَ الثلاثة، بطرق مختلفة، من رؤية ما هو أبعد من الليبرالية
الدافوسية، وأدركوا أن من شأن دوافع غير اقتصادية أن تبقى قوى محركة نافذة.
صحيح أن ميرشهايمر لم يؤكد أهمية الكرامة والهوية على الصعيد المعنوي ــ
الأخلاقي، كما فعل الآخران، ولكنه ظل يجادل، وبقوة أكبر حتى مما قد فعلا،
قائلاً إن التجارة، الازدهار، والقانون لا تؤدي، وحدها، إلى ضمان السلم.
ثانياً، لم يؤيد أي منهم نزعة المحافظة الجديدة الصليبية. (انشق فوكوياما
عن المحافظين الجدد بعد الحرب العراقية). إلا أن المحافظين الجدد يشاطرون
هنتنغتون تشخيصه للخطر الذي يتهدد السلم ولكنهم يُحْجِمون عن تبني وصفته
الداعية للولايات المتحدة إلى ضبط النفس. وهم شديدو الرفض لتفضيل الواقعيين
اتخاذ موقف التحفظ والحذر من النزعة المثالية. تكمن المشكلة في أن كلاً من
الليبرالية دافوسية الطراز من ناحية ونزعة المحافظة الجديدة الكفاحية من
ناحية ثانية كانتا، كلتاهما، أكثر نفوذاً من جملة رؤى فوكوياما، هنتنغتون،
وميرشهايمر الثلاث الأعمق والأعقل. إذا كانت الحصافة هي التي ستتولى صوغ
السياسة الخارجية الأمريكية، فإن الحاجة تدعو إلى اجتراح رؤيا رابعة ــ
رؤيا تقوم بإذابة العناصر المتناغمة الكامنة في هذه الرؤى الثلاث في بوتقة
واحدة وصولاً إلى صيغة مخترقة للتيار السياسي الأمريكي السائد.
الإثنين أكتوبر 24, 2011 2:12 pm من طرف هذا الكتاب