"
إنّ
الأسطورة التي تتحوّل أثناء انتقالها من قبيلة إلى قبيلة، تضعف أخيراً دون
أن تتلاشى.. يبقى طريقان سالكان : طريق الإعداد الروائي، وطريق الاستخدام
مجدداً لغايات التبرير التاريخي. وهذا التاريخ يمكن أن يكون بدوره من
نموذجين: ماضوي، لتأسيس نظام تقليدي على ماض بعيد؛ ومستقبلي، ليصنع من هذا
الماضي بدايةً لمستقبل أخذت خطوطه بالارتسام( 1)"
كلود ليفي شتراوس ستنطلق هذه العجالة من مبدأين، الأوّل: أنّ ظواهر بدائية من قبيل :
التنبّؤ والنبوّة، والتكهّن أو استنطاق الأرواح الخفيّة للإتيان
بالوحي…الخ باعتبارها ظواهر معرفية طفولية، كانت قائمة أنطولوجياً عند من
كانوا يؤمنون بها (وإلى الآن أيضاً)، لأنها الطريق إلى استجلاب الآلهة
واستنطاقها عما تنوي القيام به من جهة، وتكتسب واقعيتها السيميائية من
خلال اللغة التي تعبّر عنها من جهة ثانية. فزمانها هو الزمن المقدّس؛ ولا
غرابة كما يقال، أن يحدث كلّ شيء في المقدّس. إنّ أسطورة وحي محمّد ليست
أسطورة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، رغم التقاطعات والمعالم الكثيرة معها.
ومن أجل الوصول إلى هذا، لا بدّ من العيش قليلاً داخل أروقة تجربة محمد
الميثية لكي نفهمها، وإن كنّا لا نؤمن بها من ناحية واقعية وعلمية. إلا
أننا كما يقرّر علماء الميثولوجيا : لكي نفهم الأسطورة لا بدّ أن نعيش
داخلها ونصبح أفرداً منها.
الثاني: كلّ لغة، وبالتالي كلّ نص، يحمل معالم العصر والزمن الذي أولده.
فإذا سألنا مثلاً: لماذا أعمال "جوبا" الفنية تموج بها الدماء والمذابح؟
فإنّ صاحب تلك الأعمال سيجيب: "لأنه ينتمي إلى بلاد مصارعة الثيران، ولأنه
عرف أهوال الحرب(2)". وإذا سألنا لماذا أتت نصوص القرآن في بدايات تشكّله
المكية : مسجوعة، قصيرة، مقفّاة…؟ فإنّ شعبه من قريش سيجيب : لأنّ الشكل
الذي اكتسبه نظم كلامه والمفردات التي استعملها، وهيئته التي كان يتلقّى
خلالها تلك الكلمات، لا تخرج إلا عن روح واحدة، هي : روح الكاهن. ومن
المعلوم أنّ محمداً قد دافع ضدّ هذه الاتهامات بقوله عن قرآنه: «ولا بقول
كاهن، قليلاً ما تذكرون»[الحاقة:42].
كلنا يعلم أن الأساس الذي بنى محمد عليه بنيانه القرآني والسياسي هو
"الوحي"، الذي أصرّ حتى آخر رمق من حياته على أنّه وحي من الربّ (أو
"الله" كما فهمه هو بعد زمن). إنّ وحي محمد رغم استغلاله لأبنية الثقافة
التي أفرزته، إلا أننا سنجده في يثرب قد انقلب على هذا الموروث تماماً
وأصبح مجرد وسيلة يؤتى به متى اقتضت الحاجة في ذلك (3)، رغم استمرار
احتفاظه بالبنية الإحيائية الكهنوتية للوحي كما كان سائداً في مخيال
العرب. ومن هنا ندرك الأسباب التي دفعت الكثير من الباحثين العرب
والمستشرقين إلى تسليط الضوء على تلك الظاهرة، ومن ثمّ إخضاعها لتفسيرات
إيديولوجية متباينة : كلٌ بحسب النافذة والخلفية الفكرية التي ينطلق منها
صاحبها. ورغم هذا، نجد القليل من زرعها في تربتها الأصلية التي ولدت منها
: يتناولونها وكأنها حطَّها السيل من علٍ (أو كما يعبّر امرؤ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من علٍ)، بدون مقدمات، بدون تاريخ، وكأنّ محمداً نزل
بواسطة سلّة من السماء ثم قال لشعب مكّة أنا رسول الله إليكم!
هل كان باستطاعة محمد أن يثبت أركانه في قوله أنه يتلقى وحياً من السماء،
من دون استناده في الأساس على الإبستيم المخيالي للعرب حينها، والذي كان
متمثلاً بشياطين الكهّان، الذين يوحون إلى أنبيائهم الكهنة كلام السجع، أو
بشياطين الشعراء الذين يوحون بدورهم أيضاً على ألسنة الشعراء الكلام الحلو
والعذب؟ هذا هو الإبستيم المخيالي الذي ستحاول هذه العجالة تناوله،
مفترضةً أن أسطورة محمد في تلقّيه وحياً من السماء، لم تكن لتقوم لولا
الاستعانة بشياطين الكهان، أو على الأقل في استغلال أدواتهم المعرفية في
فعل التكهّن (= التنبؤ). في الواقع لا يمكن لأيّ نظام أسطوري أن يثبت
إسقاطاته داخل مخيال شعب ما، إلا أن يستند في أسسه على ما يقوم عليه مخيال
جمهوره من الناس. لقد وصف مرة أستاذنا "نصر حامد أبو زيد" ظاهرة ارتباط
الشعر والكهانة بالجنّ، وصفاً جميلاً حينما اعتبرها أساساً ثقافياً لظاهرة
الوحي : «لقد كان ارتباط ظاهرتي "الشعر والكهانة" بالجنّ في العقل العربي
وما ارتبط بهما من اعتقاد بإمكانية الاتّصال بين البشر والجنّ، هو الأساس
الثقافيّ لظاهرة الوحي الديني ذاتها. ولو تصوّرنا خلوّ الثقافة العربية
قبل الإسلام من هذه التصورات، لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من
الوجهة الثقافية، فكيف يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على
بشر مثله، ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري(4)».
نعم، إنّ محمداً بعد استنفاده جذور المخيال الكهاني، أجرى تعديلات كثيرة
عليه، وخاصة في مدينة السياسة : يثرب. فبينما كان الكاهن يتلقّى وحيه من
الأذن اليسرى، غدا النبيّ على عهد محمد يتلقّاه عن طريق الأذن اليمنى. هذا
إضافة إلى اختراع الروايات كما يروي الأصفهاني (في الأغاني) أن الكهّان
يلبسون الثياب السوداء أثناء الوحي، في حين أن الأنبياء يلبسون الثياب
البيض! "فمن أين يأتيك صاحبك؟ قال: من أذني اليسرى. قال فبأيّ الثياب
يأمرك؟ قال: بالسواد. هذا خطيب الجنّ؛ كدت والله أن تكونه ولم تفعل؛ إنّ
صاحب النبوّة يأتيه صاحبه من قبل أذنه اليمنى، ويأمره بلباس البياض". إلا
أنه لا بد أن نعلم أن محمداً مع ذلك، بقي حتى آخر حياته محافظاً على أسلوب
الكهّان وأدواتهم العرافية في تلقي الوحي: ولا فرق سواء تلقى وحيه في أذنه
اليسرى أم اليمنى، المهم أن الأذن هي الطريق إلى "النفث في الروع" كما
يقال، سواء عند محمد أم الكهّان.
ربّما يغيّر الإنسان معالم نظام أسطوري ما، فيعدّل أو يحذف أو يضيف…الخ،
إلا أنه مع ذلك، سيبقى محتفظاً بأسس النظام الأسطوري (الذي لولاه لن ينهض)
من جهة، وسيبقى مديناً لمدرسة المخيال الشعبي الذي انطلق منها، وإن كابر
على ذلك، كما هي حالة محمد حينما استفاد منهم، انقلب بعد ذلك ضدّ الكهّان
("من أتى كاهناً أو عرافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
محمد(5)". يقول محمد) من جهة ثانية. سنرى بعد قليل أنّ محمداً في بدايته،
حتى هو قد شكّ في نفسه أن يكون كاهناً. إلا أنّ دفْع أسطور شيطانه خطوةً
إلى الأمام (وذلك بتسميته "الناموس namus" أو جبرائيل) قد أتاه من دكتورة
الدين واللاهوت زوجته مسيحية الأصل، خديجة، بالتعاون مع عدّاس وورقة بن
نوفل…كما سنرى.
- النبوة / النبوءة بوصفها نظاما معرفيّا مساويا للكهانة، وأهمية الشياطين في ذلك:
قبل البدء، أحبّ أن أشير سريعاً إلى أنّ معنى التكهّن، لا يمكن أن يتحدد
معنا إلا في السياق التاريخي الذي ألزمنا أنفسنا الخوض فيه؛ وهو هنا
اللحظة التاريخية التي كانت تحيط بمحمد، بكل ما يكتنفها من استحقاقات،
سواء مادية أو معنوية. هذا رغم أنّ التكهن العربي هو بشكل أو بآخر امتداد
للنبوءات العبرانية الساميّة، وما حدث أثناء الزمن المقدس على أرض كنعان
التي كانت تعتبر مهد الأنبياء. فكلمة "الكاهن" أصلها عبراني من "Kohen
كوهن" التي تعني في الأصل "Priest(6)" بغضّ النظر عن تطورها الدلالي من
حيث استخدامها في السياق الحاضر.
"ترى، كيف يمكن سبر فكر هذا الإله، الفائق العلوّ والصامت؟ كيف
يمكن تقدير مشيئته؟ ما السبيل إلى التكهّن بنزواته؟ من الإجابة على هذا
السؤال ولدت الكهانة(7)". إذن التكهّن هو بكل بساطة : فعل التنبؤ أو
التكهن بما عند الآلهة. وقديماً عرّفت الكهانة بأنها : "ادعاء علم الغيب،
كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب. والأصل فيها استراق
الجني السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن(8)". وغالباً ما يكون
الكاهن –كما سنرى عند محمد- أثناء ذلك في حالة غيبوبة وفقدان للوعي.
لماذا؟ لأنه في تلك اللحظات تكون الأرواح مسيطرة عليه، وهو في حالة من
التكهن ''He Prophesied, "Prophetic Fit Came Upon Him"(9). والنبوة
والنبوءة لهما معنى واحد، وكذا نبيء = نبي: " النبوءة : سفارة بين الله
عزّ وجل وبين ذوي العقول لإزاحة عللها (وتبدل الهمزة واوا وتدغم فيقال
النبوة) والإخبار عن الشيء قبل وقته حزرا وتخمينا… ( النبيء) المخبر عن
الله عز وجل (وتبدل الهمزة ياء وتدغم فيقال النبي) (10)".
لا بدّ للكهانة من وحي، وإلا لن تؤدّي وظيفتها في إشباع ما تتطلبه حاجة
ومخيلة البشر. وقد سمي الذي يأتي للكاهن بالوحي تسميات عديدة، أشهرها
"التابع Acolyte" الذي تكون طبيعته ماورائية، وخاصة من عالم الجنّ، أو ما
أطلق عليه التراثيون "الرئيّ" (فلان له رئيّ من الجنّ). وممّا يذكره
الجاحظ عن كهان كان لهم رئيّ من الجنّ : حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وعزّى
سلمة، ومثل شِقّ، وسَطيح(11). فكان لكلّ كاهن وشاعر "رئيّ" ما، وغالباً
يكون من الجنّ : "إذا ألف الجنّي إنساناً وتعطَّف عليه، وخبّره ببعض
الأخبار، وجد حِسّه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا : مع فلان
رئَيٌّ من الجن (الجاحظ، نفس المصدر: 6/203)". فكما سنرى مع حسان بن ثابت،
فإنه لم يستطع قول الشعر بدون الاستعانة بالسعلية الجنية حينما جثمت وضغطت
على صدره، فكذلك محمد، فإنه لن يستطيع قول القرآن بدون ظهور"التابع" له
وضغطه عليه ودفعه بشدة حتى يبدأ بقول القرآن. ومن جهة أخرى، إذا كانت
النبوّة لا نستطيع تعلّمها في المدارس، ذلك أنها تعتمد بشكل أساس على ذكاء
ذهن النبي وصفائه، وبالتالي ليست وراثة، فكذلك الأمر ينطبق على الكهانة
حيث : "تقدّم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن، لذلك لم تكن
كالسدانة مثلاً، إرثاً ينتقل من الآباء للأبناء(12)". ومكان الجنّ معروف
عند العرب؛ هناك وادي عبقر أو وادي الشيصبان. فهؤلاء هم بشكل أو بآخر، رسل
السماء إلى المبدعين من الكهّان والشعراء، ولاحقاً محمد، "النبيّ".
وبالنسبة لتبعية الشعراء والكهّان للجنّ ووحيهم لهم، سأبادر في هذا السياق
لأطرح على نحو مباشر سؤالاً:
لماذا حينما ظهر التابع Acolyte لمحمّد، خاف أن يصبح مجنوناً بتأثير الجنّ
أو على حدّ تعبيره في قوله لخديجة أن يكون به "جنن": "يا خديجة إني أسمع
صوتاً وأرى ضوءاً وإني أخشى أن يكون فيّ جنن(13)" (Affected by jinn)،
وخشي أن يكون "كاهناً" كما في رواية ابن سعد في الطبقات ( 1/ 165): "وإني
لأخشى أن أكون كاهناً" لا بل وصل الأمر بابن سعد في رواية ينقلها، أنّ
محمداً حينما يأتيه الوحي يذهب ساعة (يذهب عنه عقله) وتصبح هيئة محمد :
"كهيئة السكران" (ابن سعد:1/ 165). إذن يصحّ اعتبار أمّ جميل، زوجة أبي
لهب، في وصف الذين يظهرون لمحمد، بأنهم ليسوا سوى شياطين، وذلك حينما
توّقفت الشياطين لمدّة ثلاث سنوات (تسمى "الفترة") عن إفراز القرآن. تخاطب
أم جميل محمداً : "يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك(14)". في الواقع لا
بدّ هنا من إزالة لبس في معنى الجنون. لقد كان محمد على ما يبدو واعياً
تماماً من خلال هاتين الروايتين عن لسانه بارتباط الجنّ بالكهانة، وما
تؤدي بصاحبها للجنون. وفي هذا السياق، يقول الإمام الحلبي: "ينبغي أن يكون
المراد به الإغماء الناشئ عن لمة الجنّ، فيكون من الكهّان لا من الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي(15)". ومن
هنا كان معه الحق أن يشك في نفسه في البداية أن يكون مجنوناً. وهذا ما
يفسر ارتباط الكهانة بالجنون في دفاعه عن نفسه في القرآن، وذلك بعد أن
دربته خديجة وعلّمته أن ذلك ملاك وليس بشيطان: «فما أنت بنعمة ربك بكاهن
ولا مجنون» [الطور: 29].
المجنون عند العرب : من به جنن أو "جُنّة"، والذي تكون حالته هكذا، فهو
ممسوس بالجن Possessed وخاضع لإرادتهم. لذلك قال محمد: "وإني لأخشى أن
أكون كاهناً". يقول الإمام الحلبي: "أي فيكون الذي يناديني تابعاً من
الجن"(نفس المصدر: ج1 ص314). ولا يدلّ جنون محمد كما خاف على نفسه، ما
نشير إليه نحن بالمعنى المعاصر Madness. إلا أن هذا لا يعني أبداً أن
حالته كانت سليمة في عيون قومه. وبسبب هذا، عندما رأت قريش حالة محمد هذه،
اقترحت الطبيب له لكي يداووه من تلك الأعراض التي يتعرّض لها: «وإن كان
هذا الذي يأتيك رئياً تراه، لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطبّ وبذلنا
لك فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى
منه(16)». لن نستبق الحديث بالكلام عن حوادث الجنّ والجنون هذه مع محمد،
إلا أنني أردت من خلال هذا توضيح شيئين:
الأول: أن الجنّ هو فاعل رئيسي في لعبة الوحي سواء للكهّان أو الأنبياء.
وسيتوضح معنا أكثر أن كلا الطرفين –محمد والكاهن- تصيبهما الأعراض أو
النوبات أثناء الوحي. فلولا الجنّ في الواقع، لم ولن يأتي الوحي : فهم
وسطاء السماء والآلهة. وكما نعلم أن كلمة "جنّ" أصلها لاتيني من "جينيوس"
Genius = الإله، أو تلك الروح التي تصاحب "المبدع" منذ المهد. ( نولدكه
يرى أنّ لكلمة الجنّ أصل بالحبشية… وعند العرب الاستتار(17)).
الثاني: إطلاق لفظ المجنون على من ينزل عليه الوحي، كان أمراً طبيعياً.
لماذا؟ لأنه ممسوس بتلك الأرواح، ومستحوذ عليه بالقوة التي يمتلكونها، مما
سيؤدي بالكاهن (ومحمد بعد ذلك كما سنرى)، أن يسقط على الأرض، يغمى عليه،
يرمي نفسه من على صخرة أو من جبل…..الخ. وربما نتذكر النصيحة في هذا
السياق فيما يخص الناس من الشعراء أو الكهان أو الأنبياء (الذين يصابون
بهذه الأعراض أو النوبات Fits) أن نترك لهم الحق أن يدمروا أنفسهم :
"ولسوف أحكي عن موت شاعر صقلي: إن أنبادوقليس وقد أراد من الناس الاعتقاد
فيه أنه إله خالد، ألقى بنفسه رابط الجأش في بركان أثينا المتّقد…فأتيحوا
للشعراء أن يكون لهم الحق في أن يدمروا أنفسهم(18)". إلا أن محمداً كما
يروى، قبل إعلانه أنه سينتحر ويدمر نفسه برميها من شواهق الجبال، أنقذته
خديجة في آخر لحظة حينما ميزت له الملاك من الشيطان. لذلك حينما ظهر له
مرة ثانية وهو كان بحالة انتحار من شواهق الجبال قال له: "يا محمد أنت
رسول الله حقاً"! (البخاري 6982).
رغم ذكر التراثيين أنبياء سبقوا محمداً أو عاصروه مثل "مسلمة بن حبيب
الحنفي" (المسلمون شوّهوا اسمه وصغروه إلى "مسيلمة" كما يذكر نولدكه عن
المبرّد أن اسمه الأصلي مسلمة(19). وللأسف لقّبوه بالكذّاب)، إلا أنه لم
يكن لهم حضور قويّ كما اكتسبه إخوتهم الكهّان. فمما يذكره المسعودي من
أنبياء تلك الفترة الذين أحاطوا بلحظة محمد: "حنظلة بن صفوان" و"حبيب
النجار" و"خالد بن سنان العبسي" الذي قال فيه محمد : "ذلك نبيّ أضاعه
قومه". حتى يروى أنه مرة قد أتت ابنته محمداً فسمعته يقرأ : "قل هو الله
أحد، الله الصمد" فقالت ابنة خالد لمحمد: كان أبي يقول هذه السورة. ومنهم
أيضاً "أسعد أبو كرب الحميري"…(20) الخ؛ إلا أنه بالرغم من ذلك، لم ترد
عنهم آثار كثيرة. وهذا يعود في جزء كبير منه إلى تشويه الإسلاميين لصورهم
وطمسها بسبب نبوة محمد. ومهما يكن من أمر، كان للكهان حضور أكبر عند
العرب، فهم الحكام بين الناس، وهم المستشارون، الذين يرجع إليهم في كل
صغيرة وكبيرة، وبمعنى آخر: كل ما كان النبي يؤديه، نرى الكاهن قد قام به
(وهذه النقطة ستتوضح إلى الأمام أكثر).
لا بد للنبوة من الكهانة، فهي مهدها الأساسي. حتى أن الألوسي يربطها
بالنبوة ويعلل تفشي الكهانة عند العرب بسبب فقدان النبوة: "وكانت الكهانة
في الجاهلية فاشية خصوصاً في العرب لانقطاع النبوة فيهم(21)". إذن الكهانة
هي الحاضنة الرئيسية للنبوة، والأساس الثقافي لها كما يعبر أبو زيد. وهذا
ما دعا الكهاّن أن يصفوا أنفسهم بأنهم إرهاص النبوة : "نحن الكهان، أفراس
رهان. منّا السابق المصلى، ومنّا الآبق المولى. كنّا إرهاصًا للنبوة،
ودليلاً للضعف إلى القوةّ". فبدلاً من أن نقول الكاهن يشبه النبي، من
الأحرى القول : النبي في أصله كاهن: روحه روح كاهن وخاصة في التنبؤ بما
عند الآلهة. وكما يروي الألوسي عن المحكم : " الكاهن هو : القاضي
بالغيب…والعرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهناً" (الألوسي: 1/269).
وهذا يرجع بسبب أنّ الكاهن كانوا يرون فيه : "قوة خارقة وقابلية لتلقي
الوحي، من تلك القوة التي يتصورونها على هيئة شخص غير منظور، يلقي إلى
الكاهن الوحي، فينطق بما يناسب المقام، وبما يكون جواباً على الأسئلة التي
توجه إليه(22)". طبعاً هذا ليس غريباً في المجتمعات البدائية أن تُنسب
للكاهن والنبي وسيد القبيلة والشاعر (الأبطال الحضاريين)، صفات خارقة
تختلف عن البشر العاديين في اتصالهم بالعالم الماورائي، فمن دون هذا
البريستيج الخرافي بارتباط الكاهن والنبي بتلك الأرواح، لن يحتلا تلك
المكانة وسط مخيلة الجمهور من الناس. عند هذه النقطة يمكن القول : إن حقلي
الكهانة والنبوة يدينان إلى عالم الجنّ، وخاصة في الاستعانة بهم من أجل
الحصول على الأخبار، وذلك أثناء القيام بـ التكهن/ التنبؤ. وإذا قيل إن
النبوة أسمى من الكهانة، فهي على أقل تقدير امتداد لها : "وبالنظر إلى
تصور النبوة على أنها امتداد للكهانة وأنها حالة أسمى أياً كانت درجة
كمالها، كان من الطبيعي أن تحافظ بعض أفكار وطرائق الكهانة على مكانتها
داخل الجماعة الإسلامية الضيقة. ولهذا فإن دور الوسطاء: ملائكة، شياطين،
جن، ظل غالباً على مفهوم الوحي… (23)".
- في بعض نقاط التماثل بين الكهّان ومحمد أثناء تلقي الوحي:
أول شيء يشترط بالكاهن هو: "الطهارة"، لأن للكهانة "سببا نفسانيا لطيفا
يتولّد من صفاء مزاج الطباع وقوة النفس ولطافة الحسّ(24)". طبعاً إن
الطهارة المقصودة ليست بالمعنى الإسلامي التقليدي (الوضوء أو غسل
الجنابة)، وإنما التخلص من كل ما يتنافى مع أفكار الربّ الذي يوكل رسله
بالوحي إلى الأشخاص المعنيين. لذلك لا بدّ لأمية بن أبي الصلت (الشاعر
الحنيفي الثقفي) ومحمد، أن يطهرا قلبيهما قبل استقبالهما أي شيء من
الأرواح الخفية. وحتى موسى النبي، كان عليه خلع حذائه النجس حينما كشف
الرب عن هويته له وبدأ وحيه معه، أثناء دخول موسى الأرض المقدسة. نقرأ في
الإصحاح الثالث [الخروج 3: إصحاح3]: «لا تقترب إلى ها هنا. اخلع حذائك من
رجليك، لأنّ الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة…أنا الله إله إبراهيم
وإله إسحق وإله يعقوب». طبعاً هذه الآيات اقتبسها محمد ولكن بصيغة ثانية،
نقرأ في القرآن كذلك: «إني أنا ربك فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى»
[سورة طه: 12]. لذلك وكما أنّ محمداً قد أخرج قلبه وغسل بواسطة الملائكة
من أجل أن يتهيأ للوحي، كانت ثمة على ما يبدو محاولة من طائرين (ملائكة)
لتطهير قلب أمية بن أبي الصلت : "فأقبل الطائران حتى وقع أحدهما على بطنه
فنقر صدره .. ثم شق قلبه، فقال الطائر الأعلى: أوعي (؟)، قال: وعي، قال:
أقبل، قال: أبى، قال: فردّه ثم طار، فاتبعهما أمية ببصره، فقال: «لبيكما
لبيكما ها أنا ذا لديكما لا بريء فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر». فأقبل
الطائر فوقع على صدره فنقر صدره نقرة شقته ثم أخرج قلبه، فقال: الطائر
الأعلى: أوعى، قال: وعى، قال: أقبل، قال: أبى، فرده ثم طار، فاتبعهما أمية
ببصره، فقال:
لبيكما لبيكما … ها أنا ذا لديكما…. (25)".
ربما يذكرنا شقّ صدر أمية بما حدث لمحمد عندما كان طفلاً حينما أخرجت الطيور حظّ الشيطان منه (وفي رواية
"مغمز الشيطان") كما تقرّر الأسطورة الإسلامية. إلا أنه كما يفهم من هذه
الأساطير أنّ محمداً قد تعرّض أيضاً لحادثة شقّ صدر أو بطن أخرى. فمن
المحتمل أنّه لم يتطهر قلبه بحادثة شقّ صدره الأولى من شكّ أو شرك
الجاهلية كما يروي الطبري: "فأتاه ملكان : جبرائيل وميكائيل، فقالا: بأيهم
أمرنا؟ فقالا: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا ثم جاءا من القبلة، وهم ثلاثة،
فألفوه وهو نائم، فقلبوه لظهره، وشقّوا بطنه، ثم جاؤوا بماء زمزم، فغسلوا
ما كان في بطنه من شكّ أو شرك أو جاهلية أو ضلالة، ثم جاءوا بطست من ذهب،
ملئ إيماناً وحكمة، فملئ بطنه وجوفه إيماناً وحكمة ثم عرج به إلى السماء
الدنيا… (26)"! ويبدو أن تطهير موسى ومحمد وآخرون ضروري جداً قبل أن
يمنحهم الرب رسالته. وهكذا كان على جبريل أن ينزع من محمد عندما كان شاباً
ما علق به من أنجاس الجاهلية كما رأينا عند الطبري، لأنه سيُعرج به إلى
السماء، وهناك سيلتقي وجهاً لوجه مع الرب وسيمنحه رسالة عند سدرة المنتهى
«فأوحى إلى عبده ما أوحى» [النجم: 10]، من فرض الصلوات وغيرها من الأوامر
الإلهية. طبعاً لقد كرّر الربّ هذه التجربة مع موسى كما رأينا في الوادي
المقدس، حيث أمره هناك أن يخلع نعليه النجسين، لكي يسلمه أيضاً ألواحه
الشرائعية. إذن إن فكرة المعراج كما يشير "يوسف شلحد" قديمة في أديان
الشرق، لذلك نلاحظ كما يشير ويندنغرين Windengrn الذي: "يشدد على المؤثرات
المانوية والعرفانية(في الإسلام)، أن المعراج الإسلامي يحافظ على السمات
الأساسية للعقيدة الملكية في الشرق الأدنى القديم. وعليه فإن محمداً: لم
يقم بغير تكرار أسطورة كلاسيكية(27).
لم يرو عن كهنة عرب أنهم
صعدوا إلى السماء لكي يتلقوا الوحي مباشرة من الرب كما حدث مع محمد. إلا
أنه لا بدّ أن ندرك أن محمداً بهذا المخيال الأسطوري كان يحاول تثبيت قدمه
في تقليد أساطير الأنبياء القديمة. وهذه ضرورة ملحة جداً في الخروج على
التقليد الكهاني، لكي يتميز عنهم. لكن وبالرغم من ذلك لم يستطع الخروج
نهائياً من زمرتهم. لماذا؟ لأنه بدون أدواتهم السحرية، لن يستطيع استنطاق
الأرواح بما تحمله من رسائل الربّ. سأوضح هذه النقطة أكثر بمثالين اثنين
فقط لضيق السياق:
الأول: يروى أن الكاهن حينما يتلقى الوحي كانت تصيبه أعراض غيبوبة جراء
قوة الوحي أو الآلهة أو الأرواح…الخ وهذا ما أكده جواد علي في حديثه عن
أوابد العرب "ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في
الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كلّ
إنسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب
العرق منه. خاصة اذا كان المتكلم الكاهن نفسه(28)" (وهذا بسبب ما ذهب إليه
ابن خلدون في اشتراك الكاهن مع النبي في الانسلاخ من البشرية). وفي الواقع
ثمة روايات كثيرة تشير إلى أن هذه الحالات أو النوبات كانت تعترض محمداً
أثناء الوحي، وخاصة ذهاب عقله كما عند الكهّان: "لما تواقف الناس أغمي على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سرّي عنه فبشّر الناسَ بجبريل في
جند من الملائكة… (29)". وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله (ص) إذ انزل
عليه الوحي يكاد يغشى عليه(30)» ولم يقتصر الأمر عند محمد على هذا، بل روى
ابن سعد بأن هيئته تصبح "كهيئة السكران(31)". وربما نتذكر في هذا السياق
حكاية طريفة يذكرها "هيغل" تتماثل مع نوبات مثل هؤلاء الناس الذين يصابون
بها أثناء دفق الوحي عليهم:
"تروى حكاية عن مرتجل فقير، أطال في الارتجال، ثم بدأ بالطواف على
السامعين ليرموا إليه ببعض القروش… ولكنه ما استطاع، وهو ما يزال مأخوذاً
بدفق الوحي والإلهام أن يمسك عن الإلقاء.. وعن الاهتزازات يمنة ويسرة، حتى
تعثّر وسقط على الأرض…(32)".
المثال الثاني: من بين الأدوات الرئيسية للتكهن أو التنبؤ أن يغطي الكاهن
والنبي رأسه (يروى أن موسى كان كذلك أيضاً) ويتدثر عن أعين الآخرين. يذكر
البخاري عن الكاهن "صاف بن صياد" أن محمداً مرةً، أتى لعنده خلسة في يثرب،
وكان في تلك الأثناء في حالة من التكهن يتقي بجذوع النخل "وابن صياد في
قطيفة له فيها رمرمة (صوت خفي)"، وإذ بأمّ ابن صياد تنتبه لمحمد، فنادت
ابنها على الفور: "يا صاف هذا محمد!". عندئذ قال لها محمد: "لو تركتِه
بيّن(33)". يعلّق ابن حجر العسقلاني على حديث البخاري هذا : "أي لو لم
تعلمه أمّه بمجيئنا لتمادى على ما كان فيه، فسمعنا ما يستكشف (يتكهن) به
من أمر". حتى طليحة ابن خويلد الأسدي الذي كان يتنبأ أيضاً بواسطة جبريل
محمد، ثم اتهمه المسلمون بأنه كذاب! كان حينما يتنبأ لقومه باليمن يغطي
رأسه ويسألونه هل جاءك جبريل: "حُدّثت أن الناس لما اقتتلوا، قاتل عيينة
مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة قتالا شديداً، وطليحة متلفف في كساء له
بفناء بيت له من شعر، يتنبأ لهم… (ثم يسألونه) هل جاءك جبريل؟…(34)".
طبعاً محمد استخدم وسيلة الكهان تلك في تغطية رأسه أثناء التكهن (أو
التنبؤ). ونحن نتذكر حينما بدأت معه هذه الحالات، هرولَته إلى خديجة
ومناداته: "زملوني زملوني… دثروني دثّروني". وبالرغم من هذه البداية
الكهانية في مكة، إلا أنه كما ذكرنا : من دون هذه الأدوات، فالسماء لن
تتكلم معه. لذلك من الضروري أن تستمر أثناء عهد يثرب، ولو ابتعد قليلاً عن
منابع النبوة والكهانة: "إني أحب أن أرى النبي (ص ) إذا نزل عليه الوحي،
فلما كنا بالجعرانة، أُنزل عليه الوحي، فسجى ثوباً فدعاني عمر فكشف لي
الثوب عن وجهه، فرأيناه يغط محمرّاً وجهه.. (35)".
وفي الواقع، تبقى هذه الحالة في تغطية محمد والكهان لرؤوسهم غير مفهومة
تماماً، ولا يمكن أن نعطي لها جواباً يقينياً. من المحتمل كما يشير جواد
علي بأنه يلزم الكاهن أثناء التنبؤ مكان هادئ تكتنفه ظلمة: «لأن للهدوء
والظلام أثراً عظيماً في النفوس» ( المفصل: ج6/ ص761). لذلك لا نستغرب أن
وحي محمد قد حدث معظمه -كما يشير نولدكه- في الليل، حيث تكون النفس: "أكثر
قابلية لاستقبال التخيلات والانطباعات النفسية عما هي عليه في وضح النهار"
(تاريخ القرآن 25). إضافة إلى هذا، لا بد أن نعلم أن الكاهن والنبي لا
يرغبان لأتباعهما رؤية ما يقومان به. يكتفي واحدهم فقط بالقول : نزل علي
الوحي! أما ما الذي يجري تحت الثوب أو الدثار، فهذا من علم الغيب وطلاسم
الأنبياء والكهان. لذلك كانت هذه الحالات الغريبة تثير الفضول عند صحابة
محمد. يريدون أن يعرفوا: ما الذي يجري تحت الثوب! إلا أن هذا كان ممنوعاً
عليهم على ما يبدو. يروى أن عمر كان يغطي محمداً مرة، فقال أحد الصحابة:
"إني أحب إذا نزل عليه الوحي، أن أدخل رأسي معه في الثوب". وفعلاً تحققت
أمنية هذا الصحابي الفضولي، وسنحت له الفرصة بأن أدخل رأسه في ثوب
محمد!(36).
- الدور المحوري لخديجة في إبعاد "صفة الشيطان" عن وحي محمد:
كما سبق أن رأينا، لقد شك محمد في نفسه بداية أن يكون مجنوناً، أي الذي
يأتيه رئيّ من الجنّ، وبالتالي كان معه الحق أن يظنّ نفسه كاهناً. وفي
الواقع، لولا خديجة بمعارفها المسيحية بالتعاون مع ورقة بن نوفل وعداس
النينوي، لاستمرّ محمد في ظنّه أنه ليس سوى كاهن يأتيه الجنّ. لا بل لأخذت
مسيرة الإسلام أو دين محمد لولا خديجة، منحى آخر غير الذي عليه الآن.
تأمر خديجة محمداً في امتحانها للأرواح التي ظهرت لمحمد : أن يجلس في
حجرها. وفعلاً هذا ما استجاب له محمد، حيث جلس في حجرها. وكما دار
الامتحان لشيطان محمد : «قم يا ابن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام
رسول الله (ص) فجلس عليها قالت: هل تراه، قال: نعم. قالت: فتحوّل فاقعد
على فخذي اليمنى، قال: فتحوّل رسول الله (ص) فقعد على فخذها اليمنى.
فقالت: هل تراه قال: نعم قالت: فتحوّل فاجلس في حجري فتحوّل فجلس في
حجرها. ثم قالت: هل تراه قال: نعم قال فتحسّرت فألقت خمارها ورسول الله
(ص) جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه، قال: لا. قالت يا ابن عم اثبت وأبشر
فوالله انه لملَك، ما هذا بشيطان(37)».
سيذكّرنا امتحان خديجة ذلك لشيطان محمد بامتحانات أخرى كانت تجري للكهّان
أيضاً لاختبار صدقهم فيما يتكهنون به، من قبيل امتحان عتبة بن ربيعة
لكاهنٍ باليمن ليقضي ببراءة ابنته التي اتهمها زوجها الفاكه بن المغيرة
بممارسة الجنس مع غيره. فحينما خاطبت أباها تصف الكاهن: "أعرف أنكم تأتون
بشراً يخطئ ويصيب ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون على سبةً " فردّ عليها
عتبة: "إني سوف أختبره لك، فصفر لفرسه حتى أدلى ثم أدخل في إحليله حبّة
حنطة وأوكأ عليها بسير…(38)" إلى آخر القصة. وكذا أيضاً امتحان عبد المطلب
للكاهن "ربيعة بن حذار" حينما اختصم مع بني كلاب وبني رباب على مال في
الطائف، وذلك قبل الحكم الذي أصدره الكاهن ربيعة لصالح عبد المطلب : «فقال
ربيعة : والغسق والشفق، والخلق المتفق، ما لبني كلاب وبني رباب من حق،
فانصرفْ يا عبد المطلب على الصواب، ولك فصل الخطاب (نفس المصدر: ج3
ص127-128)».
ثمة روايات كثيرة في هذا السياق تفيد أن تحديد هوية هذه الأرواح من قبل
خديجة لمحمد لم تكن لأن تتم عن طريقها، لولا "عداس"، أو ورقة بن نوفل الذي
ذكر عنه أنه هو من كان صاحب الفكرة العبقرية هذه في أمر خديجة أن تكشف عن
رأسها أمام وحي محمد لتختبره. يروى أن: " ذلك من خديجة، كان بإرشاد من
ورقة. فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه،
فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه : أي فتراءى له وهو في بيت خديجة
ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه
ليأتيه الناموس الأكبر(39)". والذي يبدو أن خديجة لم تكن مكتفية بورقة بن
نوفل، ابن عمها المسيحي. لذلك نجدها قد أخذت بيد محمد إلى راهب مسيحي آخر،
هو عداس النينوي. فهنا يمنحها عدّاس كتاباً، والأرجح أنه كان يهدف من هذا
لكي تتعلم وتقرأ منه عن الوحي أو عن هذه الحالات التي كانت تصيب محمداً.
يخاطب عداس خديجة بخصوص شيطان محمد: "يا خديجة إنّ الشيطان ربما عرض للعبد
فأراه أموراً، فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك، فإن كان مجنوناً فإنه
سيذهب عنه، وإن كان من الله فلن يضره، فانطلقت بالكتاب معها (نفس المصدر:
ج1 ص326)".
وحتى ابن أبي قحافة، أبي بكر، رقيب محمد المقرّب، الذي سيغدو خليفته
الأول، لم يكن غائباً عن خشبة المسرح الوحيية. نجده في هذه الأوقات
الباكرة، كان أيضاً منخرطاً في هذه اللعبة، في أخذ محمد للقساوسة (خاصة
ورقة/ نفس المصدر ج1 ص321). هل هذا من أجل أن يكون له نصيب من الكعكة
لاحقاً؟ ربما. ومهما يكن من أمر، لقد كان لأبي بكر في الواقع فضائل كثيرة
على محمد في انطلاقته، فهو صديقه من سنين عديدة. حيث يروى أنه كان يسافر
مع محمد إلى الشام عندما كان عمره عشرين سنة! (40). لذلك ليس من المستغرب
أن نراه مشاركاً في طبخة الوحي هذه مع خديجة المسيحية، وورقة القس،
والراهب عداس النينوي.
ما هو مصير محمد بدون خديجة؟ في محاولتها إزالة شكوك محمد عن شيطانه؟ في
أخذه إلى القساوسة؟ في تجارتها ومالها لكي يتفرغ محمد أكثر لأموره
اللاهوتية؟ الخ. في الواقع، لم ينكر محمد أفضال خديجة عليه وهو في يثرب،
وبقي يحبها حتى آخر رمق من حياته. وهو الذي يقول: "لقد رزقت حبها". طبعاً
هذا شيء طبيعي، وخاصة أنها هي التي رشحته إلى هذا المقام وحاولت (؟)
إبعاده عن طبقة الكهان حينما شك في نفسه الكهانة (إلا أنه كما أدركنا
سابقاً، بقي يستخدم أدوات الكهانة في فعل التكهن/ التنبؤ)، لا وبل أعلنت
-ولا نعلم كيف اكتسبت هذا التنبؤ!- وقالت له:
"فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة(41)"!
وفعلاً، لقد تحققت أحلامها هذه: لقد غدا محمد كما أرادتْ خديجة، نبيّ هذه الأمة!.
الأحد يوليو 19, 2015 10:46 am من طرف عمرون محمود