02:10 "
مصر الثورة " استقبلت بارتياح أحكاماً بإدانة بعض رموز النظام السابق
لكنها غضبت واحتجت على أحكام ببراءة آخرين منهم. العدالة التي أدانت هي
نفسها التي برأت، فهل نثق في العدالة عندما تأتي الأحكام موافقة للهوى
العام، ثم نعترض عليها عندما تكون الأحكام ضد هذا الهوى ؟. العدالة لا يجب
أبدا أن تكون وفق مزاج المجتمع ، أو حسب ما يطلبه المواطنون، أو أن تخضع
للضغوط والتجييش بالمظاهرات والعدائيات وكل أشكال الاحتجاج في " مصر
الثورة ".
وعلى المجتمع وأصحاب الحقوق إدراك أن صدور حكم لا يعني
أنه صار باتا ونهائيا إلا إذا استنفذ كل درجات التقاضي، والقضاء الطبيعي
له درجات لضمان نزاهة الحكم وعدالته، وحتى في القضاء العسكري تم استحداث
محكمة استئناف لمراجعة الحكم الابتدائي الذي كان في السابق يعد نهائياً،
والهدف أيضا هو ضمان تحقيق العدالة. بالتالي لو كان الحكم قد شابهه الخطأً
فهناك درجات تقاضٍ أخرى لتصحيحه، ولذلك لا داعي للغضب المنفلت، رغم تفهمنا
لنوازع الغضب العام، فالمجتمع معبأ ضد النظام السابق ورموزه لفسادهم
المالي والسياسي، ومعبأ ضد قتلة شهداء الثورة.
مع ذلك فإن العدالة
المطلقة على الأرض يصعب تحققها، العدالة المطلقة في السماء فقط ، هناك
أحكام نهائية تصدر بالإدانة أو البراءة على غير الواقع، وإذا استبعدنا
مسألة فساد القاضي، فإن هذا القاضي يحكم بموجب أوراق القضية التي أمامه،
ويلعب المحامون " الحواة " على الثغرات القانونية والإجرائية فتصدر أحكام
أحيانا نزيهة في الشكل لكنها فاسدة في المضمون.
في يومين متتاليين
صدر حكمان أثارا ردود أفعال عنيفة وصلت حد قطع الطرقات وإشعال الإطارات ،
وهذا أسلوب مرفوض ، وللأسف أصبح الاعتراض العنيف الآن هو سلوك أي فرد أو
جماعة لا يعجبها قرار أو إجراء أو حكم قضائي أو أي شيء ، فتلجأ للترهيب
لتحصل على ما تريد، وهذا ضد " مصر الثورة " التي يفترض أنها تعمل على
تأسيس أوضاع جديدة تتلافى كل سلبيات الماضي، فإذا بنا نجد أن هناك سلوكيات
تنبت وتترعرع لا علاقة لها بثورة عظيمة يفترض أن تبني إنسانا وبلدا جديدين
على قواعد راقية .
لم يكن أحد يجرؤ على الاحتجاج بهذا الشكل الصاخب
والمخرب أحيانا على أحكام قضائية في ظل النظام السابق، فهل مناخ الحرية
يمكن أن يتحول إلى فوضى ولا مسؤولية؟، وهل الانفلات صار هو القاعدة لدرجة
أن من يريد فعل شيء حتى لو كان غير شرعي فإنه يفعله مهدرًا النظام العام
والقانون وأخلاقيات الثورة ؟ وهل من يريد أن يحصل على حقه لا يكون ذلك إلا
بالصخب واللجوء للقوة ؟. وصل الأمر أن المحاكم تحاصر حتى بأهالي المتهمين
الجنائيين من تجار المخدرات والقتلة ، وإذا صدر الحكم بالإدانة فإنهم
يمارسون العنف ،وهذا يؤثر على القضاة الذين لا يجدون مناخاً ملائماً للعمل
دون ضغوط أو قلق على أرواحهم واستقلاليتهم، وعمليات اقتحام أقسام الشرطة
وأقفاص المحاكم والسجون وسيارات الترحيلات لتهريب مجرمين مدانين أو متهمين
يحاكمون مستمرة، وهذا يضاعف من الانفلات وفوضى الأمن التي تقض مضاجع
المواطنين وتقلق الخارج ويقدم صورة مؤسفة عن " مصر الثورة "، ويجعل فلول
النظام السابق في غاية السعادة .
هناك محكمة أفرجت عن سبعة ضباط
ممن يحاكمون بتهمة قتل المتظاهرين في السويس، وفي اليوم التالي قضت محكمة
أخرى ببراءة ثلاثة وزراء وعدد من رجال الأعمال يحاكمون بتهم إهدار المال
العام ونفس المحكمة أدانت وزيراً آخر ورجل أعمال.
والسؤال : هل "
مصر الثورة " مع إدانة أي متهم من النظام السابق حتى لو كان لا يستحق
الإدانة ؟. لو تم اعتماد هذا الأسلوب في المحاكمات فان القضاء سيكون مسيسا
وموجها وكأننا لم نقم بثورة ترسي دولة القانون وتكرس العدالة العمياء. ومن
يضمن ألا يدان بهذا الأسلوب من هم من رموز "مصر الثورة " أيضا طالما أن
العدالة هدفها إرضاء الرأي العام وأصحاب الدعاوى؟. دخلت الثورة الفرنسية
هذا النفق المظلم عندما حاكمت وقتلت الملك والملكة ورموز عهدهما سريعا، ثم
استدارت لتصفية رجالها بذات الأسلوب فكانت كارثة على الثورة استمرت سنوات
من العدالة الجائرة.
لا أناقش الحكمين، فالمؤكد أن القاضي استند
على نصوص القانون، وعلى الأوراق التي أمامه، واتخذ قراره، وهو ليس قاضيا
واحدا، بل ثلاثة، أي لو ضل واحد يصعب أن يضل الآخران، أو على الأقل سيكون
من بينهم واحد لم يضل الطريق وينبه زملاءه، وحتى لو ضل الثلاثة، فان هناك
إجراءات قانونية للطعن على الحكم ،وهو ما فعله النائب العام فورا .
العدالة
الصارمة الناجزة هي طريقنا لتحقيق جانب من أهداف الثورة في تكريس دولة
القانون، وهي طريقنا لاستعادة ثقة العالم في استقلالية قضائنا، وهذا سيسهل
تسليم الهاربين واسترداد الأموال ، فإذا وثقت دول العالم في أن أحكام
الإدانة نزيهة، فستحترمها وتنفذها، وإذا حصل العكس فسيكون ذلك مدعاة لعدم
التعاون معنا، وفقدان الثقة في محاكمات رموز النظام السابق. كثير من
الأحكام التي صدرت عن محاكم عسكرية خلال النظام السابق لم يعتمدها الخارج
ورفض تسليم المحكومين وهم مدانون في قضايا توصف بالإرهاب ،وهناك أحكام
صادرة عن القضاء الطبيعي بخصوص لصوص المال العام وناهبي البنوك لم يتجاوب
معها العالم أيضا لشكوكه في استقلالية القضاء.
الموجودون في السجن
من رموز النظام السابق مدانون لدى محكمة الرأي العام ،لكن محكمة العدالة
لا تخضع للعواطف ، أو الاتهامات غير الثابتة بالأدلة القاطعة ، وقد يتم
تبرئة آخرين منهم، والمشكلة أن يكون قد تم إعداد القضايا الخاصة بهم على
عجل دون أن تكون مستوفاة فيفلتون بمهارة المحامين، أو لا تكون الدوائر
التي تحاكمهم غير متفرغة لهم فلا تستوفي جيدا نظر القضايا فتأتي الأحكام
على غير التوقع وصادمة ، أو يكون هناك تضخيم إعلامي في الاتهامات خصوصاً
من الإعلام الرسمي الذي تحول بشكل مدهش من تقديس مبارك ورجاله إلى شيطنتهم
ورجمهم بالاتهامات ،أو تكون المسألة غير جدية بالقدر الكافي من جانب
النظام الانتقالي وما يتم إنما هدفه إرضاء الرأي العام الثائر وامتصاص
غضبه .نريد جدية وشفافية وعدم بطء في تلك المحاكمات، وفي نفس الوقت لا
نريد عدالة حسب الطلب، نريد عدالة من أجل العدالة.