الآن وقد مر الاستفتاء على مشروع الدستور الذي حصد نتيجة فاقت كل
التوقعات. نتيجة تطرح أكثر من علامة استفهام خصوصا فيما يتعلق بدلاتها
السياسية التي لا يمكن أن تطمئن المتطلع لبناء الديمقراطية الذي يعرف
بالضرورة أن منطقها يناقض منطق الإجماع. كثيرة هي التعليقات والقراءات
التي يمكن القيام بها بخصوص مختلف الأرقام ومعانيها السياسية وكذا القضايا
المرتبطة بالوثيقة الدستورية التي يمكن تناولها بالدرس والتحليل من زوايا
متنوعة.
خارج
منطق أولوية القضايا التي يمكن تناولها، سأتطرق إلى موضوع أثارني بشكل خاص
هذه الأيام، ألا وهو التعامل مع حركة 20فبراير، خصوصا من طرف بعض الفاعلين
السياسيين، سواء في الحكومة أو خارجها والذي تم التعبير عنه في موجة
الاحتفال ب 98% التي حظي بها التصويت ب "نعم". إنه
الأمر الذي يذكر بردود الأفعال التي تم التعبير عنها عند بداية الحراك
الفبرايري والتي لوحظ أن بعض الأطراف سعت جاهدة إلى إنكار أهميته وأهمية
الدعوة التي وجهها عدد من الشباب للتظاهر بالشوارع يوم 20 فبراير، بل
والحرص على التشويش عليها باستعمال وسائل متنوعة، أكثرها دناءة في اعتقادي
هو المس بأعراض البعض من هؤلاء الشباب دونما أدنى احترام للكرامة المتأصلة
فيهم مثلهم مثل كل البشر. اعتبر بروز الحركة في البداية من طرف البعض غير
مبرر، مادامت هناك فعاليات مدنية وسياسية ظلت حاضرة في الساحة النضالية
ومطالبة بعدد من الإصلاحات، بما فيها الإصلاح الدستوري. أدى الاحتياط من
دعوة الشباب إلى التظاهر إلى رفض البعض تلبيتها بمبرر أن الداعين لها هم
أساسا أحد فصائل اليسار المتطرف وجماعة العدل والإحسان. كل هذا الاحتراز
والتشويش لم ينجح في صد المواطنين والمواطنات من الخروج يوم 20فبراير
والتظاهر إلى جانب الشباب الداعي إليها. عدد مهم من المناضلين والمناضلات
من مواقع ومن مستويات مختلفة وحتى قياديي بعض مكونات اليسار (الحكومي وغير
الحكومي) ممن ظلوا يقظين وغير راضين على الوجهة التي اتخذتها بلادنا،
نزلوا للتظاهر جنبا إلى جنب الشباب غير عابئين بالمواقف الرسمية لأحزابهم.
وحدتهم في اعتقادي قضية جوهرية، ألا وهي التعبير عن استياءهم من الجو
السياسي العام الذي ساد بلادنا منذ ما يناهز السبع أو ثمان سنوات الأخيرة.
غير مستبعد كذلك أن مناهضة الفساد شكلت جوهر انتفاضهم وحملهم على
انتهاز فرصة سمح بولادتها شباب مغاربة رغبوا في ألا يشكل المغرب استثناء
في خارطة احتجاجات الشباب الذي أسس لما أصبح يسمى بربيع الديمقراطية في
العالم العربي. وكيف للمغاربة ذلك وهم من بين الشعوب العربية التي يزخر
تاريخها المعاصر بتقاليد الاحتجاج والتظاهر كأحد آليات التعبير المنخرط في
سياق الاعتراف بالحريات العامة. تقاليد لا يخامر أحد الشك في أن القوى
السياسية المحسوبة على الصف الديمقراطي كانت راعيتها والمبادرة إليها طيلة
عقود.
كان للدينامية التي أطلقها الشباب أثر الصعقة على أكثر من حزب
سياسي، حيث تحولت المجالس الوطنية التي تم عقدها في هذا السياق إلى
مناسبات للاحتجاجات الداخلية على قيادات، منها من شاخن بيولوجيا وفكريا،
ومنها من لم تعد له أية قيمة مضافة ومنها من تسمر في مكانه منتظرا دورة
الريع السياسي الذي لم يصله منه بعد إلا النزر اليسير ومنها من أصبح يعتبر
أن مهمته تكمن في مباركة كل المبادرات الآتية من الأعلى دونما أدنى رغبة
للتعبير عن الحد الأدنى المفروض في التفاعل السياسي بين مختلف مكونات
الساحة السياسية وما تستلزمه من التباري والتدافع الهادف إلى إبراز إسهام
كل طرف على حدة.
في إطار الموجة العارمة التي
استطاعت أن تسقط ديكتاتوريات عربية عمرت طويلا (تونس ومصر)، وفي ظل اتساع
غضب الشارع العربي الذي مس دولا كان الاعتقاد السائد عنها هو استحالة نهوض
شعوبها بالنظر لقدرتها، بما امتلكته من جبروت، على زرع الخوف في مواطنيها
بالشكل الذي أصبح جزءا من طبيعتهم، اتخذت الدولة المغربية قرارا ذي أهمية
تمثل في إطلاق عملية الإصلاح الدستوري الذي تم الإعلان عنه في الخطاب
الملكي للتاسع من مارس.
كل الأحداث والمبادرات وردود الفعل
المختلفة التي تواكبت فيما بعد نعرف تفاصيلها. ما أود الإشارة إليه هو
عودة أصوات عدد من القياديين السياسيين الذين لزموا الصمت بعد الخطاب
الملكي، الذي يمكن أن نتصور الحرج الذي أصابهم من جراءه. بمجرد ما اطمأن
هؤلاء إلى عودة المياه إلى مجاريها وإلى قدرة التيار المضاد للإصلاح على
مقاومة رياح التغيير حتى خرجوا من ترددهم ليبدأ مسلسل التنكيل بالشباب
الذي كان له الفضل في تحريك البركة الآسنة.
إن المثير للانتباه
هو أن عددا من ممارسات بعض الجهات النافذة في الدولة، والطريقة التي تم
عبرها تدبير حملة الاستفتاء لا تطمئن، وهذا بغض النظر عن اعتبار وثيقة
الدستور التي تم التصويت عليها يوم الفاتح من يوليوز تشكل خطوة متقدمة عن
الدستور السابق. ولعل هذا التخوف هو الذي يجعل كل المتتبعين يؤكدون اليوم
على أن أكبر تحدي يواجه بلدنا هو المتعلق بتفعيل النص، المرتبط بدوره
بموازين القوة والمرتبط كذلك بالمناخ العام الذي لا تبدو في الأفق إمكانية
تجاوز ما يحبل به من معيقات فاحت رائحتها طيلة هذه المدة الأخيرة. في ظل
الشلل السياسي والتنظيمي الذي تعاني منه عدد من الأحزاب، خصوصا تلك التي
حظيت في الماضي بشرعية شعبية لا ريب فيها مطالبون بالتزام الحذر على الأقل
فيما يخص هذه الشرعية التي بدونها لا يبقى للسياسة معنى ولا يمكنهم بتاتا
أن يؤثروا بما يكفي في ميزان القوة نظرا لضعفهم وتآكلهم بل وحتى فقدان
مصداقيتهم التي يمكن المجازفة بالقول أن دينامية 20 فبراير شكلت فرصة لهم
لاستعادتها. تصريحات عدد من القادة السياسيين ضد شباب 20 فبراير يشكل في
عمقه استهانة بما أطلقوه من حراك كنا في حاجة ماسة إليه ولازلنا. إن
التحلي برحابة الصدر وقبول الموقف المعارض للدستور من طرف جزء من شباب 20
فبراير لا يضر في شيء القوى السياسية التي دعت للتصويت بنعم. بل إن الهامش
الذي منح للمغرب إمكانية القيام بالإصلاح الدستوري يعود الفضل فيه أساسا
لحركية الشباب، الشيء الذي يستدعي تقدير المبادرة بدل السعي وراء تهميشها
واعتبارها دون أهمية بمبرر احتواءها من طرف قوى متطرفة. فمهما كان المبرر،
ومادام التعبير ظل سلميا، يتوجب التقاط أهمية ما عشناه بفضل هؤلاء الشباب
والتفكير في استشراف ما بعد هذا الحراك، بدءا من القيام بنقد ذاتي للفراغ
الذي ترك للمتطرفين من كل الاتجاهات وترك الشباب يقتات مما توفر له. إنها
الخطوة الأولى في سبيل الاتجاه نحو الشباب وبلورة إستراتيجية تنظيمية
ومشروع سياسي يمكن من استنهاض الطاقات الضرورية لكي يتم تفعيل النص
الدستوري بالحفاظ على روحه وتجنيب المغرب السقوط في الهاوية التي يبدوا
واضحا أن لوبيات الفساد قد دشنت، مع حملة الاستفتاء، لدفعنا إليها.
إن
المغرب محتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تعود القوى السياسية
الديمقراطية إلى جادة الصواب لاستخلاص العبر مما عشناه مؤخرا بفضل شباب 20
فبراير بدل التقليص من أهمية ما قاموا به وهو على كل حال ما سيسجله
التاريخ لصالحهم. تبدأ الخطوة الأولى بتنقية الأجواء الداخلية ودعوة
الشباب للمشاركة الفعالة وغير المشروطة بالانخراط. فالمساهمة اليوم يمكن
أن تتخذ أشكالا متنوعة يمكن لهؤلاء الشباب أنفسهم أن يقترحونها.