كانت
مساهمة داروين في تطوّر علم الحياة أكثر من مهمّة، فقد كان لها في حينها
وقع الرجّة، ليس على مستوى البيولوجيا فقط وإنما أيضا على مستوى الفكر
البشري برمّته. صحيح أنّ الإشارة إلى تطوّر الأنواع سابق على داروين بقرون
عديدة، فعلى سبيل الذكر نجد لدى أنكسمندر وديمقريطس وإخوان الصفا ومسكويه
حديثا عن ذلك، بل إشارات واضحة إلى انحدار الإنسان من القرد.
ساد الاعتقاد في الأساطير المصرية أنّ الإنسان قد نشأ من دموع الإله
راع وأنّ الإله خنوم خلق الناس من الطين، ولا تختلف الأساطير السومرية عن
ذلك كثيرا، وشقّت تلك الاعتقادات طريقها بهذا القدر أو ذاك إلى النصوص
الدينية التوحيدية اللاحقة. وما جاء به داروين، إنّما هو الارتقاء
بالإشارات الفلسفية حول أصل الإنسان إلى مستوى النظرية العلمية من خلال
نحت مفاهيم وقوانين جديدة في علم الحياة، وذلك في قطيعة مع التصورات
الأسطورية والدينية الرائجة. وتعبّر كلمات داروين التالية عن عمق تلك
القطيعة رغم أنّ صاحبها كثيرا ما نأى بنفسه عن الخوض فيما هو دينيّ، لقد
كتب يقول : " إنّ القول بلانهائية الإرادة الربانية يدفع بوعينا بعيدا عن
الحقيقة، وإلاّ فما هي الحكمة ممّا يتهيّأ لنا رؤيته من معاناة ملايين
المخلوقات متدنّية التطوّر على مدى زمان لامتناه تقريبا" نقلا عن ميدنيكوف
، داروينية القرن.
ولا نريد هنا الوقوف على كلّ ما يتصل بالمساهمة الداروينية، وإنّما
نروم الخوض في العلاقة بين قامتين علميتين معاصرتين لبعضهما البعض، وكانت
بينهما وشائج قربى كبيرة، وصلت ربّما إلى تبادل الرسائل فيما بينهما،
ونعني ماركس وداروين، ومن ثمّة محاولة الإحاطة بالعلاقة بين الداروينية
والماركسية .
كان ماركس وأنجلس مهتمّين بتطوّر علوم عصرهما، وعندما نشر كتاب داروين
أصل الأنواع سنة 1859 استقبلاه بحفاوة بالغة، ووجدا فيه بمعنى ما يؤكّد
المادية الدياكتيكية التي كانا معنيين ببلورة قوانينها، والبرهنة على
صحّتها.
إنّ الجوهريّ في الديالكتيك برأي أنجلس، هو النظر إلى الظواهر
وانعكاساتها الفكرية من حيث الروابط المتبادلة بينها، فبعضها يؤثّر في
بعض، والطبيعة هي محكّ الديالكتنيك، أي إنّها المجال الملكيّ الذي تستنتج
منه وتختبر فيه القوانين الديالتيكية: نفي النفي، وصراع الأضداد، والتحوّل
النوعيّ. وعندما تقدّم البيولوجيا للديالكتيك ما يؤكّد صحّته، فإنّ ذلك
يعدّ كسبا مهمّا في الصراع ضدّ المنهج الميتافزيقي القائل بثبات الأشياء،
والرؤى اللاهوتية المستندة إلى فكرة الخلق، يقول أنجلس " إنّ العلوم
الطبيعية الحديثة قدّمت لهذا المحكّ موادّ جيّدة تتزايد يوما بعد يوم،
وأثبتت بواسطة هذه الموادّ أنّ الديالكتيك لا الميتافزياء هو الذي في آخر
تحليل يسود في الطبيعة، وأنّ الطبيعة لا تتحرّك في حلقة وحيدة الشكل إلى
الأبد، وتتكرّر أبدا ودائما، بل تمرّ بتاريخ فعليّ. وهنا تجدر الإشارة قبل
كلّ شيء إلى داروين الذي سدّد ضربة في غاية الشدّة إلى النظرة
الميتافزيائية إلى الطبيعة، حين برهن أنّ العالم العضويّ الحاليّ كلّه، أي
النباتات والحيوانات وبالتالي الإنسان أيضا، هو نتاج تطوّر مستمرّ منذ
ملايين السنين." أنجلس، الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية.
وذهب الاحتفاء بداروين حدّا جعل أنجلس يتّخذ منه مقياسا يعتمده لتقدير
قيمة هذه الشخصية العلمية أو تلك، فعند وفاة كارل ماركس أبّنه بكلمات حضر
فيها اسم داروين حيث قال : " كما أنّ داروين اكتشف قانون تطوّر العالم
العضوي، كذلك اكتشف ماركس قانون تطوّر التاريخ البشري " أنجلس، كلمة على
قبر ماركس.
ويحضر المقياس ذاته عند الحديث عن الأنتروبولوجي الأمريكي لويس مورغان،
حيث نراه يكتب: " إنّ هذا الاكتشاف الجديد للعشيرة الأولية المرتكزة على
الحق الأموميّ، بوصفها مرحلة سبقت العشيرة المرتكزة على الحقّ الأبويّ عند
الشعوب المتحضرة، يتّسم بالنسبة إلى لتاريخ البدائي بنفس القدر من الأهمية
الذي تتسم به نظرية داروين حول النشوء والارتقاء بالنسبة إلى البيولوجيا"
أنجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.
وهذا الثناء على الداروينية ليس إلا الوجه الأول للاستقبال الماركسي
للداروينية، أما الوجه الثاني فيتعلق بنقدها، لقد أخطأت الداروينية لعدم
إدراكها الاختلافات الأساسية بين الإنسان والقرد، إذ ركّزت نظرها بوجه
خاصّ على ما هو مشترك بين هذين الكائنين، معتبرة تلك الاختلافات كمّية لا
نوعية، وبموجب ذلك تمّ تصنيف الإنسان ضمن المملكة الحيوانية بينما هو أرقى
منها.
وهو ما يعني أنّ الداروينية لم تتبين العامل الأساسي المتحكّم بتحوّل
القرد إلى إنسان، فبالإضافة إلى نفيها التحولات النوعية، أهملت العامل
الداخلي المتحكم بعملية التطوّر، بينما أكدت قيمة العوامل الخارجية،
فداروين من أنصار التطوّر التدرّجيّ، لذلك وقف ضدّ كوفييه ونظريته في
الكوارث.
لقد ركزت الماركسية في نقدها للداروينية على دور العمل الذي هو برأي
أنجلس ليس فقط مصدرا للثروة، وإنما هو أيضا الذي انشأ الإنسان نفسه وهو ما
بلوره في كراسه : دور العمل في تحول القرد إلى إنسان، الذي قدم فيه تصورا
لنشأة الإنسان، استند فيه إلى ما جاء في كتاب أصل الأنواع مضافا إليه
الملاحظات النقدية التي بلورتها الماركسية.
يعترف أنجلس بصعوبة تحديد اللحظة التاريخية التي نشأ فيها الإنسان،
مرجّحا أنّ أجدادنا عاشوا في المنطقة الاستوائية، وربما في قارّة غمرتها
بعد ذلك مياه المحيط الهندي، وهؤلاء الأجداد هم جنس من القردة شبيهة كثيرا
بالإنسان، معتبرا أن نمط حياة تلك القردة أثّر عليها، إذ كانت مجبرة على
الاعتماد أكثر على يديها في التسلق بينما استعملت الأرجل شيئا فشيئا
للمشي، مما ساعد على انتصاب القامة وهو ما مثل الخطوة الحاسمة للانتقال من
القرد إلى الإنسان، وهذا ما ساعد على اختصاص اليد بأنواع متعاظمة من
النشاط، وعلى الأخص القطاف. وخلال سيرورة معقّدة من النشاط اليدوي امتد
على مئات آلاف السنين اكتسبت اليد مهارة عالية.
ويلاحظ أنجلس تماثل عدد العظام والعضلات في يدي القرد والإنسان، ولكن
ذلك التماثل لا يمنح القرد القدرة على صناعة أي أداة، بينما أمكن لأسلافنا
من البشر البدائيين فعل ذلك.
ويبين أن المهارات التي اكتسبتها اليد تم توارثها وتطويرها جيلا بعد
جيل معتبرا أنّ اليد " ليست أداة العمل وحسب إنما هي أيضا نتاج العمل "
أنجلس، دور العمل في تحول القرد إلى إنسان. ولم تكن اليد وحدها صاحبة تلك
المأثرة، بل إنها كانت مجرد عضو في خدمة الدماغ, لقد كان أجدادنا أشباه
القردة حيوانات اجتماعية، بمعنى أنهم كانوا يعيشون في تجمعات تنتظم وفق
معايير محددة وهذا ما لا يتوفر لدى الحيوانات.
لقد أدى تطوّر العمل إلى توثيق الصلة بين البدائيين ومن هنا كانت
الحاجة إلى اللغة " فأنشأت الحاجة لنفسها عضوها، وبفضل التلحين تحولت
حنجرة القرد غير المتطوّرة، تحولت ببطء ولكن بتأكيد لكي تتكيف لتلحين ما
ينفك في تطوّر، وتعلّمت أعضاء الفم شيئا فشيئا أن تلفظ أصوات بينة واحد
بعد آخر، أن تنطق " المصدر نفسه.
وبهذا فإنّ الكلام قد نشأ في علاقة لصيقة بالعمل، وترافق معه، وأثر ذلك
على نحو حاسم على تطوّر الدماغ " أولا العمل، وبعده، وفي الوقت نفسه
النطق: ذانك هما الحافزان الأساسيان اللذان تحوّل بتأثيرهما دماغ القرد
شيئا فشيئا إلى دماغ إنساني " المصدر نفسه
ومع تطوّر الدماغ تطوّرت الحواس، وبالتالي فإنّ العلاقة بين هذه
المكونات البيولوجية والثقافية كانت علاقة ديالكتيكية " إن تطوّر الدماغ
والحواس الخاضعة له، وتعاظم وضوح الإدراك وتحسن القدرة على التجريد
والتعميم، كل هذا أثر في العمل والنطق، وما انفك يبثّ في كل منهما دفعات
جديدة أبدا لكي يستمرا في تطوّر دائم " المصدر نفسه. وينبّه أنجلس إلى شرط
آخر أحاط بذلك التطوّر، وهو التغذية اللحمية التي ارتبطت بلحظتين
تاريخيتين هامتين هما اكتشاف النار وتدجين الحيوانات.
وهكذا فإنّ النقيصة الأساسية في الداروينية هي إغفال الدور الذي اضطلع
به العمل، فقد درس داروين مشكل أصل الإنسان من زاوية نظر بيولوجية فقط،
مغفلا حقيقة أنّ هذا الكائن اجتماعي، وتمت بذلك التضحية بالجوانب
الاجتماعية لصالح الجوانب البيولوجية الصرفة.
كما انصبّ نقد الماركسية للداروينية على الاستتباعات المترتبة عنها في
المجال الاجتماعي، حيث عمد الداروينيون إلى تطبيق قوانين التطوّر
البيولوجية حرفيا تقريبا على المجتمع الإنساني، وظهرت بذلك الداروينية
الاجتماعية خاصة على يد هيكل وهوكسلاي .
صحيح أنّ داروين لم يكن داروينيا اجتماعيا بالمعنى الصريح، غير أن
نظريته البيولوجية كانت حبلى بتلك الاستتباعات الاجتماعية، فهو بحديثه عن
أصل الإنسان وتطوّره من خلال عامل الصراع من أجل البقاء يشرّع الداروينية
الاجتماعية، فالبشر ينقسمون إلى متفوقين ودونيين، والصراع من أجل البقاء
واقع بينهم، ومن يفوز في ذلك الصراع هم المتفوّقون بطبيعة الحال. وبهذا
يصحّ القول أنّ داروين هو من وضع حجر الأساس للداروينية الاجتماعية وجاء
هكسلي وهيكل لكي يشيدا البناء.
وبرغم أنّه لم ينشر الداروينية الاجتماعية بل ساهم في وضع أسسها كما
قلنا، فإنّه شارك في أنشطة داروينية اجتماعية، كاشتراكه في الندوة الوطنية
حول قضية الشرق التي انعقدت في لندن بتاريخ 8 ديسمبر 1876، وقد كتب ماركس
في نفس العام إلى أنجلس يقول " حتى شارل داروين للأسف زجّ باسمه في هذه
التظاهرة السخيفة " رسائل ماركس وأنجلس.
وبهذا فقد نشأت الداروينية الاجتماعية مستندة إلى قوانين داروين
البيولوجية، وخاصّة قانون الانتقاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء. وهو ما
انتقده أنجلس بشدّة معتبرا أنّ مجمل النظرية الداروينية حول الصراع من أجل
البقاء هو القول بالتماهي بين الحياة الاجتماعية والمادة العضوية، فتمّ
النظر إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ المجتمع كما لو كانا متماثلين. إنّ أقصى
ما يستطيع الحيوان أن يبلغه هو القطاف بينما الإنسان قادر على الإنتاج
وإعادة الإنتاج، فيكون بذلك من قبيل المستحيل أن نسحب قوانين البيولوجيا
التي تحكم الحياة الحيوانية على المجتمع البشري، وبفضل الإنتاج فإنّ
الصراع على الوجود المزعوم سوف لن يقتصر على وسائل الوجود البسيطة، بل
يتعداها إلى ما هو وسائل إنتاج الحاجات وتطويرها، إنّ الصراعات الطبقية
الخاصة بالمجتمع البشري محكومة بالتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج،
وليس بقانون الغاب الخاصّ بالمملكة الحيوانية.
وفي رسالة إلى بيوتر لافروفيتش لافروف كتبت سنة 1875 يتركّز نقد أنجلس
على قانون الصراع من أجل البقاء، بينها نراه يعلن قبول فكرة تطوّر
الكائنات الحيّة، يقول" أقبل في مذهب داروين نظرية التطوّر، أمّا أسلوب
البرهنة الدارويني ـ الصراع من أجل البقاء، الاصطفاء الطبيعي ـ فإنّي
أعتبره مجرّد تعبير أول، مؤقّت، ناقص عن الواقع الذي تمّ اكتشافه للتوّ" .
ويفصح من ثمّة عن وجهة نظره بخصوص ذلك القانون، فهو يتجاوزه في اتجاه
تأكيد الطابع المزدوج للعلاقة بين الكائنات: الانسجام والتصادم، الصراع
والتعاون " إنّ التفاعل بين الأجسام في الطبيعة ـ سواء منها الحيّة أو
الميتة ـ يشمل التناسق والتصادم على السواء، الصراع والتعاون على السواء "
المصدر نفسه، وإذا كان داروين قد تأثّر بهوبس ومالتوس، فإنّ قانون الصراع
من أجل البقاء أقرب إلى الايدولوجيا منه إلى العلم، لقد نقل ما هو ملاحظات
اقتصادية وفلسفية إلى ما هو بيولوجي، وما قامت به الداروينية الاجتماعية
إنما هو نقل في الاتجاه المعاكس، فقد نقلت القوانين من البيولوجيا إلى
المجتمع، فالداروينيون الاجتماعيون بحسب أنجلس " ينقلون … هذه النظريات
ذاتها من الطبيعة العضوية إلى التاريخ، ثم يزعمون أنّه أقيم البرهان على
أنّ لها قوّة قوانين المجتمع البشري الخالدة، إنّ سذاجة هذا الأسلوب تفقأ
العين " المصدر نفسه.
وهو يلاحظ أنّ الإنسان لا يصارع من أجل البقاء فقط، وإنما أيضا من أجل
المتعة، وبإمكانه أن يرفض متعة دنيا، وأن يتخلّى عنها في سبيل الظفر بمتعة
أعلى، كما يلاحظ أيضا أنّ المنتجين في نمط الإنتاج الرأسمالي ينشؤون من
وسائل البقاء والتطوّر أكثر بكثير مما يمكن أن يستهلكه المجتمع، غير أنّ
المستغلين يستبعدون بصورة مصطنعة جمهورا غفيرا من المنتجين الفعليين من
الاستهلاك في سبيل الحفاظ على أثمان عالية للبضائع، حتى لو تطلّب منهم ذلك
إتلاف قسم كبير منها، بل إبادة قسم من المنتجين بإحالتهم على البطالة كلما
غرق المجتمع الرأسمالي في أزمة اقتصادية، وبهذا فإنّ الحديث عن الصراع من
أجل البقاء في المجتمع الإنساني باعتباره قانونا كامل الصلاحية يصبح مجرّد
ثرثرة.