كان
ذلك في كتاب البيولوجيا المخصّص لطلّاب الشهادة المتوسّطة للعام 1968.أذكر
أنّ نظريته عرضت يومها في سياقٍ احتلّت فيه موضع الأساس لنظرية النشوء
والارتقاء الحديثة.. لا أحتفظ الآن من ذلك بغير انطباعات ينبغي معالجتها
بحذر الأركيولوجيّ، لإعادة رسم مشهد التعليم الحكومي في سورية الستّينات
..أقوى هذه الانطباعات المتبقّية، ما رسّبه الخوف الذي ركبني خشية أن يفلت
من ذاكرتي الفارق بين النظريتين: نظرية دارون في النشوء والارتقاء،
والنظرية الحديثة. كان ما يقضّ مضجعي أن يأتي هذا الفارق كسؤال مصيريّ في
الامتحان النهائيّ.. وعلى عادتي في تبديد الارتياب - قبل أن يتحوّل هذا
الأخير إلى موقف نقديّ من حصار البديهيات الذي أحكمته حولنا ثقافتنا
الدينية - توصّلت إلى تعليق هذا الفارق على شمّاعة المناورة التي يضطرّ
إليها التعليم الحكومي الحديث، لتمرير رسالته التنويرية تحت أنف الأكليروس
الدينيّ، الذي بدأ يستيقظ آنذاك على البلل وهو يصل إلى ذقن مقدّساته..
كانت تلك السنوات هي ذروة ما وصلته النخبة العلمانية الحاكمة من جرأة على
تعكير مياه اليقينيات الراكدة: في الاقتصاد وفي التراتب الطبقيّ وفي
اللاهوت :اليهمسلامي بتعبير أركون ..وكانت مقالة لإبراهيم إخلاص وصف فيها
الله "بدمية ينبغي وضعها في متحف التاريخ " ونشرتها له مجلة "جيش الشعب"،
التي يصدرها مكتب الإعداد العقائدي في وزارة الدفاع السورية، قد أثارت
زوبعة دفعت النخبة الحاكمة آنذاك للاختباء وراء إصبعها، وتعليق المقالة
وصاحبها على مشجب المؤامرة الصهيونية .. لم تتجاوز العلمانية - في أفضل
حالاتها داخل ما وصّف آنذاك بالشطر التقدّمي من النظام العربي- الكوكتيل
المصري الشهير "لبن، سمك، تمر هندي "..لكن الكوكتيل إيّاه كان واعداً..ففي
ستّينات القرن الماضي وخصوصاً بعيد هزيمة 1967 بلورت مجتمعات المنطقة
راديكاليةً علمانيةً رمت القفّاز في وجه غرب أنكلو سكسوني بدا في العين
العربية كعاهرة سال مكياجها ..وأعقب ذلك تصعيدٌ للعلاقات مع المعسكر
الاشتراكي. فتركت البعثات التعليمية وترجمات دار التقدم آثاراً واضحة على
عقل النخبة الحاكمة وبطانتها من التكنوقراط الإداري والعسكريّ. وطّعمت
الفذلكات الأيديولوجية للأحزاب القومية –الاشتراكية بجرعات متفاوتة من
الماركسية- اللينينية. وخفّت القيود على الأنشطة الدعوية للأحزاب الشيوعية
العربية.. في سورية آنذاك طال التغيير مناهج التعليم المدرسية، ممّا أعطى
للداروينية موطئ قدم، لازالت آثاره باقية في الأجيال التي تلقّت تعليمها
في المدارس الحكومية آنذاك.. وكان تداول مؤلّف دارون"أصل الأنواع " الذي
ترجم في لبنان، يجري على نطاق واسع في أوساط الكوادر الطلابية البعثية
والشيوعية والقومية السورية، المتنافسة ليس على السلطة فقط، بل على الخروج
من حصار الرؤية الدينية للعالم ..
بهذا المعنى ساهمت الداروينية - التي سمحت النخبة الحاكمة آنذاك
بتسريبها إلى الكتب المدرسية- في شحن الأجيال الجديدة بالأسئلة التي تعيد
تفحّص أسطورة الخلق المشتركة للأديان السماوية، التي سُجن فيها المخيال
الجمعي لسكان المنطقة .
الآن- وبعد مضيّ أربعة عقود على ذلك- فتّشت عن دارون في الكتب
المدرسية، فلم أجد عنه سوى سطرين في آخر صفحتين من مقرّر البيولوجيا
لطلّاب السنة الأخيرة في التعليم قبل الجامعي.. سطران تمّ دهنهما بما يكفي
لكي يزحط عنهما عقل الطالب دون أن يرتجّ له يقين بثوابت السّلف الصالح ..
مع ذلك هناك من يدير عينيه متعجّباً في سوريا من هذا النكوص الجماعي نحو
دين العجائز.. لقد نهض العقل من رقاده بالتعليم الحديث.. وعندما كان
الكتاب المدرسي ينهض بمهمّة توسيع المدارك، كان هرم بزل الثروة المشكّل من
الباشوات والبكوات والأفندية يصرف بأسنانه غيظاً مما يجري. ذلك أنّ
التعليم الحديث بعد أن تحوّلت المدرسة الحكومية إلى عموده الفقري، أصبح
أداة لكسر التراتب الطبقي الموروث من المرحلة العثمانية. ويخطئ من يظنّ
أنّ الوشائج مقطوعة بين الثقافة التقليدية الراكدة وبين نظام بزل الثروة..
فكلّ من الطرفين يشدّ أزر الآخر. والعقود الستّة الأخيرة من عمر التحولات
الاقتصادية –الاجتماعية في العالم العربي تفضح إلى أي التوظيفات السياسية
قد انحاز الوعي الديني ..
لم تحظ الداروينية بالقبول - رغم أن إعادة اكتشاف قوانين مندل في القرن
العشرين، واكتشاف بناء الشفرة الجينية وتقدّم البيولوجيا الجزيئية، قد
نقلها من حيز النظرية إلى حيز الحقيقة المخبرية .. فقد أتاح تقدّم علميّ
الوراثة والإحاثة استنباط تطوّر مختلف الأنواع، العلاقة بينها وأصلها
المشترك والنقاط التي فرقت بينها-ذلك أن أسطورة الخلق التوراتية لم تفقد
بريقها حتى في المجتمعات الغربية التي قطعت شوطاً أطول على طريق الخروج من
الرؤية الغيبية للكون.
أما في عالمنا العربي والإسلامي فالطريق طويلة. لا يختصرها إلا إعادة
الاعتبار للكتاب المدرسي لكي يستعيد دوره كوعاء لإنضاج ملكة الفهم.. وإلا
فإنّ جامعاتنا ستواظب على توزيع شهادات طنّانة في روبابيكا عقلية يعاد
تدويرها .