إلى بختي بن عودة الذي سها عن موعدنا لأنّه قتلهناك كتب لا توصف بالجمال أو بالقبح، بنجاح لغتها أو فشلها، بتفاؤلها
أو تشاؤمها، بل هي وجدت فقط لتشهد على حياة لم تمت بعد رغم إصرارنا على
الموت في الحياة، وتوقظ ألما ما يفتأ يتقلّب على سكيّن فتحت جرحا وتركته
فاغرا فاه في أيّامنا وليالينا.
مثل لطمة ملاكم متعب ولكنه عنيد، تأتي بعض الكتب متردّدة وحائرة
ولكنّها تصيب مقتلا من حيث لا تدري ولا ندري. يكفي فقط أن نسهو لحظة واحدة
عن مساحيق البلاغة وأكوام النّصوص المترهّلة التي تملأ واقعنا، حتّى
تفاجئنا كتب هي أقرب للصّرخة المتوحّشة البدائيّة منها إلى "درر" الأدب
ومعانيه المهذارة.
لقد فاجأني الكاتب والمسرحيّ الجزائريّ "فلاّق" في كتابه "مضيء الأحلام
البربريّة" بصرخة أخرى أعادتني إلى كهوف ذاكرة خلت أنّني شفيت منها ولكن
تبيّن لي أنّني لم أهجرها أبدا. كهوف تظلّ الكلمة فيها حشرجة موت متواصلة
تذكّرنا بما هو حيّ عميق فينا. لن نموت من الموت يصرخ "فلاّق"، بل من
انعدام العقل وجفاف الرّوح وبهتة النّسيان، نموت ونميت.
لقد تحوّلنا إلى مجتمعات يمكن للجريمة البشعة أن تحدث فيها عندما
ربّينا داخلنا كره العقل والجسد، وجعلنا من أوهام وحدانيّة الهويّة جدارا
تتحطّم على أسواره رغبات الآخر المتعدّد فينا.
بهدوء سحبني "فلاّق" إلى أرق القراءة. حالة أخرى تأخذك الكتابة فيها من
يدك وتهيم بك لمدّة نهارات وليال عديدة حيث لا راحة ولا تعب ولا حقيقة ولا
كذب. فقط هي كلمات تعيد إليك بهجة الكلمات لأنّها نابعة من أعمق ما هو
أعمق في الإنسان: خوفه من الحياة وخوفه على الحياة.
من خلال ذاكرة رعب حالة الطّوارئ والقتل العبثيّ وانقطاع الماء
المتواصل، الذي أصبح يوقّع الحياة واللاّحياة في الجزائر بعد إلغاء نتائج
انتخابات سنة 1992 ، يحملنا "فلاّق" في سفر نرى فيه حيوات تقتلها رغبتها
في أن تعيش وتبثّ في الآخرين سموم الحياة وبهجتها.
ينسج "فلاّق" خيوط حكايته من جرأة وخوف "زكرياء" الكاتب الفاشل الذي
أفنته تقلّباته المتعثّرة بين دهاليز الأنظمة و"مليكة" المومس التي يهفو
كلّ الرّجال لرقّتها الحارقة و"النّاصر" العاشق الذي لم يعرف أبعاد الجسد
مثل عديد الذّكور والإناث في مجتمعاتنا و"عزيز" المخترع الذي لا تقبل لا
عقلانيّة مجتمعه ذكاءه غير المنمّط و"مقران" صاحب حانة "الدّلفين الأزرق"
الذي يوفّر شرابا عزيز المنال يداوي آلام المجتمع حين تستحيل أدوية الوجود
و"روز" اليهوديّة التي أوصدت مغاليق أبواب مجتمعاتنا دونها و"جبار"
المتديّن الذي يتردّد بين تعاليم المحافظة ولذّات الحياة الدّنيا…
على إيقاع الرّعب من موت متوحّش في عنفه يأتي في البدء في طيّات رسائل مجهولة المصدر، تعيش كائنات "فلاّق".
لماذا أنا بالذّات وماذا فعلت حتّى أقدّم قربانا لعمى الإرهاب الأعمى؟
تتساءل كلّ ضحيّة منذورة للمذبحة الجماعيّة التي حوّلت أبناء البلد الواحد
وبناته إلى جلاّدين وجثث تتبادل أدوار هذه المسرحيّة العدميّة. ويتحوّل
هذا التّساؤل المستنكر تدريجيّا إلى رعب يسكن العقل والجسد فيشلّ قدرات
صاحبه ويحوّله إلى دابّة تسكن ظلام أقبية البيوت وتتفنّن في إبداع الحيل
العاجزة للإفلات من قدرها المحتوم والحفاظ على البقاء بأيّ ثمن. لقد تحوّل
"زكريّاء" بفضل آلة الرّعب، إلى كائن عتمة يعيش على فتات ذكرى حياته
السّابقة، بعد أن خسر الزّوجة والأولاد. وحاول بكتابته المتعثّرة أن يعيد
صياغة حكايته التي ابتلعها الحضيض. أمّا "النّاصر" فقد أصبح رهينة من نوع
جديد يبحث عن لقاء الجماعات المسلّحة ليستدرّ عطف "أميرها" علّه يمنحه صكّ
غفران عزيز المنال.
طالما عشنا مأساة الحرب الأهليّة في الجزائر من خلال أخبار الجثث
وصورها المشوّهة وأرقام الضّحايا التي تلقّيناها بتعجّب، في البداية،
واستنكار تحوّلا بفعل الزّمن إلى لامبالاة مرّة. ولطالما أغرقتنا
التّحليلات العارفة بين أكوام من الكتابات حول الأبعاد السّياسيّة
والإستراتيجية والأمنيّة للأحداث.
ولكنّ "فلاّق" يقصّ علينا أخبارا أخرى تسبر أعماق النّاس المرشّحين
للذّبح والتّنكيل، وتسرد علينا حكاية هبوطهم إلى الجحيم، ولحظات مواجهتهم
لما لا يحتمل.
من خلال عين "فلّاق" الثّاقبة نرى حشرجة كائنات، كانت تشبهنا، وهي
تتخبّط باحثة عن ذرّة أمل واحدة للبقاء في الحياة. كلّ ضحكة تلعلع في
الحيّ المحاصر بالموت، وكلّ تحيّة صباحيّة من الجارة أو الجار، وكلّ قطرة
نبيذ، وكلّ لحظة جنس نادرة، وكلّ مساعدة يقدّمها سكّان الحيّ بعضهم لبعض
دون حسابات منفعة، وكلّ غرغرة ماء صادرة عن الحنفيّات المعطّلة، تتحوّل
إلى مهرجان غبطة ولذّة. نتعلّم من صدى أنين كائنات "فلاّق" وعذاباتها قيمة
الحياة وتشبّث الإنسان بشمسها المتوهّجة حين يمتحن في أقسى الامتحانات:
امتحان امتهان كرامة الجسد وتدميره.
ونكتشف مع كتابة فلاّق"أنّ الأجساد وهي في قمّة تدميرها تواصل الكلام،
وأنّ الرّعب الذي ينفيها هو ذاته الذي يهبها حياة أخرى. حياة مقاومة
النّفي والنّسيان في أقصى حالات جنون القتل والعدم التي تملّكت المجتمع..
ففي مشهد يذكّرنا بكلاسيكيّات أفلام الرّعب والعبثيّة داهم القتل
الغامض "عزيز" صاحب العقل المتهيّج للاختراع والإبداع و"مليكة" صاحبة
الجسد والرّوح المتعطّشان لعشق الرّغبة. في قبو "عزيز" مزّق القتل الجسدين
فوُضع الرّأسان المقطوعان متقابلين، ونُثرت الأعضاء الممزّقة حول آخر آلة
عجيبة اخترعها "عزيز" لصنع الخمرة. في هذا المشهد الذي يذكّرنا بلوحات
"جيروم بوش" القياميّة تلخيص لواقع مجتمعات انفصلت فيها العقول عن
الأجساد، وتناثرت الأعضاء التي تسمح للكائن أن يصنع رؤيته للوجود. بعقول
وأجساد منفصلة ومجزّأة من فرط الموانع وإنكار الكرامة المتأصّلة في
الإنسان، التي تصل حدّ النّفي، تمضي حياتنا وتتناسل منها كلّ ألوان
الجرائم والعنف البدائيّ.
ولكنّ "فلاّق" يعيد لهذه الأجساد كرامتها في الموت؛ بمشهد عجائبيّ أعاد
فيه تجميع الأعضاء المتناثرة لتبدأ الكلام من جديد. ها هي الأرجل والأيادي
والرّؤوس الممزّقة تتحدّث إلينا من العدم وتحتفي بالكلمة التي لا يمكن
لأيّ مانع أن يغتال إشراقاتها، لأنّها هي العقل والجسد والدّهشة
والاستكانة والحركة والصّمت والعشق والكره والجمال والقبح. هي الحياة التي
ما زالت تواجه انطلاقتنا الغريبة نحو الفناء.
إنّها كتابة رعب الموت بأصوات الحياة، وفي واقعنا الذي تكاد تضيع فيه الحدود الفاصلة بين رغبة الحياة وإرادة العدم.
الأحد نوفمبر 17, 2013 1:20 pm من طرف فدوى