سبق
لنا أن نشرنا جزءا من هذا الحوار على أعمدة جريدة الإتحاد الاشتراكي
المغربية، ضمن ملحق فكر وإبداع، وذلك بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي
للفلسفة برسم سنة 2006، وها نحن إذ ننشر تتمّته في موقع الأوان نحيط
القرّاء الكرام علما بأنّه حوار مشبع بالعفوية حتى التخمة، أجراه باتريك
فيكيتي (مترجم الفيلسوف الإيطالي باولو روسي إلى الفرنسية)مع أندري كومت
سبونفيل. وللعلم فهو حوار على غير العادة كتبه سبونفيل دونما تصميم مسبق،
ولا تهيّئ أوّلي، فجاءت الإحالات والاستشهادات على نحو تلقائيّ يكاد يمتزج
فيه قول كاتب بآخر. لكنّ سبونفيل في هذه الطبعة التي اعتمدناها سرعان ما
تدارك الأمر مبقيا مع ذلك وبإصرار منه على كلّ ما قد ينطوي عليه الحوار من
سوء فهم ولا اكتمال أي على كلّ ما فيه من هشاشة ،لا لشيء إلا لأنّ الهشاشة
كما يحلو له أن يؤكّد إن كانت فعلا جزءا لا يتجزّأ من هذه الحياة فَلِمَ
لا تكون كذلك حتى بالنسبة للكتب؟•باتريك:ومن هو الفيلسوف؟* شخص يمارس الفلسفة أو، بتعبير آخر، يستخدم عقله ليفكّر في الحياة،
وليتحرّر من أوهامه (مادامت الحقيقة هي المعيار) ويغدو سعيدا قدر ما
استطاع• سوف تقول لي بأنّ كل واحد، بهذا المعنى، فيلسوف• ولِمَ لا؟ أحيانا
أستعمل هذا التعريف الأكثر بساطة أيضا: أن نتفلسف يعني أن نفكّر في حياتنا
وأن نحيا أفكارنا• فلا أحد أبدا، يستطيع ذلك كليا (لا أحد فيلسوف بالمطلق)
لكن لا أحد، أيضا، يستطيع أن يستغني عن فعل التفلسف بالمرة• إنّ كل أولئك
الذين مافتئنا نعتبرهم من كبار الفلاسفة، ليسوا أصلا أناسا ينفردون بنشاط
لا يستطيع غيرهم القيام به، بل هم أولئك الذين تفوّقوا عن غيرهم فيما
قاموا به، ووجب عليهم القيام به• فإذا انشغل ذهنكم بمعنى الحياة، وفكّرتم
فيما تكونه السعادة والموت والحبّ والعدل، وإذا ما تساءلتم هل أنتم
مجبرون، أم مخيّرون، وهل الله موجود، وهل نحن متيقّنون مما نعرفه إلخ••••
فأنتم بذلك تتفلسفون بالطريقة نفسها التي تفلسف بها أرسطو، كانط وسيمون
فيل، (مما لا يفيد أنكم تتفلسفون مثلهم). ومن الترّهات الشنيعة، تلك التي
باتت تنشر داخل المدارس كون الفلسفة هي ما يعارض الرأي؛ وهذا ما قمت به
أنا كذلك سنينا طويلة. ثم أدركت فيما بعد أني أسأت الظنّ: لأنّ الفلسفة
ولئن كانت رأيا أكثر إتقانا ودقة وعقلانية، فهي مع ذلك لا تعدو أن تكون
رأيا. وهذا ما تعلمته من مونتانيي، الذي حرّرني (لم أقرأه إلا متأخّرا)من
كلّ النزوعات المذهبية. يقول: "ما الفلسفة إلا شعر متقن الصنع"، وهذا ما
لا يحطّ من قدر الشعراء ولا من قدر الفلاسفة. وسأقول بدوري: بأنّ الفلسفة
ليست إلا رأيا متقن الصنع، لكن بالمعنى غير المجازي للفظة التصنع، أي
بالمعنى الذي تفيد فيه بتعبير آخر الشيء المحبوك وهو ما يعني بحسب
القواميس الشيء"المبحوث عنه، المركّب، والمتطوّر". وإذا كانت آلة تَسجيلٍ
مُتقنةُ الصنع أفضل بكثير من مدورة أسطوانات عادية، فالفلسفة بالمثل أفضل
بكثير من رأي عادي. إذ الأهمّ في آخر المطاف إنما هو بساطة الموسيقى
وبساطة الحياة وبساطة الحكمة. تسمعون بأولئك الذين يفضلون أجهزة تسجيلهم
عن الموسيقى…كذلك أعرف من بينهم من يفضل الفلسفة عن الحياة وهذا بحسبي
تناقض من نفس الدرجة. فالتقنية الأكثر حبكة/صنعا، لا جدوى منها إلا إذا
كانت في خدمة شيء آخر، كالموسيقى مثلا. كذلك الفلسفة، فهي لا جدوى منها
إلا إذا كانت في خدمة الحياة: يتعلق الأمر بأن نحيا على نحو أفضل، أن نحيا
حياة هي في الوقت ذاته أكثر بساطة وحرية وسعادة …إن علينا أن نفكر على نحو
أفضل حتى نحيا على نحو أفضل. وهذا هو ما يسميه أبيقور بالتفلسف من أجل
الخير أي من أجل خلاصنا على حد تعبير سبينوزا، وهذه هي الفلسفة الوحيدة
ذات الجدوى. فنحن لا نتفلسف لتمضية الوقت ولا من أجل اللعب بالمفاهيم:
إننا نتفلسف إنقاذا لذواتنا وأرواحنا. أما بالنسبة لمكانة الفيلسوف داخل
المدينة، فذلك ما تكلمت عنه بما فيه الكفاية: سوف تضحي مكانة الفيلسوف
بالضبط هي مكانة من هب ودبّ، سيما إذا كان بوسع أيّ كان أن يغدو إلى حدّ
ما فيلسوفا جيدا أو سيئا. وهاهنا يتقاطع الكونيّ والوحدة.
•كيف ننتقل من هذا "الرأي المحبوك الصنع" الذي ستؤول إليه الفلسفة إلى "بساطة الحكمة"؟*لو عرفت الجواب لتوقفت منذ أمد بعيد عن التفلسف: فالحكمة تكفيني! لكن
ما أعرفه بالضبط إنما هو أن الأمر هنا لا يتعلق بالمعرفة في شيء، فالحكمة
قدرما نحن قادرين على بلوغها، هي نتاج عمل/اشتغال(تقريبا بالمعنى الذي
يفرده فرويد لـ"اشتغال الحداد")، وهو عمل ينطوي لا محالة على مجهود فكري
لكن دون أن يختزل كليا فيه. فالحياة ليست فكرة. وفضلا عن ذلك أضيف: بأن كل
الأفكار بمعنى ما تفصلنا عن الحياة. فالفلسفة لا يمكنها أن تبلغ بنا مدارك
الحكمة إلا إذا مضت نحو حتفها: فالدرب هو درب الفكر لكن حيث يؤدي بنا لا
يعود ثمة من درب. ولا حتى من فكر. وعلى كل حال لا يعود ثمة من فكر نظري:
فالواقع يكفي، الحياة تكفي وهذا ما أسميه بالصمت. عندما كتَبَتْ "فرانسواز
دولتو"بأنّ"كل نظرية عرض مرضي"، فهي بدون شك لم تخطئ القول. أما الحكمة
بخلاف ذلك، فستكون هي صحة النفس كما يحلو لأبيقور أن يقول، وهو ما لا
تستطيعه أية نظرية. وبحسبكم، دونما أعراض لن يكون ثمة علم أعراض، أي لن
يكون ثمة طبّ. أكيد، لكن الطب ليس هو الصحة. فالطب معقد ومركب وأكثر
تشعبا…لذلك فهل ثمة من شيء أيسر وأبسط من الصحة؟ نتفق جميعا على أن الصحة
هي الأَوْلى لا الحكمة. فالحكمة بكل تأكيد تلي الصحة. كذلك الحياة فهي
الأَوْلى بالنسبة لكل كائن حي.ّ لكن الحكمة والحالة هاته لا تعني شيئا آخر
غير هذه البساطة في العيش. ولئن كان علينا أن نتفلسف، فمن أجل أن
نلوذ-"!clarum per obscurius " -بـهذه البساطة بالذات. ولا يفوتني أن أؤكد
بأن ذلك ما يستدعي منا أن نتخلص من كل ما يعيقنا ولايفتأ يحول بيننا
والواقع وكذا الحياة. وهذا ما تصلح له الفلسفة التي ينبغي لنا، في
النهاية، أن نتخلص منها أيضا. فالمذهب كالرمث بتعبير بوذا: إِذْ ما الجدوى
من حمل الرمث فوق أكتافنا حالما قطعنا النهر بالمرة؟ دعه بالأحرى جانبا
حتى يستعين به آخرون، أما أنت فلم تعد في أدنى حاجة إليه.
وعليه، فالحكيم هو من لم يعد في حاجة إلى التفلسف: أما كتبه إن كان قد
كتبه، وهذا أمر نادر، فهي كالرمث وهذا ما لا ترضاه الأغلبية، تلك التي تظل
طول حياتها تشقى جاهدة من أجل صنع رَمْثِها الصغير، آملة إضفاء تحسينات
عليه ما أمكن، وهي غالبا ما تفلح في ذلك. لكن ما الجدوى؟ طالما لم تستطع
العبور إلى الضفة الأخرى أو طالما بَقِيَتْ - ولئن اجتازت النهر افتراضا-
طوال حياتها حاملة على أكتافها عبء هذا الرمث. كم من أناس ماتوا منهكين
تحت ثقل مذهبها؟ لذلك هي خفة الحياة أفضل: قل خفة الحكمة!
ألاحظ من حوالي، فلاسفة يستحسنون دوما تعقيد أفكارهم ما أمكن، وينزعون
من ثمة إلى مستوى من التصنع أكبر فأكبر. وفي مثل هكذا نهج ألمس نوعا من
الثراء وأحيانا أخرى أجده من الضرورة بمكان. ويحدث لي أن أسير على نهجهم
ذاك: وإلا فما البديل؟ مادامت الإشكاليات لا تقبل كلها حلا سهلا. وزيادة
على ذلك، كيف لا ننخدع بهذا التعقيد التأملي. إذ غالبا ما تكون الحبكة في
العلوم ضرورية. لأنه لا محيد عنها بالنسبة لعملية الاستدلال. لكن هل هو
الأمر نفسه فيما يخص الفلسفة؟ فبقدرما ليست الفلسفة علما ولا يمكنها أن
تكون كذلك، بقدرما الحبكة لا تصلح فيها كاستدلال ولا التصنع يؤشر على
تطورها. وكل ما في الأمر إنما هو كون الأنساق تنضاف لغيرها مما لا يزيدها
إلا تعقيدا في تعقيد.نعرف أن كانط فيلسوف عبقري بل أكثر الفلاسفة صنعة
ودقة، لكن لو كانت دقته حقا مقنعة، لغدونا كلنا كانطيين، وهذا ما لم يحصل.
كذلك الشأن بالنسبة لسبينوزا ، الذي هو الآخر فيلسوف أكثر دقة وصنعة
وعبقرية؛ وبالرغم من ذلك ففلسفته تتعارض كليا مع فلسفة كانط …لذلك وجب
علينا أن نختار(ومونتاني محقّ في هذا الصدد)، لكن الدقة ليست تكفي للحسم
ما بينهما. لعل الأمر بالأحرى لا يتعلق في شيء بالاختيار، إن صح التعبير،
أكثر مما يتعلق بنوع من الاعتراف(بدلا منه تعرف)نخلص إليه أكثر مما نقرره:
فعندما نقرأ كانط أو سبينوزا نخلص بفضلهما على وجه التقريب إلى الاعتراف
بالعالم الذي نقيم فيه والفكر الذي نتبناه ونعتقد أنه الأصح أو الأكثر صحة
من غيره من العوالم والأفكار؛ لكن دونما قدرتنا أبدا على البرهنة على ذلك
على نحو كلي…وهاهنا تبلغ الدقة حدودها القصوى التي هي حدود الإنسان.
بالنسبة لي، بدل أن أتخلى كليا عن الصنعة المتقنة والتعقيد وكذا الدقة
إلى حد ما، سأنزع بالأحرى نزوعا معاكسا: إني أبحث عن أفكار بسيطة، أفكار
ما بعدها من أفكار بسيطة، بحيث هي ما سيكون في آخر المطاف دونما الحاجة
حتى للتعبير عنها. أكيد أن هذا الأمر ليس سهل المنال كليا: فللفكر صعوباته
ومقتضياته الواضحة. لكن الفكر ليس إلا وسيلة والتعقيدات التي ينطوي عليها
لا يمكنها أن تحجب مع ذلك تلك البساطة الكامنة فيه. بساطة ماذا؟ بساطة
الواقع. فكل كائن حي على سبيل المثال أغنى ما يكون وفي درجة من التعقيد
اللامتصور، لكن الحياة ليست تقل بساطة رغم كل شيء. فأي شيء يفوق الشجرة
تعقيدا، حينما نحاول فهم ميكانزم اشتغالها الداخلي؟ وأي شيء هو أبسط من
مشاهدتها؟
•لكن المشاهدة عملية جد معقدة…*أكيد، لكن تعقد العملية هنا يخدم بساطة الفعل. فأي شيء أعقد من العين؟
وأي شيء أسهل من الرؤية؟وهذا كله هو الحياة عينها: التعقيد في خدمة
البساطة. وهذا أيضا درس بالنسبة للفيلسوف…فعندما يتعلق الأمر بالفهم أو
التفسير، لا يمكننا أن نتلافى التعقيد. لكن الفهم ليس هو كل شيء ولا
بالغاية القصوى. والحال أنه ما من شيء أصلا يلزمنا فهمه على نحو مخالف لما
هو عليه: فليس ثمة من شيء ينبغي فهمه. "إن مفتاح اللغز يؤكد فتجنشتاين، هو
أنه ليس ثمة من لغز". بوسعنا أن نفسر الشجرة من خلال عللها وبنيتها
والميكانيزمات التي تنخرط فيها والتفاعلات التي تقيمها مع محيطها، إلخ…لكن
أن نفهمها، فلا: وبما أنه ليس ثمة ما ينبغي فهمه، فما من نظرية تستطيع أن
تعفينا من الرؤية/المشاهدة، أقصد بساطة الرؤية. أنتم على علم بتلك العبارة
الجميلة العائدة لـ"أنخلوس سيلزيوس"، المتصوف الألماني (كان طبيبا
كذلك)الذي عاش في ق.17: الوردة بدون لماذا، تزهر لأنها تزهر، لا تكترث
بنفسها ولا يعنيها أن تغدو محط رؤية…"
إن الوردة بلا شك ، من أعقد ما يكون. لكن كم هي بسيطة مع ذلك! أما علم
النبات فهو علم معقد مثلما هي كل العلوم، لكن لهذا التعقيد أيضا فضله. ومع
ذلك، فالوردة في آخر المطاف أمامنا، هاهنا: ومن المؤسف أن يحول علم النبات
دونما مشاهدتنا لها وعشقنا لها كما هي وببساطة.
•هكذا يضحى الواقع
بسيطا، أو لنقل على الأقل أنه ينبغي على الحكيم ألا يكترث فيه إلا بما هو
بسيط، دونما أدنى انشغال بتعقد الظواهر؟ لكن لماذا يجب إهمال هذا الثراء
الظاهراتي وباسم أية فضيلة من فضائل البساطة؟*ليس البسيط كما أتصوره مناقضا في شيء للمعقد/للمتعدد! فلا يتعلق الأمر
بالطبع، بأن نحرم أنفسنا من تعقد الظواهر، وغنى الواقع ولا من كل تلك
التفاصيل المتنوعة التي لا حصر لها وتلك الغزارة والوفرة المميزة للعالم
المحسوس(الذي هو عالمنا). إنكم لن تجدوا أبدا وردتين متشابهتين ولا
نوريتين متماتلتين. وبالرغم من ذلك فهذا العالم المطلق الغنى والتعدد ليس
يقل بساطة: ليس لديه ما يخفيه أو يظهره، إنه بالأحرى ليس لديه ما يكشف عنه
عدا ذاته وما من شيء يعبر عنه سوى نفسه وهذا هو ما يؤلف الصمت العظيم الذي
هو العالم وبساطة العالم. فالواقع هو ما هو عليه بكل بساطته، إنه يخلو من
كل ذنب(سبينوزا:"يعني الواقع والكمال بالنسبة لي الشيء ذاته")كما من كل
مشكلة ولا ينطوي على أي سر…كم تعجبني كثيرا عبارة "وودي ألان"التالية"قد
يكون الجواب هو نعم؛ لكن ما السؤال بالضبط؟". إذا كان الجواب هو نعم، فذلك
لأنه ليس ثمة من سؤال: الجواب هو العالم/الكون ذاته. والحال أننا نحن
المسكونين بالأسرار كما بالإشكالات والتساؤلات؛ ولئن كان العالم بسيطا
فلأنه الجواب الوحيد عن كل تلك التساؤلات التي ليس هو من يطرحها على نفسه:
إنه بسيط كالوردة والصمت.
•لكن الوردة بالنسبة
لعالم النبات هي بداية لكل تلك الأزهار التي سيحصل عليها بفضل عبقرية علم
الوراثة، بيد أن الشاعرD’annunzio ينظر إليها كما لو كانت مصدر النار:
"إنها تحرق. لنقل أنها تحوي بداخل تُوَّيْجِها على فحم ملتهب. فهي تحرق
بالفعل". أما الفيلسوف، فهو من سينظر إليها كما لو كانت موضوعا؛ أي آخَرُ
الذات، أو التعدد أمام ما يقوم كوحدة ذاتية: فما اللون؟ وما الرائحة؟ وما
تكون حرية النمو ولزومه؟إلخ.*إذا ما صدقنا ما قلته، وافترضنا ألا شيء صحيح عدا ما تفضلت به، فكم
سيضحى علم النبات أكثر كآبة! وكم سيكون الشعر أكثر حزنا! بله كم ستكون
الفلسفة مقرفة وبئيسة!. لماذا لا نحب من بين كل الورود إلا تلك التي لم
توجد بعد؟ لماذا نبحث فيها عما ليست إياه؟ (آه، من استعارات الشعراء!
لأنها لا تكون في معظم الأحيان إلا مجرد كلام تافه). ما الداعي إلى
مقارنتها دوما بشيء آخر؟ لماذا ننزع إلى حصر الواقع، بكل ثرائه، في
تصوراتنا الأكثر تجريدا وبؤسا(ثرثرة الفلاسفة!)؟ ذكرتم في طي حديثكم ما
يدعى بـ"الموضوع" و"الذات"؛ والحال أنه ليس ثمة فيما يخص الريح مثلا،
لا"موضوع" ولا "ذات" كما ليس ثمة "لون" ولا "رائحة"، وليس ثمة ولا حتى
"وردة"! وكل ذلك لا يعدو أن يكون أكثر من ألفاظ، ألفاظنا البئيسة على
صغرها وكبرها. أعرف جيدا بأنه ليس من السهل علينا التخلي عنها لكن الواقع
في غنى عنها. وهي بذلك مجرد نزعة اسمية متأصلة: فالتجريد لا وجود له إلا
داخل اللغة وبفضلها. أما الواقع فهو بسيط لكن بساطته ليست في شيء من قبيل
بساطة الفكرة(فالفكرة البسيطة هي تلك الفكرة التي يسهل استيعابها وهذا ما
يستحيل بالنسبة للواقع)أكثر مما هي من قبيل بساطة ذلك التميز
الواضح(السذاجة بالنسبة لـ"كليمون روسي"والحدث بالنسبة لـ"مارسيل كونش")
والتطابق مع الذات. إن الأشياء لا تغدو معقدة إلا عندما نروم التفكير في
كل هذا الثراء واستحضار فرادة هذا التعدد مفاهيميا: لأن الواقع أكبر ما
يكون من ذلك الجزء الضئيل المقتطع منه والذي نتخذه موضوع تفكيرنا. وتلكم
حجة أخرى تدعونا إلى عدم الاكتفاء بالتفكير وتجعلنا نتعلم أن نرى أي أن
نستسلم في صمت لبساطة الصيرورة الغير القابلة للاستنفاذ.
•وما الذي بوسع وردة أن تمنحه لي، بمجرد ما تكون محط رؤية؟*لا شيء وكل شيء:ستمنحكم نفسها؛ ألا يكفيكم ذلك؟
•تذكرون هذا "القبول
بالواقع"في "تربية فلسفية" وأنتم تتكلمون عن تجربتكم إبان لحظات "صوفية"
يكتنفها ضرب من "البساطة الغريبة والغنية والمعاشة على نحو يفتقد فيه
الزمان والخطاب…*هل قُلتُ حقا صوفية؟ هذا أمر يثير استغرابي إلى حد ما. وعلى ما أعتقد،
فأنا تكلمت بالأحرى، وفيما يخصني، عن لحظات من البساطة والهناء، وهو ما لا
يفيد نفس المعنى…ولم أتجاوز أبدا، في ذات السياق، ذلك المعاش الذي يحياه
كل واحد منا ويمكنه أن يحياه. وقد حصل لي رغم كل ذلك(وهذا ما يمنح لهذه
الكلمة أحقية الاستعمال) أثناء هذه اللحظات النادرة، أن وصلت إلى حالة من
تلك الحالات التي يصفها الصوفيون، لكن دونما وَجْد أو رُؤَى. مثل ماذا؟مثل
الصمت والامتلاء والأبدية…وكذا فقدان الزمان كما قلت، لكن في خضم الزمان
ذاته، أي داخل واقعية الزمان: الحضور الأبدي للواقع، والحضور الأبدي
للحقيقي ونقطة تقاطعهما التي هي الكون وحاضر الكون. ثم أيضا نهاية الخطاب
والفكر والعقلانية: وذلك ما أسميه بالصمت الذي هو أشبه ما يكون بفراغ
داخلي إن صح التعبير، لكنه فراغٌ، بالقرب منه خطاباتنا هي التي تدوي
فارغة. والحال أن لفظة الصمت هاته، مرارا ما أرعبتني جراء دلالاتها
الدينية والصوفية بالأساس. لكنني ما أن قرأت Krishnamurti حتى ألِفْتُها.
إذ كيف سنعبر عن ذلك الحضور الصامت لكل شيء؟ وأخيرا على أي نحو نتكلم عن
ذلك الامتلاء والإشباع الذي هو انعدام كلي للعوز؟ وفي ما سنبقى راغبين
عندما يكون كل شيء بحوزتنا؟ أجل هذا هو ما عشته أحيانا، وهو ما يمنح
بالتالي نوعا من الشرعية لذكر الصوفية. والحق أنني أعطي أهمية قصوى
لمنطقهم، دونما أن أزعم كوني واحدا منهم. فثمة شيء هام يقال عن الإنسان
كما عن الكون. أما عن الله؟ فهذا يتوقف على الصوفيين مع أن لي تعاطفا
كبيرا مع الأقل تدينا منهم. لكن وفضلا عن ذلك، أما يزال باستطاعتنا أن
نتكلم عن الدين، حتى عندما يَكُفُّ الله نفسه عن الغياب؟ وإذا كنت أهتم
كثيرا بالتصوف الشرقي، لاسيما منه البوذي، فلأني أعثر فيه على هذا البعد
الروحي المحايث إطلاقا(دونما عالم آخر، أو أمل أو إيمان) والذي مكنني
سبينوزا، منذ زمان، وبطريقته المفاهيمية من اقتفاء أثره. فالجزء الخامس من
الأخلاق، ينطوي بالمناسبة على أشياء هامة غالبا ما يتناساها أساتذتنا
الجامعيون…ولقد ساعدتني بعض من تلك التجارب التي ذكرتها، بالرغم من
بساطتها وكونها عادية جدا،على التعامل مع سبينوزا بكل جدية، حتى فيما
يتعلق بمسلماته الأخلاقية الفريدة والمزعجة. "إننا نحس ونختبر بأننا
كائنات أبدية…" وبكل صراحة، فهذا ما حدث لي أن اختبرته بشكل ما. لكن أية
أبدية يقصد؟ الأبدية هنا ليست بالطبع أبدية حياة أخرى أو عالم آخر.
الأبدية هي الآنإنها ليست بالمستقبل الموعود بل هي الحاضر ذاته الموهوب
لنا. قد نستشهد مرة أخرى بفتجنشتاين:"إذا كنا لا نقصد بالأبدية، مدة
زمانية لامحدودة، بل اللازمانية، فحينئذ فحسب يحيا إلى الأبد من يحيا في
الحاضر". فهل نحيا على نحو غير ذاك أو في مكان آخر؟ الحق أن الأبدية هي
فضاءنا الوحيد. لكن خطاباتنا هي ما يحرمنا من الأبدية وكذا رغباتنا
وآمالنا…خلاصة القول ألا أحد يحرمنا من أبديتنا عدا نحن أنفسنا. من ثمة
تلك البساطة حالما تمحي الأنا، فلا يبقى إلا هذا الكل Le tout، وليس يهم
الاسم الذي يطلقه عليه كل منا (الله، الطبيعة أو الوجود). فعندما لا يبقى
إلا هذا الكل، فيما تزال تجدي الأسماء مادام الكل بدون اسم؟ هاهنا نلفي
الكثير من النفحة الطاوية وهذا الهذيان الشرقي العظيم أهم بالنسبة لي من
كل حِكَمِنا البسيطة…فالصمت والأبدية في تساوق تام بعضها البعض: ولا شيء
يستدعي الكلام ولا شيء يتطلب الانتظار مادام كل شيء هنا.
•حكمة الحاضر أم حكمة الوحدة؟*كلتاهما معا ولا واحدة منهما في الآن نفسه. أكيد أنها حكمة الحاضر
وأريد بالضبط أن يصبح كل حاضر لحظيا. إلا أننا أخيرا كائنات تُعمِّرُ من
لحظة لأخرى وتستمر وهذا ما يعني "الوجود". "إن كل صلب يرغب في أن يدوم
ويعمٍّر"كان يقول إليوار: قد تكفي جمل صغيرة في نظري لاستعادة الطعم
الحقيقي للحياة…إذ لا يقتضي الأمر، أن يحيا المرء كالحيوان على حد تعبير
نيتشه، مربوطا بوتد اللحظة؛ ولا أن يتهور رافضا المستقبل على نهج معارضي
الأنظمة والأغبياء. إننا لا نستطيع أن نعيش في الحاضر مادامت الحياة مدة.
وقد قال برغسون في هذا السياق أشياء هامة، ومما لا شك فيه أنه يستحيل
علينا أن نحيا على نحو غير برغسوني. فكل ما هو متاح لنا يدوم وكذلك نحن
بمعيته وفيه: ليس اللحظي هو ما ينبغي لنا أن نقطفه بل هذا الحاضر الأبدي
المميز لكل الأشياء التي لا تفتأ تدوم ولا تفتأ تمضي. وهنا نقطة التقاء
الصوفيين والشعراء والفلاسفة ."carpe diem" أقطف نهارك كان يلح هوراس؛ لكن
هذا النهار المقطوف والذي يعاد قطفه إذا عاشه المرء بالفعل، فهو الأبدية
عينها. وهو أصلا ما يسميه "كريستيان بوبان"بـاليوم الثامن في الأسبوع،
والذي ليس بيوم إضافي بطبيعة الحال أكثر مما هو ما يجسد أبدية كل يوم. هنا
والآن: هي أبدية الصيرورة التي مافتئت تنفلت وتدوم. هل هي حكمة اللحظي؟
أجل لكنها حكمة هذا اللحظي الأبدي الذي هو المدة la durée.أقطف أبديتك
oeternitatem carpe…أما فيما يخص الوحدة فهي بالطبع رهاننا كلنا: فليس
الحكيم أقرب ما يكون من وحدته إلا لأنه أقرب ما يكون من الحقيقة. لكن
الوحدة لا تعني العزلة: وإذا كان البعض يعيشها منعزلا داخل كهف أو صحراء،
فآخرون يعيشونها داخل معابد؛ وغيرهم –وهم الأغلبية- يعيشونها في خضم
العائلة والقطيع. فأن تكون منعزلا يعني أن تكون بلا علاقات ولا اتصالات،
بدون أصدقاء ولا أحباء وهذا بطبيعة الحال أمر محزن. أما أن تكون وحيدا،
فيعني أن تكون ما أنت عليه، في غنى عن كل مساعدة وتلكم هي حقيقة الوجود
الإنساني. فهل بوسعنا أن نكون على غير ما نحن عليه؟ إن الإنسان على حد
تعبير بوذا "يولد وحيدا ويحيا وحيدا ويموت وحيدا" وهذا ما لا يعني أننا
نولد ونحيا ونموت منعزلين. إذ الولادة من حيث هي كذلك تفترض نوعا من
الارتباط بالآخر: فثمة دوما، المجتمع قبل كل شيء؛ وثمة دوما التفاعل وهي
كلها أشياء لن تفارقنا قط. لكن ما تأثير ذلك على الوحدة؟ وعندما كتب
باسكال في كتابه "الأفكار" بأننا سنموت وحيدين فذلك ليس يفيد بأننا سنموت
منعزلين. والحال أنه في عز القرن 17، لم تكن الأمور تجري أبدا، على هذا
النحو، بحيث أن الغرفة التي يموت فيها المرء عادة ما نجد فيها عددا معينا
من الأشخاص: العائلة والكاهن والأصدقاء…لكن المعني مع ذلك، هو من يموت
وحيدا تماما مثلما يموت الناس اليوم وحيدين مادام ألا أحد يستطيع أن يموت
بدلا منهم. وبناء عليه أيضا، فنحن نعيش وحيدين لأنه لا أحد يستطيع أن يقوم
مقامنا بذلك. وإذا كانت العزلة كنمط عيش إنساني استثناء، فالوحدة قاعدة.
إذ لا أحد يستطيع أن ينوب عنا لا في الحياة ولا في الموت، لا أحد بوسعه أن
يتألم أو أن يحب بدلا منا. وهذا ما أسميه بالوحدة : وهو اسم آخر لما نعبر
عليه بـ"الجهد المبذول من أجل الوجود" L’effort d’exister .مادام ألا أحد
سيتطوع لحمل أعبائك غيرك، لا أحد. وإذا كان بمقدورنا أن نتعاون،
أحيانا(وهو ما نستطيعه بالطبع)فالتعاون هو ما يقتضي من كل واحد منا أن
يبذل جهدا خاصا L’effort solitaire ،وهو جهد لا يمكنه أن يبخل به، اللهم
إلا إذا كان واهيا. ليست الوحدة إذن رفضا للآخر بل العكس: فالقبول بالآخر
يعني القبول به كآخر(وليس كأداة أو كوسيلة أو كشيء في حد ذاته)، لذلك
فالحب بمعناه الحقيقي هو الوحدة. ولقد أصاب "ريلكه"في التعبير عن مثل هذا
الحب الذي نحن أحوج ما نكون إليه بالرغم من أننا نادرا ما نستطيع بلوغ
مراتبه:"وحدتان تتكاملان وتكتفيان بذاتيهما، صائنة الواحدة منهما الأخرى
وميالة نحوها"؛ ولعمري رأيت نظير هذه الصياغة الجمالية الأكثر جدارة
وواقعية. لذلك فالحب ليس في شيء نقيض الوحدة: إنه الوحدة المشتركة
والمهووسة والمضاءة- والباهثة أحيانا- بوحدة الآخر. فالحب وحدة باستمرار،
لا لأن كل وحدة مغمورة بالحب، فهذا لا يهم، بل لأن كل حب وحدة. إذ لا أحد
يستطيع أن يحب بدلا منا، ولا أن يحب مثلما نحب لذاتنا ومثلما نحب نحن
بالذات. فهذه الصحراء المحيطة بالذات كما بالموضوع المحبوب ليست شيئا آخر
غير الحب ذاته.
•وحدة الحكيم ووحدة
الحب …تتكلمون في كتبكم كذلك عن وحدة الفكر(سيما فيما يتصل بـ"الفلسفة
بضمير المتكلم")ووحدة الأخلاق ووحدة الفن…ألا مجال لأي بعد اجتماعي في كل
هذا؟*بلى، فالحكمة بطبيعة الحال كما الفكر والأخلاق والحب، كلها أشياء لا
توجد إلا في سياق اجتماعي. فليس ثمة من حكمة في حالة الطبيعة مثلما لا
وجود لفكر في حالة الطبيعة ولا لأخلاق أو حب أو فن. كل شيء إذن اجتماعي
وبناء عليه فكل شيء سياسي على حد تعبيرنا سنة 1968. لقد كنا على صواب:
وهذا ما يزال سائر المفعول حتى اليوم. لكن إذا كان كل شيء سياسيا فالسياسة
ليست كل شيء. وإذا كان كل شيء اجتماعيا فالمجتمع ليس هو كل شيء. فالوحدة
قائمة الذات لا بالمحاذاة للمجتمع لكن بداخله وبداخلنا. وكل واحد يعرف
جيدا بأن المجتمع لا يتناقض مع الوحدة؛ ولا الوحدة تتناقض مع المجتمع.
فنحن غالبا ما نكون في الوقت نفسه وحيدين ومجتمعين. لاحظْ مدننا
وعماراتنا…فالمجتمع المعاصر هو المجتمع الأكثر جمعا للناس من كل المجتمعات
السابقة، أو لنقل على الأقل أنه قلص المسافة فيما بينهم وقرَّبَ ما بين
بعضهم البعض على نحو جماعات، لكن الوحدة بالرغم من ذلك أكثر تجليا: فنحن
أكثر ما نُحِسُّ بالوحدة في رحاب المدن الكبرى الغريبة عنا منه في ساحة
مدينتنا…وأنا شخصيا عاشق لكل ذلك؛ فالوحدة أقل ما تزعجني مما يزعجني
الازدحام؛ ولئن كنت أحب القرية فإني أنفر من المدن. فبقدرما نزداد انغماسا
في الوحدة نزداد كذلك، انغماسا في الحرية، فتكبر إمكاناتنا وكذا حظوظنا في
الوجود. ففي المدن الكبرى لا أحد يعرفك، وهذا ما يكشف عن حقيقة المجتمع
والكون: اللامبالاة وتقابل الأنوية وصدف الإلتقاءات وأحيانا أخرى أقدار
الحب. لكن ليس الحب هو ما به تشتغل المجتمعات، بل بالمال بطبيعة الحال
والمصلحة وعلاقات القوة والسلطة والأنانية والنرجسية. هذه هي حقيقة الحياة
الاجتماعية. ذلك الحيوان الأفلاطوني الضخم الذي يقوده تنين هوبز: فالخوف
في خدمة المصلحة مثلما القوة في خدمة النزوعات الذاتية(الأنوية)! هكذا
الأمر ولا جدوى من الانزعاج منه. وقد يكون من غير النزيه كذلك، على اعتبار
أننا نُسَخِّر هذا المجتمع لصالحنا. فكم يقتضي الأمر من نرجسيات متتالية،
حتى أستلم أجرتي على رأس كل شهر وأتمكن من صرفها بسلام! وفي تتالي هذه
النرجسيات إذن نعثر على كل شيء: وتلكم من أكبر مشاغل السياسة. إن علينا
ألا نُزَيِّفَ الحقائق، بحيث أن الناس إن كانوا يعملون ويؤدون كل ما في
ذممهم من ضرائب ويحترمون القانون إلى حد ما، فذلك بفضل النرجسية دوما، وهم
بلا أدنى شك غالبا ما يقدمون على كل تلك الأشياء بفضل النرجسية لا غير:
فالنرجسية كما النزوع الاجتماعي شيئان متساوقان: إنه نرجس في نادي البحر
الأبيض المتوسط. وبخلاف ذلك، فكل جرأة حقيقية وكل حب حقيقي، هو ما يقتضي
حتى ولو كان في خدمة المجتمع، نوعا من العلاقة الشفافة إزاء الذات
والمخالفة للنرجسية(التي ليست علاقة بالذات أكثر مما هي علاقة بصورتها
التي تشكلت عبر النظرة إلى الآخر) والتي أسميها بـ"الوحدة"… وإذا كانت
النرجسية في تساوق تام مع الاجتماعي، فالوحدة في تساوق تام مع العبقرية.
هنا نستحضر وحدة العباقرة والقديسين: وحدة "جان مولان"ووحدة الأب
"بيير"…ويصدق هذا على الفن والفلسفة. فمونتاني بالطبع عاش وحيدا، ولم
يمنعه ذلك من أن يضطلع بمهامه الاجتماعية(حيث كان يشغل منصب عمدة مدينة
بوردو)ولا من أن يستمتع أكثر من غيره بجمال وملذات المقاصفة. كم يتحاشى
الوحدة بعكس ذلك، كل أولئك العاجزين عن تحقيق التقاء حقيقي! إذ كيف لمن لا
يعرف أن يتعايش مع نفسه، أن يعرف أن يتعايش مع غيره؟ كيف لمن لا يعرف أن
يسكن في عز وحدته الخاصة، أن يعرف أن يتقاطع مع وحدة الآخرين؟ هكذا على
سبيل الذكر، كان نرجس يعاني من وحدته: فالوحدة تجعله وجها لوجه أمام عدمه
son néant حيث يغوص حد الغرق. أما الحكيم فهو بخلاف ذلك، من يجعل من عدمه،
مملكته الفريدة التي فيها يتيه وينفلت: دونما نزعة ذاتية ولا نرجسية. لكن
ما الذي يتبقى؟ الكون والحب: أي كل شيء. أما نحن فإننا نقوم بكل ما بوسعنا
أن نقوم به مابين الطرفين. لذلك فنحن نكون ثارة نرجسيين وأخرى حكماء بحسب
ظروف الحياة ومواقيت العمر. لكن كل منا يعرف جيدا إلى أين يدفع بنا
المجتمع خاصة اليوم(وليس عبثا سميناه بالمجتمع الاستهلاكي)وإلى ماذا
تنادينا الوحدة…
•الوحدة الحقيقية
ووهم الحياة الاجتماعية…أو بتعبير آخر: القيم الفردانية والأعراف
المشتركة…لكن ما المكانة التي تولونها لقيمة من قبيل قيمة احترام الآخر
التي على ما يبدو لي لم يشملها هذا التحليل الراديكالي الذي قمتم به، على
اعتبار أنها تُلْزٍمُ الفرد بضرورة الاعتراف بما هو اجتماعي مثلما تلزم
المواطن بما يضمن اجتماعيا حريته(على الأقل فيما يتعلق بالديمقراطية)؟
وبتعبير آخر أليست حريتي مشروطة باحترامي لحرية غيري؟*هل نحن أحرار بشكل مطلق؟ إنني لا أتكلم عن الحرية السياسية، الحاسمة
بطبيعة الحال، والتي تخولها لنا الديمقراطية إلى حد ما. لكن ثمة أناس
أحرار داخل الأنظمة التوتاليتارية، وثمّة أناس مستعبدون وأسرى داخل
الأنظمة الديمقراطية…مما يعني أن الحرية الأصيلة لا نحصل عليها أبدا على
نحو خالص وسهل داخل المجتمع. كما أنها فضلا عن ذلك ليست فطرية ولا بمطلقة؛
فالاختيار الحر كان دوما بالنسبة لي وَهْما غير مستساغ عقليا: ولا يمكنه
أن يكون بمثابة إرادة، أقصد تلك الإرادة الحرة التي بوسعها أن تريد كل
شيء. أو لنقل بتعبير آخر أنها بالأحرى دونما جدوى. وزيادة عن ذلك، هل
يمكننا أن نتحرر ولو قليلا من كل الإكراهات التي تطالنا أو البعض
منها…يقتضي الأمر لربما عملا لا يطاق: إذ ينبغي علينا أن نتحرر من دواتنا
وهو ما ليس بِمُكْنَتِنا…أما فيما يخص مبدأ احترام الآخرين فهو بالتأكيد
قيمة اجتماعية كسائر القيم؛ لكنها قيمة غير قابلة لأن تمارس أو تعاش كباقي
القيم، إلا بفضل الأفراد. ولا أجد في هذا ما من شأنه أن يجعل منها قيمة
مختلفة عن القيم الأخرى…لا تخطئ الفهم فيما أدعوه بالوحدة: فالعلاقة
بالآخر جزء لا يتجزأ بالطبع من هذه الوحدة، وكل العشاق يعرفون ذلك بل كذلك
بالنسبة لكل واحد منا. إن ما تعيشه بصحبة أفضل أصدقائك، تعيشه أيضا لوحدك:
وهو كذلك يعيش شيئا آخر.ورعشتان جنسيتان ولو تحققتا في وقت واحد، فهما لا
تقلان عن كونهما رعشتين اثنتين. فكيف تعيش إذن ما عاشه غيرك؟ كيف تحس بما
يحس به وتُعَبِّر عما يعبر عنه؟ إن ذلك لا يمنعنا من أن نحب بعضنا البعض
ولا من أن نكون مجتمعين أكثر مما يعفينا من مغبة الحلم بحب قادر على
القضاء(بواسطة أي قدر)على الانفصال والوحدة. صحيح أنه كيما يكون ثمة حب
ينبغي أن يكون ثمة على الأقل شخصان، فالحب لا يستطيع أن يقضي على هذه
التعددية التي هي قوامه. وهذا ما يصدق أيضا على كل مجالات الحياة. فالوحدة
والتجمع ليسا بعالمين متناقضين بل هما علاقتان بالعالم مختلفتان، وكلاهما
ضروري على اعتبارهما يؤلفان هذه الذوات التي هي دواتنا أو نعتقد أنها
كذلك. فالوحدة مرة أخرى ليست توجد بالمحاذاة للمجتمع بل فيه. لكنها ليست
مثله من حيث هي وحدة: صحيح أن كل حياة، اجتماعية؛ لكن ليست المجتمعات هي
التي تحيا…أما بخصوص فكرة كوني لا أكون حرا إلا باحترامي لحرية الآخرين،
فهي فكرة فارغة ومجرد ترهات، وتنم بالضبط عما يتمناه كل واحد، مما يجعلني
أشك في صلاحيتها كفكرة إلى حد ما. وإذا كان من الواجب علينا احترام حرية
الآخرين، فليس ذلك من أجل أن نتحرَّر نحن بالذات بل من أجل أن يتحرروا هم
وأن يستطيعوا أن يضحوا أحرارا.
•لكن بناء على خاصيته
التبادلية يضحى مبدأ احترام الآخر قيمة أساسية لقيام الفرد: فأنا لا أكون
إلا تحت أنظار الآخر، هذا الآخر الذي أنظر إليه أنا كذلك باعتباره ذاتا…*لا؛لأن الفرد يوجد حتى عندما لا أحترمه!فالجسد يكفي: والفرد قبل كل
شيء هو هذا الذي يحيا ويتألم ثم يموت…ألا يعتبر أفرادا، هؤلاء الرضع الذين
قُتِلُوا بالديار النازية؟ لذلك فالاحترام ليس يوجد إلا كقيمة مضافة كالحب
والسعادة؛ وقبل كل شيء آخر، ثمة أولا هذا الجسد الحي والفاني: جسد يستحق
الاحترام، لكن الاحترام لا يخلقه.
•أليس الإنسان غير جسده؟*إنه جسد على كل حال، وقبل كل شيء آخر. ونحن هنا أمام نزعة مادية محضة،
وواقية. فمن هو الإنسان؟ هل هو حيوان يفكر؟ أم حيوان يتكلم؟ أم حيوان
يضحك؟ لا شيء من هذا كله وإلا ما اعتبرنا الحمقى أناسا ولا كان علينا
إزاءهم أدنى حق أو واجب: بوسعنا أن نتخلص منهم أو أن نأسرهم داخل حديقة
للحيوانات…وتفاديا لآفة هذا الرعب، يفرض الجنس قانونه الذي هو قانون
التناسل: فالإنسان ليس إنسانا إلا لأنه ابن الإنسان. ووحده هذا يكفي، لا
بالضبط لكي تكون لديه واجبات من حيث هو إنسان (فليس ثمة من أخلاق إلا بفعل
الحضارة: ليس ثمة من أخلاق إلا بالنسبة للعقل) بل لكي تكون لديه حقوق. في
الستينات، قيل بأنه ليس ثمة من طبيعة بشرية. وإذا كان الأمر بمثل هذه
البساطة فلماذا هذا الانزعاج الكبير اليوم من عمليات التعديلات الجينية؟
الحقيقة أن كل واحد يعرف جيدا بأن ثمة طبيعة بشرية وبأن هذه الطبيعة هي
جسده: فالطبيعة فيَّ، هي كل ما امتلكته(وكل ما يمكنني أن أنقله لغيري)بفضل
الوراثة؛ والحال أننا ندرك شيئا فشيئا، إلى أي حد هو هذا الأمر مهم
للغاية…ولكني مع ذلك أسجل بأن ذلك لا يؤلف بصريح العبارة طبيعة بشرية: ليس
لأنه ليس ثمة من شيء طبيعي في الإنسان، بل لأن هذه الطبيعة لا تجعل منا،
بَعْدُ غير جنس فريد من الحيوانات. فما هو طبيعي في الإنسان ليس إنسانيا
في شيء، وما هو إنساني ليس طبيعيا. إن علينا أن نميز أساسا، ما بين
الإنسانية البيولوجية(القائمة على التناسل الجسدي: وهذه هي الطبيعة
الإنسانية) والإنسانية التاريخية(القائمة على التناسل العقلي:الحضارة).
ووحدها الأولى المنقولة وراثيا، تكفي لأحصل على حقوق؛ لكن وحدها الثانية
المنقولة عبر التربية تفرض علي واجبات - أولها، احترام الأولى! وبتعبير
آخر،فمن وجهة نظر الثانية فقط، تغدو الأولى باعتبارها واقعة (الانتماء
البيولوجي للجنس البشري) أساس قيام كل حق. إن الإنسانية هي في آن واحد،
ظاهرة بيولوجية وحضارية: ونقطة التقاطع هاته مابين الطبيعة والحضارة هي
الإنسان. فما الذي يسبق ويتصدر؟ الطبيعة بكل تأكيد. لكن وحدها الحضارة
تفرض علينا احترامها ]احترام الطبيعة]…
• ألا يجب على
الفيلسوف والمناضل والمواطن أن يشاركوا في الحياة السياسية إلا انتصارا
لقيمهم الخاصة؟ وألا تجسد التأملات والنقاشات الدائرة حول البيوتيقا مثلا،
نوعا من الحاجة الماسة لفكر اجتماعي يعكس حقيقة حياة المجتمع واستمراره ؟*إن القيم لا تنتصر أبدا: والصراع ينبغي دوما خوضه من جديد…أما فيما
يخص النقاشات حول البيوتيقا فهي تعود أساسا إلى ضرورة التشريع وإلى
الهواجس المعروفة التي تحكم المشرع. إن ثمة مشاكل جديدة وصعبة وذات رهانات
لا يستهان بها. وإن كان لا بد من مناقشتها فهل من أحد ينكر ذلك؟ وإذا كان
ذلك هو ما تقصده بـ"الفكر الاجتماعي" فلست أنكر وجوده – مع أني نادرا ما
أشارك في النقاشات من هذا النوع . لكني لن أستعمل مثل تلك اللفظة مادام
أنه لم يسبق لي أبدا أن رأيت مجتمعا يفكر(فالأفراد وحدهم يفكرون): أفضل
بدلا منها لفظة الديمقراطية. ولئن بَقِيَتْ خارج كل نقاش، فذلك شيء بديهي.
لكن ما قيمة النقاشات دونما إعمال المواطنين لفكرهم؟ وسأقول لك أكثر من
ذلك :أنه إذا كان ثمة حقا "فكر اجتماعي" كما قلت، فيمكن الاستعاضة عن
الديمقراطية بالسوسيولوجيا أو باستطلاعات رأي. لكن حينئذ نكون قد قضينا
على الجمهورية: ولن يتبقى بعدئذ غير ديكتاتورية الحيوان الأكبر، كما يقول
أفلاطون، أو لنقل بتعبير آخر لن يتبقى غير ديكتاتورية القطيع، ديكتاتورية
تكتل النرجسيات الفردية أو الجسمانية …أما الجمهورية فهي شيء آخر :إذ لا
يستدعي الأمر حشد الآراء بل نَحْثَ إرادة .
•إرادة الشعب تقصد …؟*أجل. وبمعنى آخر يمكنني القول أن ذلك ليس إلا ضربا من ضروب الوهم
مادام أن الأفراد وحدهم، يستطيعون، مرة أخرى، أن يريدوا أيا كان. لكن
الديمقراطية، تحقق هذا الوهم، بواسطة الانتخاب العام. ولا يمكن تجاوز روسو
هنا. والشعب لا يعتبر شعبا إلا بقدر ما يكون سيدا: وبوسعه ذلك حالما أكد
إرادته. وعدا ذلك،لا نكون إلا أمام جمهرة، ولا شيء أقل ديمقراطية من
الجمهرة. وبما أن الحيوان الأكبر يفضل الديماغوجيين؛ فليس على المواطنين
إلا التصدي للحيوان الأكبر. فالديمقراطيات لا يمكنها أن تتخلص من الشعبوية
إلا بفضل هذه القدرة على التفكير التي ينطوي عليها كل فرد على حدة.
فالديمقراطية إذن تحت عهدة المواطنين. لنمض إذن إلى أقصى حدود هذه
المفارقة لنؤكد أن: الشعب(كسيد)تحت عهدتنا نحن(كمواطنين)، فالشعب لا وجود
له إلا برعاية من أفراده. وحالما تخلينا عليه لن يبقى بعدئذ شعبا: بل
سيغدو قطيعا وتكتلا وجمهرة، لا يمكننا أن ننتظر منها إلا الأسوأ. وإذا كان
الشعب على سبيل المثال قد أنشأ محاكم وبرلمانات وصناديق الاقتراع…فالقطيع
لا يعرف إلا أن يُلَنِّش1ويهلل بالإجماع. لذلك وجب الدفاع اليوم أكثر من
أي وقت مضى، عن الشعب (وكذا الأفراد)ضد القطيع، ضد هذا القطيع الإعلامي
المدعو بالرأي العام. ضد هذا الحيوان الأكبر المتراس خلف شاشة التلفزة
والمهيأ دوما لمناصرة الديماغوجيين والشعبويين…فأي شيء يفوق نظام تقييم
الإصغائية التلفزيونية سوءا؟ أما الانتخاب العام فهو شيء آخر. إنه ليس
فرجة بل فعل. ولا يتطلب جمهورا قدرما يتطلب مواطنين. علينا إذن أن نمارس
السياسة لكن يستحيل ذلك حالما لم نمارسها جماعة: أي أن نتبادل المعلومات
وأن نفكر ونناقش وننتظم ونتصرف. وعدا ذلك تكون الحرية كما العدالة
مستحيلة. وهذا هو أرقى معنى الديمقراطية وأرقى ما يعبر في نظري عن فكرة
الجمهورية. وكما ترون فالوحدة ليست في شيء برجا عاجيا…
•يجب إذن أن
يُفْتَقد الإيمان ويُتَخلى عن المثل الأعلى الشيوعي: وهذا ما تسمونه
باليأس، على حد تعبيركم. لكن ألا ينطوي مثل هذا السعي على بحث عن الحكمة
والحقيقة، بتكبير الحرف الأول،على مَثَلٍ أعلى، هو الله الذي ينقص
الماديين؟*إنكم أنتم من بادر بوضع هذا الحرف الكبير وليس أنا؛ وبالمناسبة فأنا
لا أبدأ إطلاقا عند كتابتي لأية كلمة مهما كانت، بحرف كبير، اللهم عندما
أكون مجبرا على ذلك بمنطق العادة مثلما الشأن بالنسبة لـ"الله" أو
"الدولة"…لكن لذي قبل أي شيء آخر ملاحظة فيما يخص مسألة اليأس. والحال أن
ثمة ما ذكرتموه: فقدان الإيمان الديني، والفشل الدر يع ليوتوبيا النظام
الشيوعي كما لكل مساعينا من أجل إصلاحه من الداخل…لكن هذه حكايتي: مع أن
الكثير من الناس عاشوا شيئا آخر واقتفوا آثار مسالك أخرى و سيواجهون
بالتالي إحباطات مغايرة…لكن الأهم هو ألا نكذب على أنفسنا فيما يتعلق
بالحياة وألا نهمل هذه الدروس. إذ والحالة هاته أي درس يفوق هذا الدرس
عبرة: عبرة مؤداها أن كل أمل إحباط على الدوام. وذلك لأن هذا الأمل غالبا
ما لا يتحقق، فينتهي الأمر بنا، وهذا ما تذوق طعمه كل واحد، إلى الإحباط
وخيبة الأمل. لكن يحدث أيضا، وهو مالا يسهل عيشه، أن يُحبط أمل ما، لا
لشيء إلا لأنه تحقق؛ وعليه لنلاحظ أن تحققه بالذات هو ما يَفْشَلُ في أن
يمنحنا السعادة التي ننتظرها…إن "برنار شو" على ما أظن هو من قال بأن ثمة
كارثتين في الوجود: الأولى هي عندما لا نصل إلى حد إشباع رغباتنا؛
والثانية هي عندما تُشبع …ونحن عادة ما نتأرجح مابين الحالتين وذلك ما
نسميه بالأمل. "كم سأغدو سعيدا لو…"والحال أن هذا الـ"لو"هو ما لا يتحقق
أحيانا، فنضحي كئيبين، وقد يتحقق أحيانا أخرى فلا نكون بالرغم من ذلك
سعداء. من ثمة العبارة الرائعة لـ"وودي ألان": كم سأكون سعيدا لو كنت
سعيدا!"إنه ليس سعيدا قط ولا يستطيع أن يكون كذلك، مادام مايزال يأمل أن
يكون سعيدا…وهذا شأن الحياة بالنسبة لنا جميعا. "فنحن على حد تعبير
باسكال، لا نحيا أبدا، بل نأمل أن نحيا…"ويضيف "إننا لن نغدو سعداء أبدا
طالما بقينا نروم دائما بلوغ السعادة. "لا أريد أن أتحدث طويلا عن هذا
الموضوع: لقد تكلمت عنه صفحات بأكملها…لكني أود فقط أن أضيف بأننا بالعكس
لا نكون سعداء إلا أثناء لحظات الرضا، حيث لا نأمل في أي شيء؛ وبأننا لا
نكون سعداء إلا بقدرما نستطيع أن نتحمله من يأس! أكيد: لأن السعادة هي على
الدوام غايتنا بطبيعة الحال، مما يفيد أيضا بأننا لن نلوذ بها إلا إذا
تخلينا عنها. هذا ما أكدته منذ البداية، أقصد انطلاقا من مقدمة قصة إيكار:
فالخلاص إما أن يكون ميئوسا منه أو لا يكون. لأن الحياة مُحْبٍطَةٌ على
الدوام ونحن بالتالي لا نتخلص من الإحباط إلا بتحررنا من الأمل؛ ولأن
أحلامنا لا تفتأ تحول دون بلوغنا السعادة في سياق مطاردتنا لها ولأن
رغباتنا يصعب إشباعها، أو يصعب عليها حتى ولئن أُشْبٍعَتْ أن
تُشْبٍعَنَا.لأن الله وحده يستطيع أن يخلصنا، لكن ما من إله ثمة وما من
خلاص. لأننا كائنات منذورة للموت والألم. ولأننا نخاف على أبنائنا. ولأننا
لا نعرف أن نحب دونما ارتعاش…وهذا هو أكبر درس يلقننا إياه بوذا: إن
الحياة كلها ألم ليس بمقدورنا أن نتخلص منه، إلا إذا تخلصنا أولا من
آمالنا.
•تتكلمون بالرغم من ذلك عن نوع من"اليأس المَرِح"…*أكيد، مادامت كل كآبة مصدرها الإحباط ! وهذا مرة أخرى درس من دروس
بوذا وكذا أبيقور وسبينوزا وكل الحكماء، وهو درس في الفرح. لِنَدَعْ جانبا
كل ما يفرق بينهم مع أنه ليس يستهان به ولا بتافه؛لندع جانبا، كل هؤلاء
وغيرهم ولنمر للمهم. أقصد مسألة الأمل: فالأمل في السعادة هو ما يفصلنا
عنها("كم سأغدو سعيدا لو…")ويزج بنا في حضن الإحباط والكآبة فيما يتصل
بالماضي وفي حضن القلق فيما يتصل بالمستقبل. وبخلاف ذلك، فالذي يتخلى كليا
عن كل مسعى في أن يضحى سعيدا هو وحده بلا شك من سيضحى من ثمة سعيدا. فهل
من حكمة عدا هاته؟ هل من طهارة عدا هاته؟ إن اليأس والغبطة وجهان لعملة
واحدة أو لنقل بالأحرى أن الثانية تبدأ عند نهاية الأول: يتعلق الأمر
بالمرور عبر الوجهة الأخرى لليأس، مما يقتضي منا أولا أن نقبل بمواجهته
والإقامة فيه والتيهان في دروبه …
حينئذ ستقولون لي:"بأنه نموذج أمثل جديد، وأمل جديد …"أجل، ودونما أدنى
شك، وطالما أنه ليس غير ذلك فهو أيضا حلم يفصلنا عن الحياة الحقيقية.
وعليه وجب التخلي أيضا عن الحكمة. أتذكر عندما أَقْدَمْتُ على تأليف قصة
قصيرة، وهي أقصر وآخر قصة كتبتها؛ كان ذلك منذ سنين خلت، أيام كنت شغوفا
إلى حد ما بالأدب. كانت هذه القصة باختصار، تدور حول جملة واحدة بعنوان
الحكيم. وهي كالتالي: لقد أدرك الحكيم في آخر أيام حياته أن الحكمة بدورها
بلا جدوى. "وهذا هو مرة أخرى ما كان ضربا من ضروب الأدب. أن يكون الأدب
بلا جدوى، أمر يدركه معظم الناس، حتى قبل أولئك الذين ليسو حكماء إلا بهذا
الشرط. فالحكمة ليست إلا حلم فيلسوف ينبغي على الفلسفة كذلك أن
تُخَلِّصَنا منه. فلا وجود للحكمة: ليس ثمة إلا الحكماء، وهم كلهم مختلفون
ولا أحد منهم بالطبع يؤمن بالحكمة…
سأعود إذن إلى سؤالكم، فالحكمة ليست بدين جديد، ولا يمكننا بلوغها إلا إذا لم نعد نؤمن بها!
•وماذا عن الحقيقة؟ *هذا شأن آخر. إذ لا يقتضي الأمر الإيمان بها أكثر مما يقتضي الإلمام
بها. وإذا حصل أن آمنا بها مثلما يوضح ذلك هيوم فعلى نحو آخر. إنها ليست
على نحو الإيمان الديني لأن الحقيقة لا تأمر ولا تقاضي ولأنها لا تَعِدُ
بأي شيء ولا تُنْذِرُ بأي شيء مادامت لا تقوم لا على الحب ولا على
السماحة-لأن الحقيقة ليست إلها! وهذا أهم ما كشف عنه باسكال كعادته وبشكل
رائع إذ على حد تعبيره:"الحقيقة بدون محبة ليست هي الله". المسألة إذن هي
أن نعرف ما إذا كانت الحقيقة في تساوق تام مع المحبة كما يقول الدين أو
بتعبير آخر أن نعرف ما إذا كانت الحقيقة تحبنا أو ما إذا كان علينا أن
نحبها بغض النظر عن حبها لنا، أن نحبها حبا مجانيا، حبا يكاد يخلو من كل
مصلحة، حبا خالصا وفريدا من نوعه :المسألة تكمن فيما إذا كان علينا أن
نحبها ولو خسرنا ودونما تمني!
أما التخلي عن الحقيقة ذاتها، فكل من يرغب في ذلك هو حر؛ أما بالنسبة
لي فلعمري استطعت أبدا! لقد صادفت الكثير من الحقائق، وبالرغم من أن
أغلبها يزعجني كان من المستحيل بالنسبة لي أن أتنكر لها أو حتى أن أشك
فيها بتعبير ديكارت… وأعرف مع ذلك أن هذه الاستحالة بلا معنى وبأن الشكاك
من ثمة على حق. أجل فمونتاني وهيوم أوضحُ فلسفيا من سبينوزا. ذلك أن
الأخلاق المبرهن عليها على نحو هندسي ليست إلا خدعة. فالفلسفة ليست علما
ولا يمكنها أن تكون كذلك. ومثلما أن الافتراض من قبيل "العلوم حقة "أو "
العلم كذا حق" ليس افتراضا علميا(إنها بطبيعة الحال افتراضات فلسفية على
الأقل طالما أن فيلسوفا ينشغل بها) فليس ثمة من حقيقة علمية: ليس ثمة غير
معارف علمية، هي دوما نسبية وتقريبية ومؤقتة، إنها دوما موضع الشك ومشبوه
في أمرها…أجل. لكني أرى كذلك أن الفكر يستحيل دونما وجود الحقيقة، وبأنه
حتى ولو أن هذه الحقيقة ليست معطاة أبدا على نحو مطلق، وهو ما لست أنكره،
فنحن لن نستطيع مع ذلك أن نتجاوزها ولا أن نتصرف كما لو كانت لا وجود لها
أساسا(اللهم إذا كنا على محمل السفسطائية). أمام الافتراضين
التاليين:"الأرض تدور حول الشمس" و"الشمس تدور حول الأرض" كيف لنا أن نشك
في كون أحدهما أصدق من الآخر؟ وغالبا ما نلجأ إلى نسبية إنشتاين للزعم بأن
كل حقيقة نسبية، من حيث كون النسبية هي ما يعارض الموضوعية. وهذا بطبيعة
الحال فهم مغلوط: لأن نظرية إنشتاين ليست أكثر نسبية، بمعنى كهذ