أندري
براهيك عالم فيزياء فلكية، أستاذ في جامعة باريس- ديدرو وفي مفوضية الطاقة
الذرية والطاقات البديلة. هو أحد المتخصصين العالميين في دراسة تكون
النظام الشمسي وتطور حلقات الكواكب. من مؤلفاته "أبناء الشمس" 1999،
"أنوار النجوم"2008، و"من نار وجليد"2010. وآخر ما نشر في 2012 "العلم ،
ذلك الطموح الفرنسي". س
- لقد سمح القرن الـ 20 بالقيام بوثبة معتبرة في معرفة الكون. هل يمكن
القول أن ذلك يعادل الثورة الكوبرنيكية في القرن السادس عشر؟ ج
- هناك لحظات عظيمة في تاريخ العلوم ويمثل القرن الـ 20 لحظة جوهرية في
هذا الشأن. ولكن اسمحي لي أن أدقق أمرا فيما يخص كوبرنيكوس: فهو قد استلهم
ونهل بشكل واسع من كتابات أريستيك دو سوموس، وهو فلكيّ ورياضيّ عاش منذ
حوالي 2300 سنة. هو الأب الحقيقي للهيليوسونتريزم ( النظرية القائلة بأن
الشمس هي مركز العالم)! ولكن إذا عدنا إلى سؤالك وإذا ما استعرضنا سريعا
تاريخ علوم الكون، يمكن القول إنّ هناك ثلاث لحظات حاسمة : أوّلا الفكر
اليوناني الذي -وبعيدا عن فكرة عالم سحري- ابتدع الاستدلال العقلاني (لكلّ
علّة معلول ولكلّ معلول علّة). ثم النهضة العلمية مع كوبرنيكوس، تيكو
براهي، كيبلر، غاليلو ونيوتن. وفي هذه المرحلة كان المنهج العلمي قائما
بركيزتيه المتلازمتين: النظرية والاستدلال من جهة، والملاحظة والتجريب من
جهة أخرى. لقد ورثت أوروبا الغربية هذه الثورة العلمية وما زلنا نستفيد
منها إلى اليوم. وبعد ذلك جاءت لحظة ثالثة عظيمة هي لحظة القرن
العشرين. وهكذا سبق اكتشاف النسبية العامة (وصف المتناهي في الكبر)
والميكانيك الكوانتي(الذي وصف المتناهي في الصغر)، الثورة العميقة التي
عرفتها البيولوجيا (علم الانسان) وعلم الفلك (علم الكون).
لماذا هي أساسية تلك الثورات؟ نحن
ننعم بتطبيقات هذه الاكتشافات في كل لحظة من حياتنا. بدون نظرية الفيزياء
الكوانتية مثلا وبدون نظرية انشتاين، لا يشتغل هاتفك النقال أو النظام
الموجه لسيارتك! الغلاف الجوي حجاب واقِ إذ هو لا يسمح لنا بالتنفس فحسب
ولكنه يحمينا من إشعاعات قاتلة (ما فوق البنفسجية، س وغاما ). وفي نفس
الوقت فهو يحجب عنّا مجموعة من المعلومات. ولأوّل مرّة في التاريخ تمكّن
الانسان من الذهاب إلى خارج الغلاف الجوّيّ. وأصبحت أجهزتنا قادرة على
التقاط كلّ الأشعة (راديو، مليمترية، ماتحت الحمراء، ما فوق البنفسجية، س،
غاما،) وحتى تلك الاشعة التي لا تراها عين الإنسان. ومن ناحية أخرى أرسلت
مجسات (مسابير) متطوّرة أكثر فأكثر لزيارة كل كواكب النظام الشمسي. ولئن
ذهب منذ بعض قرون ماجلان وكريستوف كولومبس وجيمس كوك وبوغنفيل للبحث عن
أراض جديدة، فإنّ الحدود الجديدة اليوم هي في الفضاء. وغدا سنصل وننزل فوق
هذه الأراضي الجديدة ونستخرج منها كثيرا من المواد الأولية.
هل يمكن تلخيص ما تعلّمناه مما أرسلته تلك الأجهزة المرسلة في الفضاء؟ لم
نر خلال ألفيات سوى الضوء المرئيّ في السماء. أما اليوم فنحن نتمتع بألوان
المتخفّي المحجوب! لقد انتقلنا من عزف الكمان المنفرد إلى الحفلة
الموسيقية السيمفونية. فهمنا أنّ ما كنّا نلاحظه إلى حدّ الآن لم كان سوى
الجزء الصغير من الواقع. لقد تغيّر تصوّرنا للكون تماما!
منذ
اكتشاف فكرة الانفجار الأعظم، البينغ بونغ، ووضع إطار مفاهيمي لعالم في
تمدّد، فهل حيّر هذا الأمر علماء الفيزياء الفلكية و علماء نشوء الكون
(كوسمولوج) ألم تصبهم الدوخة؟ نعم.. بطبيعة
الحال! كل اكتشاف جديد تولد معه حصته من المجاهيل: نأمل دائما الوصول إلى
إجابات عن أسئلة محددة ولكن تظهر دائما عشرات الأسئلة الجديدة في كل مرة.
في مجال العلوم، لا يوجد كتاب مقدس. يجب نقد كل ما يكتب. ولا يمكن أن
نتقدم إلا هكذا. أنا أطرح من الأسئلة اليوم أكثر مما كنت أطرحه منذ 40
سنة، رغم أنني كنت محظوظا بتعلم الكثير من الأشياء. منذ 2003 تحديدا، سمحت
لنا ملاحظة التقلبات المحلية للإشعاع الكوني الحفري بتحديد لحظة بداية
توسع الكون : عمر الكون 13،7 مليار سنة وهي مدة يجب مقارنتها بعمر الأرض
الذي يبلغ 4،55 مليار سنة.
كيف جاءت الفكرة القائلة بأن الكون في تمدّد وكيف تطورت؟في
سنة 1920 و خلال محاضرة في شيكاغو نشب حوار بين الذين يعتقدون بأن الكون
(مسطح الشكل) قد كان موجودا في مجرّتنا (درب التبانة) والذين ينظرون إليها
كــ"كون- جزيرة" بين جزر أخرى. وكان هؤلاء على صواب. ففي خلال سنوات
1920-1930 اكتشف إدوين هوبل ومراقبون آخرون عددا كبيرا من المجرّات فيما
وراء مجرتنا. عن طريق منظار مقرّب جديد منصوب على جبل ويلسون في أعالي لوس
أنجلس، لاحظ هوبل أنه كلما كانت مجرّة بعيدة كلما ابتعدت عنا بسرعة وهكذا
يصل إلى الاكتشاف الجوهري: الكون في حالة تمدّد. واستمرت البحوث بعد الحرب
العالمية الثانية مع عالم الفيزياء الفلكية ذي الروسي الأصل غاموو: جاء
بالفكرة القائلة بأنه لو كان هناك إشعاع حارّ جدا في بداية تاريخ الكون،
لكان بقي حتما شيء ما على شكل بقايا إشعاعية متحجرة. ثم جاء مهندسان من بل
تليغراف، آرنو بنزياس وروبرت ولسون اللذان كانا يحاولان تطوير هوائي
اتصالات، فتخطى الرجلان(دون قصد)، مرحلة إضافية: لم يتوصلا للقضاء
على ضوضاء الهوائي، فتخيلا أن مصدر الضوضاء يمكن أن يكون الإشعاع
الأحفوري.. ففازا بجائزة نوبل!
إذن لقد تراكمت أدلة آتية من آفاق بحثية مختلفة جدا؟ نعم
و في كل مرحلة جديدة تولد أسئلة جديدة و مثيرة. مثلا : لقد تساءلنا مدة 50
سنة عما إذا كان هذا التمدد قد كبح أم لا من طرف الجذب الجاذبي فيما بين
المجرات. وكان السؤال الجديد إذن: "هل يتوقف هذا التمدد لينتهي بانهيار
عظيم (’السحق العظيم بعد ’الانفجار العظيم’)؟" لقد حاولنا في التسعينات من
القرن الماضي قياس معدّل التغيرات المحتملة للتمدّد، وما أثار دهشتنا هو
ازدياد سرعة هذا التمدد! ومباشرة طرح السؤال عن مصدر تلك الطاقة القادرة
على إحداث هذه السرعة إذ لا يمكن ان تأتي من الخارج لأن الكون هو تعريفا
كل ما هو موجود. والآن يحاول البحث تفكيك هذا اللغز الجديد. قد يكون في
هذا الكون ’طاقة سوداء’ ( لا نزال نجهل طبيعتها حتى الآن) قد تفسر هذا
التسارع في التمدد. فضلا عن وجود ’مادة سوداء’ (نجهل طبيعتها أيضا) لم
يتمّ الكشف عنها بعد، وربّما تسمح بتفسير سبب دوران سرعة المجرات بسرعة
أكثر مما كان متوقعا كما تظهر ذلك مراقبات حديثة. وأخيرا، وإذا أردنا أن
نقوم بحوصلة عامة، يمكن أن نقدر المادة التي نعرفها والمسماة بالبايرون
بأنها لا تمثل سوى 4 بالمائة من الكون، والمادة السوداء 23 بالمائة،
والطاقة السوداء 73 بالمائة. فبعد ألفيات من الجهد لم نتمكن من إحصاء سوى
نسبة قليلة من المادة التي يتكون منها الكون. وتبقى المغامرة مستمرة!
لكي نبسّط الأمر قليلا، هل هو البحث عن الحلقة المفقودة ؟ إن
شئتِ..نعم! في الواقع ينقص الكثير من الحلقات. من جانب المتناهي في الكبر،
لا يزال أمامنا الكثير نتعلمه. والحال ليس بأحسن منه فيما يخص المتناهي في
الصغر. طوّر زملائي المتخصصون في فيزياء الجسيمات نموذجا أسموه ’النموذج
المعياري’ يتضمن 24 جسيما ابتدائيا (الكترونات، كوارك،الخ). وإلى الآن
يفلت أحد تلك الجسيمات من محاولات اكتشافه : "بوزون هيغس" الشهير. من
المفروض أن تسلط عليه الأضواء بفضل مُسّرع الجسيمات الأوروبي المثبت في
مدينة جنيف والذي بدأ في الخدمة أخيرا. إذا لم نعثر على هذا الــ ’بوزون’،
ينبغي إذن إعادة كل شيء من الصفر من أجل التمكن من فهم المادة على المستوى
الأكثر صغرا! إذا لم نجده ولا شيء غيره، يمكن أن يعرف البحث في هذا
الميدان مرحلة ركود. ولكن إذا كان الحظ معنا ووصلنا إلى اكتشافات جديدة
غير منتظرة، عندها ستحدث قفزة جديدة. يتصور البعض أنّ اكتشافات ذات طبيعة
مماثلة ستحلّ في الوقت نفسه مشاكلنا تجاه المتناهي في الكبر والمتناهي في
الصغر. يتحدثون عن ’لا متناهيين’. ولكن ليس ذلك بالأمر البسيط : أشعر بأنّ
اللامتناهيين هما في الواقع متباعدان إلى ما لانهاية وأننا لم نقف بعد على
كل المفاجآت! على فلاسفة المستقبل أن يتجاوزوا افلاطون وأن يستخلصوا
النتائج من كل ما وصل إليه العلم من جديد حول الكون. ربما سيكون ذلك في
حدود 2100 أو 2200… العلم مثل رواية بوليسية مليء بالقفزات. ولكن تبقى
الصفحة الأخيرة دائما ناقصة. وأود أن أقول: ومن حسن الحظ!
المصدر :André Brahic
أجرى الحوار كارولين برون Caroline Brun