درس
الفيلسوف تشارلز تايلور في جامعة ماكغيل في مونتريال قبل الانتقال إلى
كلية باليول بأكسفورد لدراسة الفلسفة والسياسة. وقد بدأ بكتابة سلسلة من
المقالات المؤثرة حول مفاهيم الحرية وطبيعة التفسير في العلوم الاجتماعية
مذ كان طالبا. أمّا كتبه فقد تمثّلت في قراءات نقدية للفلسفة الهيغلية،
إضافة إلى كتاب بعنوان "مصادر الذات: صناعة الهوية العصرية". وقد صدرت
أحدث أعماله في سنة 2007 تحت عنوان "العصر العلماني"، وتزامن ذلك مع منحه
جائزة تمبلتون تقديرا لما قدمه من أعمال طوال مسيرته العلمية. وقد قدّمت
له هذه الجائزة مع منحة قدرها 1.5 مليون دولار، كما حصل هذا العام أيضا
على جائزة كيوتو، والتي تضمنت منحة قدرها 50 مليون ين ياباني (حوالي 500
ألف دولار).وعلى إثر حصول تايلور على هذه الجائزة قام معه كريس بلور
(Chris Bloor) بحديث شيّق نشرته مجلّة الفلسفة الأمريكيّة الالكترونيّة
(philosophy now) ضمن عددها لشهري جويلية وأوت 2009 رأينا إمتاع القارئ
العربيّ به.بروفيسور تشارلز، هل كنت مندهشا لفوزك بجائزة كيوتو؟نعم، في الواقع اندهشت لذلك، لأنه شرف لا يحظى به إلا قلّة. لم أكن
أتوقع ذلك على الإطلاق، لكنّني تفهّمت الأمر بعد أن ذهبت إلى هناك وتحدّثت
مع أعضاء لجنة التّحكيم، إذ فهمت أنّهم لا يبحثون عن شخص ذي إنجازات مهمّة
على المستوى الفكري فحسب، بل يأخذون بعين الاعتبار أيضا موقفك الشّخصيّ،
وما إذا كان دافعك الأساسيّ مساعدة البشرية، وما إلى ذلك. ولقد كان تطبيق
مثل هذه الأفكار على العالم السياسيّ جزءا هامّا من دوافعي الشخصية.
حتى قبل أن تفوز بجائزة تمبلتون؟هذا صحيح. ولقد كان ذلك العنصر الأكثر إثارة للغرابة، لأنّ هذه الجائزة
كانت تمنح في السنوات السابقة لعلماء الطبيعة المهتمّين بالعلاقة مع القيم
الروحية، لا لأمثالي مهما كنت أنا!! وأنا أعتقد أنني في منزلة وسطى بين
العلوم الإنسانية والاجتماعية.
فيم ستنفق كلّ هذه الأموال؟يتركز الكثير ممّا أقوم به في مجال الفلسفة، وفي عملي بشكل عامّ، على
حلقات بحث. فبعض من أعمل معهم يحتاجون أن يلتقي بعضهم البعض، ونحن لا
يمكننا الانتظار ببساطة إلى أن تتمّ دعوتنا لحضور منتدى في لندن أو في أيّ
مكان آخر. ومن هنا، فمن المفيد جدا أن تكون قادرا على التحرّك، وأن تكون
قادرا على تحريك الآخرين والجمع بينهم في إطار مجموعات، سواء كان ذلك في
نيويورك أو شيكاغو أو أوروبا، أو حتى في دلهي، وهذه تعدّ واحدة من الأماكن
التي اعتدنا الاجتماع فيها. هذا أمر ضروريّ لكلّ من يمارس هذا النوع من
العمل، إلا إذا كان بإمكانك الاكتفاء بذاتك، وهذا ما لا طاقة لي به. أنا
بحاجة لأن أعمل بهذه الطريقة، لأنّ ما أقوم به يستدعي التقيّد بحدود صارمة
قد يسبّب تجاوزها الوقوع في أخطاء كثيرة والدّخول في مجالات عمل المؤرخين
وعلماء الاجتماع والسّياسة. فأنت تتفادى الوقوع في الكثير من الأخطاء
الرهيبة إن كنت تعمل في وحدة مع علماء اجتماع ومؤرخين…
لقد وجدت الفلسفة
التحليلية في كلية باليول جافّة وسطحيّة. بم تنصح الطلاب الذين قد يجدون
الفلسفة مثيرة للاشمئزاز أو مخالفة لما كانوا يتوقعون؟حقا إنّها حالة "DIY" ! - (Do It Your Self) أي افعل ذلك بنفسك وهذا
ليس بالضرورة مستحيلا، وأنا لا أقصد أن تنجز ذلك وحدك. أظنّ أنه من الأفضل
أن أوضّح هذا عبر مثال من سيرتي الذاتية. فعندما انتابني مثل ذلك الشعور
في أكسفورد، وجدت مجموعة من طلاب الدراسات العليا يتشاركون جميعا في طريقة
التفكير، وسرعان ما اكتشفنا بعض الكتاب المهمّين- في حالتنا كان مارلو
بونتي- فبدأنا في قراءتهم معا. هذا ما عليك فعله في بعض الأحيان، إلا إذا
لم يكن ذلك ممكنا في دورتك. أمّا اليوم فقد بات من السهل أن تطرح وتناقش
العديد من المواضيع الهامة على شبكة الإنترنت مقارنة بما كانت عليه حالنا
في الخمسينات.
على الجانب الآخر،
يشعر العديد من الطلاب، وخاصة في الدورات المتعددة التخصصات، بأن الفلسفة
رائعة ولكنها ساحقة، حيث يشرعون في مطالعة النصوص المطلوبة مثل "الذات
والزمن" لهايدغر أو بعض أعمال فوكو، لكنهم لا يستطيعون فهمها، إذ لا
يعثرون على الشيء الذي كانوا يتوقعون العثور عليه. بم تنصح مثل هؤلاء
الطلاب؟حسن، نعم هذا شيء صعب للغاية، فأنت على حقّ تماما، وأحيانا، كما هو
الحال مع أعمال فوكو، يمكن أن يستغرق الأمر الكثير من الوقت، لا سيما إذا
كنت وحدك في مواجهة النص، تقرؤه للمرة العاشرة وتتساءل: "ما الذي يحدث؟."
لكن، توجد بعض القراءات الفلسفية الجيدة التي يمكنها مساعدتك. فقد كتب
هيوبرت دريفوس قراءة لـلقسم الأول من "الذات والزمن" وأعتقد حقا أنها تسدّ
الفجوة بين هايدغر وأي شخص ينتمي إلى العالم الناطق بالإنكليزية ولديه
معرفة محدودة في ميدان الفلسفة. ولكن، من المؤكد أنه يجب عليك إعادة صياغة
عقلك عند قراءة كل من هايدغر وفوكو (يضحك). فأنت لا تفهم محتوى نصوصهما
على الفور، لأنهما لا يكتبان بنفس اللغة التي تعوّدنا عليها.
هل تعتقد أنه توجد مشكلة في محاولة احتواء مثل هؤلاء المفكرين المميّزين والعسير فهمهم في منهج جامعي نموذجي واحد؟في أي لحظة، وفي أي حالة يتناقش فيها الناس، توجد افتراضات هي من العمق
إلى درجة أنه لا ينظر إليها على أنها كذلك، فهي تبدو واضحة على غرار
"اثنان زائد اثنان يساوي أربعة" والمثال العظيم الذي كنت أواجهه طوال
حياتي هو التقليد المعرفي عند ديكارت حين يقول في إحدى رسائله إننا نكتسب
جميع أفكارنا من تأثير العالم الخارجي علينا وهو ما ينشئ بدوره التمثل
داخل أذهاننا. فحين نقول "اثنان زائد اثنان يساوي أربعة"، فهذا يعتبر أمرا
واضحا بذاته، إلا أنه في الحقيقة أمر خاطئ تماما تبعا لطرق أخرى (يضحك).
ولكن الناس لا يرون ذلك: لأنهم منغمسون تماما داخل طريقة التفكير
"الواضحة" إلى درجة أنه لا يخطر في بالهم أبدا أن يكون ذلك خاطئا. فحين
تصبح شخصا يفكر فيما وراء ما هو واضح، سوف تصاب في أوّل الأمر بالحيرة
بسبب ما سيقوله النّاس، وستبدو لهم وكأنّك تهذي: "اثنان زائد اثنان يساوي
خمسة"!!. أن تعيد صياغة عقلك يعني أن تصبح قادرا على استيعاب النظم التي
لا جدال حولها والنظر إليها على أساس أنها ليست بالضرورة صائبة، أو ربما
هي كذلك بطريقة ما في النهاية، لكن يجب أن تناقشها في ضوء الاحتمالات
الأخرى. وهذا تغيير كبير جدا. ولكن قبل أن يحدث مثل هذا التغيير، يمكن أن
تصاب بالحيرة عند قراءتك نصّا يتحدى افتراضاتك الأساسية، إذ سيبدو وكأنّه
ينكر حقائق واضحة حول العالم والعقل.
لقد كنت تحاول غالبا
في عملك أن تصحّح نوعا من عدم فهمنا لثقافتنا. فعلى سبيل المثال، وصفت
كتابك "مصادر الذات" بأنه "مقال في الاسترجاع". فنحن إلى حدّ ما نجهل ما
الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة من تاريخنا، لذلك فإنّ عملك هو محاولة لجعل
الثقافة الغربية في القرن الواحد والعشرين تفسّر نفسها بنفسها.أعتقد أن هذا صحيح. وأنا أحاول من خلال ذلك معاودة الغوص داخل التاريخ.
فأن تعايش التحولات قد يجعلك تفهم شيئا عن الكيفية التي وصلت بها إلى ما
أنت عليه اليوم. لكن، يمكن للأجيال القادمة أن تفقد النظرة التاريخية ممّا
يجعلها تعتبر المشهد العقلي الذي تعيشه أمرا بدهيّا تماما، وهي بذلك تفوّت
شيئا حول طبيعة هذا المشهد، وحول طبيعة النقاط المرجعية لهويتها، فتأخذها
على أساس أنها ليست نقاط مرجعية محتملة تمّ تبنّيها، بل بوصفها شيئا
طبيعيا لا يمكن تجنّبه. إنها تعيش هويتها، لكن بطريقة تخفي الكثير من
سماتها وأبعادها. لذا فإن المسألة هي مسألة استرجاع/استرداد المسار الذي
أوصلك إلى هنا، وهذا ما أعتقد أنّه ينبغي أن يكون جزءا هاما من العمل
الفلسفي.
كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟حسنا، أعتقد أنه سبق أن وجدت لحظات في تاريخ الجامعة كان فيها هذا
النوع من الاسترجاع أمرا ميسورا إلى أقصى الحدود. لقد كنت تجد في زمن ماكس
فيبر - ونحن هنا ربّما نضخّم الأمر عاطفيا ولكن حتى قبله بقليل- أن طلاب
الفلسفة في ألمانيا يتلقون الكثير من الدروس المعمّقة حول الفلسفة
اليونانية وتاريخ الفلسفة وكانط والمثالية الألمانية، لكنهم كانوا يطالعون
أيضا فيبر ودوركايم وترولتش وديلثي، وبذلك يتكوّن لديهم فهم واسع حول
الكيفية التي وصلت بها الأسئلة التي تم طرحها إلى تلك المرحلة.
وقد شدّ هذا الأمر انتباهي حين تمكنّت من رؤية نهايته، ذلك أنّني أظن
أنه بدأ حقا بالاندثار، حتى في ألمانيا. وعندما زرت هابرماس آخر مرة، كان
لا يزال يقدم مثل ذلك التعليم لطلابه، رغم أنّه لم يكن بالضرورة يتفق مع
الكثير من الأشياء التي كان ينقلها إليهم. وهذا ما أغضبني عندما ذهبت إلى
أكسفورد، فقد كان أناسها محدودين: إنهم لا يقرؤون ما نسبته واحد على عشرة
من التقاليد التي أوصلتهم إلى ما هم عليه اليوم.
أردت أن أسألك عن كتابك "مصادر الذات". فهذا العام يمثل الذكرى العشرين لصدور طبعته الأولى.هذا صحيح، بالفعل! لقد كان ذلك سريعا، إن الأمر يبدو وكأنه تمّ
البارحة! لقد كان ذلك أوّل كتاب قدمت فيه بطريقة منهجية ما أريد قوله. لقد
كتبت قبله كتبا عن هيغل، والكثير من المقالات عن مظاهر العلوم الاجتماعية.
وقد كنت أريد بشدة لا مجرد أن أجادل ضدّ مواقع معينة في العلوم الاجتماعية
وعلم النفس وما شاكلها فحسب، لكن أن أفهم لماذا كان الناس يدافعون عن تلك
المواقف التي أرى أنها خاطئة وغير مقنعة بالمرة. ولكي تفهم لماذا، يجب أن
تستوعب المفهوم الحديث للذات. إذاً، كانت تلك أوّل محاولة قمت بها لفتح
ذلك المجال، ولم تكن مجرد مجادلة ضد بعض الأخطاء، بل محاولة لتفسير كيف
تنشأ هذه الوضعية التي تكون فيها مثل هذه الأخطاء مقنعة للناس. ومازلت
أشعر بأن ذلك كان نقطة تحول حقيقيّ في عملي، لأنه منذ ذلك الحين وأنا أعمل
وأتوسع في حقل المشاكل ذاك، فكيف وصلنا إلى نقطة نتجادل فيها حول "س" و"ص"
مفترضين أنها نقيضة "ب" و"ت"، ولم تكن البدائل الواضحة بهذا الشّكل دون
غيره. ولقد بذلت من أجل ذلك جهدا كبيرا في الاسترجاع، في محاولة معرفة كيف
وصلنا إلى هنا، وأيضا في محاولة فهم الأمر بطريقة مختلفة.
لديك الكثير من
الاستنتاجات القاطعة حول الهوية الحديثة لا تستقيها من الفلسفة بل وكذلك
من تاريخ الدين والأدب والفن وما تابعه، بحيث يصعب على أيّ شخص لا يملك
معرفة واسعة تقييم ادّعاءاتك على نحو كاف.نعم. عظيم جدا (يضحك)، وهذا ربما ما سيدفع الناس إلى قراءة شيء ما! هذا
يتصل مع ما كنت أقوله عن الصورة المثالية التي أحملها حول الجامعات
الألمانية في عشرينات القرن الماضي. حقا يجب أن يكون لدينا هذا النوع من
الاتساع في نظام تعليمنا لتاريخ العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية وما
تابعها. لذا أنا لست راضيا عن ردة الفعل هذه. إذا كان الناس يريدون
التيقّن من صحّة فكرة ما، فعليهم أن يطالعوا، وهذا ما سيجعلهم قادرين على
تكوين وجهة نظرهم الخاصة للطريقة التي وصلنا بها إلى ما نحن عليه اليوم.
يحتوي الكتاب على
تصريح مسجّل يلخص نقدك للجوانب الضحلة في ثقافتنا: "لا شيء يمكن أن يعتبر
إنجازا في عالم لا يمثّل فيه الأدب شيئا ذا بال عدا أنه إرضاء للذات".حسنا، فـ"ما يجعل الأشياء مهمّة في نهاية المطاف "لا يمكن أن يتحوّل
ببساطة إلى تحقيق الذّات أو إرضائها. وهذا ما يضعك في حالة من التّراجع
وتقول: "حسنا! ولكن ما الذي سوف يمنحني الرضا الذاتي؟". ولسوف يتوجّب عليك
في النهاية أن تشير إلى شيء ما يتجاوز ذاتك الشخصي، مثل الطريقة التي تسير
بها الأمور أو حالة الكون أو وضعية البشر أو الاتجاه الذي يسلكه التاريخ
الإنساني، حيث تحمل جلّ هذه الأمور التي يجد فيها الناس رضا عميقا عن
الذات مثل هذه الميزة، فالبعض قد يقول: "أريد أن أعمل مع منظمة أطباء بلا
حدود في الكونغو"، وقد يقول آخر: "أريد أن أكتب أعظم رواية كنديّة على
الإطلاق". ينبغي أن يكون واضحا أنّ كلّ هذه الأشكال من الارتياح العميق
تلامس طرفا آخر يتجاوزك. لذا فإنّ تصريحي ولئن كان مسجّلا إلاّ أنّه يحمل
في طيّاته حقيقة هامّة.
حين كنت أفكّر هذا الصباح في كتابك الأخير "العصر العلماني"، مرّت حافلة
كتب عليها شعار لجماعة ملحدة (أو لجماعة لا أدرية بشكل أوضح): "على الأرجح
لا يوجد إله: توقّف عن القلق الآن واستمتع بالحياة".لقد سمعت عن هذا! إنه أمر يدفع دفعا إلى الضحك بشدّة. هذا أمر شديد
الغرابة، أليس كذلك؟ أنا أحاول معرفة لماذا يحدث هذا في زمننا. لماذا نشهد
هذه الظواهر الجديدة الخاصّة بالمحتارين/الملحدين الرّاغبين في نشر
"الإنجيل"، ويكونون أحيانا غاضبين جدّا؟. أعتقد أن هذا يشبه ردّ الأساقفة
على داروين خلال القرن التاسع عشر. فقد كان عند الأساقفة شعور بأنّ العالم
كان يسير في اتجاه معيّن إثر حدوث الكثير من التحوّلات… وفجأة اكتشفوا أنّ
توقّعاتهم كانت خاطئة، فاهتزّوا بصفة عنيفة وغضبوا غاية الغضب. وبالمثل،
ها نحن نرى اليوم نفس الأمر يحدث بين المثقفين العلمانيين/الليبيرالين
الذين شعروا أنّ العالم يسير في اتّجاه معيّن، وأنّ كل شيء يسير حسب
الخطة، وحين اتّضح لهم أنّهم على خطأ هاهم يهتزّون ويغضبون، إنّها لظواهر
مثيرة للشّفقة وكأنّ وضع ملصقات على الحافلات سوف يجعل الناس يغيّرون
بطريقة ما وجهات نظرهم حول الله والكون ومعنى الحياة.. إلخ. شعار على
حافلة! ليس من المرجح أن يغيّر هذا شيئا أساسيا داخل أيّ شخص.
تبدو إشارتك إلى أن
الناس المعاصرين عالقون بين قطبين متنافرين ذات دلالة. فالمشهد يتضمّن حسب
ما رسمته تعصّبا إلحاديّا من جهة، وتعصبّا دينيّا من الجهة المقابلة، وهو
ما يترك الشخص العادي متردّدا بين الأمرين ولا ينجذب إلى أحدهما، ليبقى في
منزلة بين المنزلتين متخبّطا في نوع من العبث.هذا صحيح. وهو لا يؤدي إلا إلى الحيرة أو إلى الحرتقة (bricolage) أي
أن تكوّن موقفك الخاص. وفي كتابي "العصر العلماني" ذكرت العديد من
الشخصيات التي تقوم بذلك بشكل واضح. فـ"فيكتور هيغو"، وهو فرنسيّ نموذجيّ
من فرنسيّي القرن التاسع عشر، يجسّد مثالا عن أشخاص كونوا موقفا وسطيا،
وأعتقد أن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة للغاية اليوم، بما في ذلك الحالات
التي يفرض فيها الواقع على الناس حرتقة ما (de facto bricolage)، لكنّه في
نهاية المطاف موقف غير نابع من ذواتهم. كما توجد حالات يكوّن فيها الناس
موقفهم نتيجة وعي ذاتي. وهذا ما يقصده النّاس غالبا حين يقول أحدهم: "أنا
روحاني، ولكني لست متديّنا". وترمز عبارة "لست متديّنا" إلى أنّي غير منتم
لأيّ تقليد ذي صيغة محدّدة مسبقا عليّ التقيّد بها، في حين تعني عبارة
"أنا روحاني" أنّي منفتح على جلّ التقاليد الموجودة.
أعتقد بلا شك أن هذا المشهد الذي يتضمّن عددا هائلا من المواقف
المختلفة لروحانيين وغير روحانيين إضافة إلى ما ذكرناه من قبل، والمتعايشة
في نفس الوقت داخل نفس المجتمع، هو أمر لم يسبق له مثيل في التاريخ، ولا
يزال عدد المواقف آخذا في التضاعف. حيث يوجد منها اليوم ما لم يتم مجرد
التفكير فيه على الإطلاق قبل قرن. ويعيش مجال العبور بين النمطين
المتعصبين من الأشخاص حالة فوران، وما قمت به ليس سوى إلقاء نظرة على بعض
الديناميكيات الكامنة فيه.
لقد أشرت في عملك إلى
أنّ الديمقراطية الليبرالية تدخل في حالة ارتباك عندما تعتبر نفسها
محايدة. فأنت ترى أنّ "الديمقراطية الليبرالية" هي قيمة في حد ذاتها، تدخل
أحيانا في صراع مع القيم الأخرى، كما ينبغي أن يحدث، ويجب علينا الاعتراف
بأن هذا أمر لا يمكن تجنبه.نعم. وأعتقد أنه لا يوجد أيّ شيء دائم الحياد، لا سيما في ما يتعلق
بالمفاهيم التي تحدّد جودة الحياة. وعلى سبيل المثال، فإنّ مفهوم
المشاركة، وكونك مواطنا، يعتبر جزءا من عملية تحديد مستقبلك ومستقبل
مجتمعك، وأظن أن هذا لا يشكل "فضيلة اختيارية"، كما هي في الواقع (يضحك):
إنها مرتبطة بالشريان الحي لليبرالية، والمجتمع الديمقراطي، وينبغي علينا
أن نكون صريحين حول هذا الأمر.
سبق أن اقترحت أن
يتمّ عند النظر في ادّعاءات المنظورات الثقافية المختلفة تبني ما أسميته
"لغة التغاير الواضح" حتّى يمكن إقامة شكل من أشكال الخطاب الذي يسلط
الضوء على الاختلافات بين تلك الثقافات بدلا من محاولة صقلها والجمع بينها. أعتقد أن هذا ما يجب أن نتوجه إليه إن كنا نرغب في نقل هذه الاختلافات
إلى مجال يمكن أن نقيم حوله نقاشا هادئا وعقلانيا حول كيفية عيشنا المشترك
في ظل التوتر القائم بين الجماعات المختلفة. إنّ العودة إلى هذه اللّغة هي
القادرة وحدها على إثارة نقاش هادئ بعيد عن وصم الآخر. وهذا ليس أمرا مهما
داخل الفصول الدراسية أو في دراسة الإناسة فحسب، بل هو مهم أيضا داخل
مناقشاتنا العامة. فنحن بحاجة ماسة إلى هذا الأمر داخل مجتمعاتنا
المتنوعة. وأنا مسرور جدا بخصوص ما حدث في الكيبيك من تشاور عام حول
التطرف الديني. فحين بدأ الناس بالتفوه بأقوال تعبر عن خوفهم من الأجانب
وكراهيتهم، تصدّى بعضهم، وخاصة المسلمون منهم لذلك وقالوا: "هذا خطأ". ومن
هنا بدأ الحوار يكتسي صورة غير هزليّة لعرض الاختلافات. وأعتقد أن مثل هذه
الحوارات هي ما يجب أن نسعى إليه دائما.
في مقابلة أجراها معك
براين ماغي (Bryan Magee) في سنة 1978، اقتبست درسا من ماركس مفاده أنه
"في نفس اللحظة التي طور فيها البشر إمكانيات هائلة للسيطرة على حياتهم
وأن يكونوا ما يشاؤون، فإنّهم خسروا تلك القوة، في الواقع، بفعل
انقساماتهم الداخلية". كما كتبت في مؤلفك "أخلاق الأصالة"، عن "الكفاح
المستمرّ" (la lutta continua)، وهي عبارة اقترضتها من الألوية الحمراء
الإيطالية. فهل كنت تقصد أنّه لا مفرّ من وجود صراع واضطراب داخل
المجتمعات الغربية؟آمل أن لا نضطر إلى الاعتياد على مثل هذه الدرجة من الفوضى في
اقتصادنا! ولكن نعم، لا يوجد حلول نهائية محددة في معناها العامّ. توجد
معضلات عميقة، ونحن ننجذب في اتجاهات مختلفة، لكننا في طريقنا الآن نحو
إيجاد وسيلة أقل تدميرا تتيح لنا جمع الأشياء مع بعضها. وأعتقد أن هذا
ينطبق على الأزمة الحالية أيضا، حيث توجد من جهة الأسواق التي تحتاج إلى
عدد من الوكالات الحرة داخلها، ومن جهة أخرى، توجد الحاجة إلى تجنب
العواقب الوخيمة التي تنجر عن ترك الأسواق دون قيود. ولسوف يكون القرار
صعبا.
وينطبق الشيء ذاته على اتجاهين أسمّيهما بـ"التكنولوجي" و"التّعبيري".
فأنا أعتقد أن معظمنا يميل إلى كليهما معا، لكن من الواضح أنه يوجد أشخاص
يميلون إلى أحدهما أكثر من الآخر، وبذلك ينشأ الانقسام بيننا. ولذا فنحن
لن نتمكن أبدا من التوصل إلى حل قاطع ونهائي. وهذا ما أعنيه بـ"الكفاح
المستمر" (La Lutta Continua). إنّنا نصطدم دائما بمشكل جمع وجهات النظر
معا، ولسوف نجد دائما أشخاصا يدفعون بقوّة في اتجاه واحد دون أن يولوا
انتباها إلى المتطلبات الأخرى. لذا فنحن دائما في حاجة ملحّة إلى أن
نتوصّل معا إلى حلّ يمكنه الصمود لفترة ما في خضمّ الاتجاهات المتضاربة.
إذن، هل يكون الأمل في القدرة على النّضال في سبيل مستوى أرفع تحلّ فيه الصراعات الأساسية للثقافة، مجرّد أمل كاذب؟ نعم. هو أمل كاذب، وهو وإن كان حلما جميلا إلاّ أنّه خلّب. إنه مجرد
أمل كاذب من النوع الذي نجده في الماركسية الأصلية. وهذا يعني أن
الماركسية فلسفة تعتبر قراءتها في غاية الأهمية، لأنها تحمل في طياتها
تعريفا هاما للتناقض الثقافي الرئيسي، إلاّ أنّني ضدّ خطئها المتمثّل في
الاعتقاد بأنّه يمكننا حلّ ذلك التّناقض، وهذا أمر لا يقلّ سوءا عن عدم
رؤيته أصلا، بل ربّما كان كلّ السّوء في تبنّي مثل هذه الرؤية النيو-
ليبرالية العمياء التي لا ترى التناقضات الثقافية الكبرى على الإطلاق،
وتعتقد بأن كل شيء سوف يسير بنجاح بمجرد عولمتها، وهذا هو الحدّ الأقصى
للعمى. يجب على هؤلاء الليبراليين الجدد أن يقرؤوا ماركس، فلعلّ توجّههم
نحو الماركسية يمكّنهم من إصلاحها بإدخال جرعة من الواقعية فيها !