أجرى
فاديم رودنِف حواراً مع كاتيا بوبِنتسوفا حول كتاب ألكساندر دياكوف "ميشيل
فوكو وزمانه" الصادر في بطرسبورغ هذا العام 2010، والواقع في 670 صفحة.
الحوار نشره الملحق الأدبي Exlibris الصادر عن الصحيفة الروسية اليومية
"الجريدة المستقلة" - نيزافيسيمايا غازيتا Nezavisimaja gazetaبتاريخ 16-
9- 2010. فاديم رودْنِف:
هل تذكرين تلك النكتة حول هوسِّرْل الذي رفع، كما هو معروف، شعار (إلى
الأشياء دُرْ)! فقد وصل هوسِّرْل وشتومْبِف إلى محطّة القطارات، فذهب
هوسِّرْل لشراء البطاقات، وبقي شتومبف يحرس الأغراض (الأشياء). ثم تغافل
وابتعد عن المتاع. وإذا بهوسِّرْل يقترب منه ويصرخ به: (إلى الأشياء
دُرْ!).
عندما أقرأ كتاب فوكو "الكلمات والأشياء" أشعر بالرغبة
في أن أصيح بهذه الكلمات نفسها. ليس وحده فوكو غيرَ مفهوم، بل دولوز أيضاً
غيرُ مفهوم، ولكنّه غامض على نحو مَرِح. وهذا ما يبعث فيَّ الرغبة
بالزئير.
كاتيا بوبِنْتسوفا:
وأنا
أيضاً! إنه هذيان، بل وهذيان مملّ، قابض. فكتابه "تاريخ الجنون في العصر
الكلاسيكي" مشوِّق، ولكنه سطحيّ. أكثر ما أعجبني من كتبه "المراقبة
والمعاقبة" و"ولادة العيادة". فاديم رودْنِف:
بصفة عامة، لكلٍّ ذوقُه، بالطبع. ولكنْ من غير اللائق أن يكتب المرء هذا
العدد من الكتب. أمّا مؤرخ الفلسفة دياكوف فها هو يضع كتابه الجيِّد
الثاني. لقد كان الكتاب الأوَّل عن لاكان، وأصدره صديقنا الأفضل فاليري
أناشفيلي قبل مدة قصيرة. إنه كتابٌ معاصر جداً.
كاتيا بوبِنْتسوفا:
فلنتكلم
عن السلطة. إنّ الناس الذين يتكلَّمون عن مساوئ السلطة، وكيف يضايق
الأطبّاءُ النفسيون مرضى الشيزوفرينيا (الفصام)، هم عندي موضعُ شكّ. وذلك
من قبيل: (فلتنظر إلى نفسك!). بينما تجد الناس يصرخون: "فوكو، فوكو! كم
نحن كلُّنا نحبُّ فوكو! (وكم هو يحبِّنا كلَّنا!)". فما الذي قدَّمه فوكو
للثقافة العالميّة؟
فاديم رودْنِف:
وكيف ماذا! أنت تقولين: "إنّ فوكو ليس على حقّ عندما يؤكّد أنّ الجنون لم
يظهر إلا في القرن السابع عشر، وأنّ الأمراض نفسها ظهرت مع ظهور أسماء تلك
الأمراض". ولكنه لم يقُل أيَّ شيء من هذا القبيل. وإذا ما كان قد أكّد ذلك
فإنني أتَّفق معه تماماً. إلا أنّ فوكو، رغم كونه ما بعد بنيوي، يظل
بنيوياً. إذ يظلّ مفهوما النظام والسياق الاجتماعي في المقام الأول من
الأهمية في نظره. والشيء الوحيد الذي يقول به هو أن مفهوم الجنون يتغير
بقوة كبيرة مع تغير هذا السياق. وهذا هو، في الجوهر، كلّ شيء. وكل ما عدا
ذلك ليس إلا تفاصيل.
كاتيا بوبِنْتسوفا:
وهذه
التفاصيل هي تلك الفلسفة التي لا نجدها في كتب فوكو. إنك تتساءل: "عَمَّ
هذا؟ أهو تاريخ الطبّ؟ غير أنّ في كتبه من الميتافيزيقيا ما هو فائض
كثيراً عن الحاجة، ولكي يكون ذلك فلسفة فإنّ هناك القليل جداً من
الميتافيزيقيا". فاديم رودْنِف:
إنّني هنا مستعدّ للموافقة معكِ جزئياً. ولكنْ عليك أن تتذكَّري أنه ألَّف
كتبه تلك في الستينيات، وعليك أن تتذكَّري أيضاً أنّ تاريخ الطبّ، ولا
سيَّما تاريخ الأمراض النفسية، هو أشدُّ فروع العلم تعقيداً. غير أنّ
أهمية كتب فوكو ليست في كونه أوَّلَ من كتب تاريخ الجنون. إنّها كتبٌ
هامَّة وفريدة في نوعها لأنها تجعلك لا تعرف أين تاريخ الثقافة وأين
الفلسفة فيها. أي، بكلمات أخرى، ليس فيها حدٌّ واضح بين ما يفكِّر فيه
فوكو بخصوص الجنون، وما يَفترِض هو، بالاعتماد على الوثائق، أنه كان
موجوداً في الواقع. ولذلك ليس عبثاً أن تكون الطريقة الأشدُّ أهمية كامنةً
هنا في كونه لا يضع بين مزدوجتين ما يقوله طبيب أو حكيم عاش في القرن
السابع عشر أو الثامن عشر، فيظلُّ غيرَ واضح للقارئ مَنِ الذي يتكلم، أهو
فوكو أم بطله.
كاتيا بوبِنْتسوفا:
وفيمَ تتمثَّلُ في رأيك فلسفة الجنون عمليّاً عند فوكو؟ فاديم رودْنِف:
يخيَّل إليَّ أن جوهرها يكمن في قوله التالي: "عندما يقع الإنسان في
الجنون إنّما يقع في حقيقته، وهذه هي الطريق إلى أن يكُون المرء هذه
الحقيقةَ بالكامل، وأن يفقدها بالقدْر نفسه". فما معنى "أن يقع الإنسان في
الجنون يعني أن يقع في حقيقته"؟ هذا يعني، قبل كلّ شيء، أنّه يجد نفسه في
كامل خصائصه وميزاته التي كانت خفيَّة ومخفيَّة حتّى الآن (مثلا، "أن
يُظهِر للملإ عالمَ ميوله السيئة"). غير أن المجنون، بوصفه يعيش في غربة
ذاتية، ليس قادراً على الاحتفاظ لنفسه بالحقيقة عن نفسه، وهذا ما يؤدِّي
في النتيجة إلى فقدانها. إنّ مجمل تاريخ الجنون، وَفقاً لفوكو، هو تاريخ
فقدان المجنون نفسَه واكتسابِها. ففي عصر النهضة يصول الجنون ويجول بين
الناس بوصفه مساوياً لهم (من هنا يجيء البطل الرئيس دون كيخوته). وفي عصر
الباروكو يعزل الجنون نفسه بنفسه على "سفينة الحمقى" المبحرة إلى الأراضي
الموعودة. وفي "العصر الكلاسيكي"، أخيراً، يعزلون الجنون بالقوة. إلا أن
هذا العزل للجنون في القرن الثامن عشر كان ذا طابع "مركَّب" جعل الجنون
يفقد هويته ويذوب في ظاهرة أوسع يسمِّيها فوكو "اللاعقل". وهذا يعني
تحديداً أنهم كانوا يَعزِلون في مكانٍ واحدٍ معاً كلَّ مَن يتصرَّفون على
نحوٍ "غير عاقل"، وبالضبط: المصابين بالأمراض الجنسية، والملحدين،
والـمتحرّرين (أي الأشخاص الذين يكونون "في حالة من التبعية تجعل العقل
فيهم يتحوَّل إلى عبد للرغبات وخادم للحب")، والنصَّابين، و"المعوَّقين
والمجرمين"، و"عاملات الغزْل المُسنّات"، و"الحمقاوات المصابات بعاهة أو
تَشوُّه"، و"الأولاد العاقِّين"، و"الآباء المبذِّرين"، و"المشلولين
الكبار والصغار".
كاتيا بوبِنْتسوفا:
أجَلْ،
ولكنَّ الجنون لم يكن يُعَدُّ "مرضاً نفسياً". فالنفس لا يمكن أن تكون
مجنونة، إذ إنها أساسٌ وجوهرٌ موضوعيٌّ خالد. ثم بعد مُضيِّ قرابة قرن من
الزمان، كما يقول فوكو (أو بُعيد أن صاغ رأي "المعاصرين" لخطابه)، أسفرت
أشياءٌ ضارَّة مختلفة، مثل انتشار الحضارة، وحرية المعتقد، والحرية
السياسية ("ينقلب الحيوان وجهاً للتقدم") عن ازدياد عدد المجانين في
أوروبا زيادة حادّة. لقد خاف الناس من الجنون خوفاً حقيقياً لأوَّل مرَّة،
والشيء الأهم هو أنّهم فهموا أن العزل (الحبس) ليس على الإطلاق ضماناً
للحماية من الجنون، مادام "العقل واللاعقل يختلطان ويتفاعلان" في أماكن
العزل، وبقوَّةٍ يصيبان المدينة كلها، ويهددان المدينة كلها بالجنون.
حينها أدرك الناس أن المطلوب ليس عزل الجنون، بل القضاء عليه، أي شفاءه
بالعلاج. وهكذا حلًّ الطبيب محل الحارس (السجّان). وهكذا اكتسب الجنون
معناه، استعاد نفسه. فاديم رودْنِف:
تعالي ننظر الآن في السؤال الذي يعذِّبنا جميعاً ونحن نقرأ كتب فوكو،
السؤال الذي لم يكن يهمُّ فوكو نفسَه عملياً. ويتلخَّص هذا السؤال في
التالي:
"هل اسم الشيء يظهر مع الشيء أم أن الشيء يمكن أن يكون
موجوداً قبل اسمه بوقت طويل ويكون خلالَه من غير اسم؟ بكلمات أُخرى، هل
نستطيع أن نقول، بخصوص الجنون، إنّ هولدرلِن كان مصاباً بالشيزوفرينيا،
وأنّ نيرون كان مصاباً بصرع هستيري، في حين لم يكن الناس يعرفون مفهوم
الشيزوفرينيا حتّى في زمن هولدرلِن، فكيف بهم في زمن نيرون؟! أي أنّهم لم
يكونوا يعرفون معنى الهستيريّ ولا معنى المصاب بالصرع.
من وجهة النظر الميتافيزيقية، لا يمكن، بالطبع. إذا لم يكن للشيء اسم، فهو
غير موجود. إنّه يكون موجوداً ما دام له اسم. أمَّا من وجهة النظر
التجريبية فربَّما يكون في وسعنا الحديث عن ذلك. إنّه لشيء مضحك دائماً أن
يتباهى المرء بأنه أذكى من الآخرين.
كاتيا بوبِنْتسوفا:
ولكنَّ
تلك الكوكبة من المرضى النفسيين العظماء الذين وُضِعتْ لهم تشخيصاتٌ
معاصرة دقيقة، لا يربطهم أيُّ رابط بـ "الجنون القائم في الحقيقة"، بذلك
الجنون الذي خصّص فوكو له كتبه.
الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 3:25 pm من طرف free men