ميشيل فوكو (1926-1984) هو فيلسوف ومؤرخ فرنسي، ارتبط اسمه بالاتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية. كان له تأثير كبير ليس فقط في حقل الفلسفة، لكن أيضاً في مدى عريض من التخصصات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
مخطط لسيرة فوكو
ولد فوكو في بواتييه، فرنسا، في الخامس عشر من تشرين الأول عام 1926. بدا في سنواته الدراسية أنه كان معذَّباً نفسياً، لكنه كان متألقاً فكرياً. أصبح فوكو معترفاً به أكاديمياً خلال الستينات، حينما تدرج في سلسلة من المناصب في الجامعات الفرنسية، حتى انتخب عام 1969 ليكون بروفيسوراً لتاريخ أنظمة الفكر في الكوليج دو فرانس المرموقة جداً حتى وفاته. ومنذ بداية السبعينات، أصبح فوكو نشطاً جداً في المجال السياسي، فأسس مجموعة المعلومات حول السجون، وغالباً ما تظاهر للدفاع عن حقوق المثليين وغيرهم من الفئات المهمشة. كثيراً ما حاضر فوكو خارج فرنسا، خاصة في الولايات المتحدة، وفي عام 1983 وافق على أن يعطي محاضرات سنوية في جامعة كاليفورنيا. مات فوكو في باريس في الخامس والعشرين من حزيران عام 1984، ضحية مبكرة لمرض الإيدز. بالإضافة للأعمال التي نشرت خلال حياته، فإن محاضراته في الكوليج دو فرانس، التي نشرت بعد وفاته، تحتوي توضيحات وامتدادات مهمة لأفكاره.
يصعب التفكير بفوكو كفيلسوف فقط. لقد كان تكوينه الأكاديمي غنياً بعلم النفس والتاريخ كما هو بالفلسفة، وكتبه كانت بمجملها تواريخ للعلوم الطبية والاجتماعية، وشغفه كان الأدب والسياسة. مع ذلك، فإن كل كتب فوكو تقريباً يمكن قراءتها بشكل مثمر باعتبارها فلسفية بإحدى الطريقتين التاليتين أو كليهما: باعتبارها ممارسة للمشروع النقدي التقليدي للفلسفة بطريقة (تاريخية) جديدة، وكذلك باعتبارها اشتباكاً نقدياً مع فكر الفلاسفة التقليديين. هذا المقال سيقدم فوكو كفيلسوف من خلال هذين البعدين.
خلفية فكرية
لنبدأ بمخطط للبيئة الفلسفية التي تعلم فوكو فيها. التحق بمدرسة الأساتذة العليا (قاعدة الإطلاق الرئيسية لمعظم الفلاسفة الفرنسيين) عام 1946، خلال فترة الذروة للفينومينولوجيا الوجودية. ميرلوبونتي(الذي حضر فوكو محاضراته) وهيدغر كانا مهمان بشكل خاص. هيجل وماركس حظيا أيضاً باهتمام كبير من قبل فوكو، الأول من خلال ترجمة أعماله من قبل جان هيبوليت، والثاني من خلال القراءة البنيوية التي قدمها لويس ألتوسيرـ كلا الأستاذين (هيبوليت وألتوسير) كان لها تأثير قوي على فوكو في مدرسة الأساتذة. ليس مفاجئاً بالتالي أن تكون بواكير أعمال فوكو ( مقدمته الطويلة لكتاب الحلم والوجود للطبيب النفسي الهيدغري لودفيغ بينسوانغر، وكتابه الصغير المرض العقلي والشخصية ) قد كتبت تحت سيطرة الوجودية والماركسية، على التوالي. لكنه بعد فترة قصيرة ابتعد بشكل قاطع عن كليهما.
على الرغم من أن جان بول سارتر (عاش وعمل خارج النظام الجامعي) لم يكن له تأثير شخصي على فوكو، فإن النظرة إليه باعتباره المفكر الفرنسي الرئيسي قبل فوكو دائماً متواجدة في الخلفية. مثل سارتر، انطلق فوكو من كراهية شديدة للمجتمع والثقافة البرجوازيين وتعاطف تلقائي للمجموعات الهامشية (الفنانين، المثليين، المساجين، إلخ). لقد كان لهما أيضاً اهتمامات متشابهة بالأدب وعلم النفس والفلسفة، وأصبح كلاهما ناشطين قويين سياسياً، بعد فترة مبكرة من عدم الاهتمام بالسياسة. لكن في النهاية، بدا فوكو مصرّاً على تعريف نفسه كنقيض لسارتر. فلسفياً، رفض فوكو ما رآه عند سارتر من مركزية للذات (والتي وصفها ساخراً بالنرجسية المتجاوزة). شخصياً وسياسياً، رفض فوكو دور سارتر باعتباره “مفكراً كونياً”، يحكم على المجتمع اعتماداً على مبادئ متعالية. تبقى هناك صبغة من الاحتجاج الشديد في فصل فوكو نفسه عن سارتر، ويبقى سؤال العلاقة بين أعمال الرجلين ميداناً خصباً للبحث.
ثلاثة عوامل أخرى كان لها تأثير إيجابي واضح على فوكو الشاب. أولاً، كان هناك تقليد فرنسي في التاريخ وفلسفة العلم، ممثل بشكل خاص من خلال جورج كانغيلام، وهو شخصية ذات نفوذ في الجامعة الفرنسية، وقد زودت أعماله في حقول التاريخ وفلسفة علم الأحياء أنموذجاً لما ستكون عليه معظم أعمال فوكو لاحقاً في تاريخ العلوم. دعم كانغيلام أطروحة الدكتوراه لفوكو حول تاريخ الجنون، وكان من أهم الداعمين لفوكو طوال مسيرته المهنية. لقد منح منهج كانغيلام في تاريخ العلم (وهو منهج تطور عن طريق غاستون باشلار)، منح فوكو إحساساً قوياً بالانقطاعات الموجودة في التاريخ العلمي، بالإضافة لفهم عقلاني للدور التاريخي لمفاهيم جعلها ـ من خلال هذا الفهم ـ مستقلة عن الوعي المتجاوز الذي قدمه الفينومينولوجيون. وجد فوكو أن هذا الفهم مدعوم في اللسانيات البنيوية والعلوم النفسية التي طورها ـ على الترتيب ـ فيرديناند دو سوسور وجاك لاكان، بالإضافة لعمل جورج ديموزيل حول الأديان المقارنة. إن وجهات النظر المضادة للذاتية هذه تقدم سياقاً لتهميش فوكو للذات في أعماله التاريخية البنيوية: ميلاد العيادة (حول أصول الطب الحديث) والكلمات والأشياء (حول أصول العلوم الحديثة).
من جهةأخرى، افتتن فوكو بالأدب الفرنسي الطليعي، خاصة كتابات جورج باتاي وموريس بلانشو، حيث وجد التماسك التجريبي للفينومينولوجيا الوجودية دون الفرضيات الفلسفية المشكوك فيها حول الذاتية. والمميز بشكل خاص هو استعانة هذا الأدب بالتجارب الحديّة، التي تدفعنا للدرجة القصوى حيث تبدأ الفئات التقليدية للوضوح بالانهيار.
لقد قدمت هذه البيئة الفلسفية مواد لنقد الذاتية وللأساليب الأركيولوجية والجينالوجية في كتابة التاريخ التي أعلنت عن مشاريع فوكو في النقد التاريخي، كما سنرى الآن.
نقد فوكو للعقل التاريخي
منذ بداية الفلسفة مع سقراط، فقد اشتملت على مشروع التساؤل عن المعرفة المقبولة في الحاضر. لاحقاً، طور لوك وهيوم وخصوصاً كانط فكرة جديدة بشكل متميز عن الفلسفة باعتبارها نقداً للمعرفة. إن ابتكار كانط الإبستمولوجي العظيم كان التأكيد على أن نفس النقد الذي يكشف عن حدود قوانا المعرفية يمكن أيضاً أن يكشف عن الظروف التي تؤدي إلى تمرينها. ما كان أن يبدو مجرد ملامح عرَضية للمعرفة البشرية (على سبيل المثال، الصفات المكانية والزمنية لمواضيعها) أصبح حقائق ضرورية. لكن فوكو اقترح أننا نحتاج لقلب هذا التوجه الكانطي. بدلاً من التساؤل عن الشيء الضروري فيما يبدو عرَضياً، اقترح فوكو أن نتساءل عن الشيء العرَضي فيما يبدو ضرورياً. التركيز في تساؤله ينصب على العلوم البشرية الحديثة (علم الأحياء، علم النفس، علم الاجتماع). إن هذه العلوم ترمي إلى توفير حقائق علمية كونية عن الطبيعة البشرية، التي هي (الحقائق) في الغالب مجرد تعبير عن الالتزامات الأخلاقية والسياسية لمجتمع ما. إن فلسفة فوكو النقدية تقوّض هذه الادعاءات من خلال بيان أنها فقط نتاج قوى تاريخية عرَضية، وليست مبنية على أسس علمية.