لقد شدّتني مقالة الأستاذة رجاء بن سلامة "
في تاء التّأنيث وواو العطف"
المنشورة هنا في "الأوان"، فوجدُتني مضطرًّا إلى بسط هذه الملاحظات راجيًا
أن يتّسع صدرها وصدر هذا الموقع لما أنا عارض على القارئ. ولكن، وقبل طرح
ملاحظاتي حول الموضوع، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الموضوع الّذي طرحته
الأستاذة بن سلامة ذو أهميّة بالغة، وهو بحاجة إلى دراسات مستفيضة في
النّواحي اللّغويّة، الثّقافيّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة، وهي مجالات لا
أدّعي علمًا وإحاطةً بها جميعًا. ولهذا فإنّ ملاحظاتي تأتي ممّن هو مهتمّ
بهذه القضايا ويحاول طرح بعض التّساؤلات على الملأ ابتغاء إغناء النّقاش
فيها.
لقد بدأت الأستاذة بن سلامة مقالتها بعرض حكاية المرأة الّتي تقول: "يا
ترى بشكلي ده أقدر أشتغل؟"، وبحسب لهجة لغة الاقتباس، فيبدو أنّها مصريّة،
وقد "ولدت في أسرة تنتظر الابن الذي لم يأت"، وأنّها عانت على ما يبدو من
سمنة و"اضطرابات في الأكل"، ثمّ تحوّلت وقامت بعد ذلك و"خفّضت من وزنها،
وتحكّمت في نهمها الإلزاميّ وقرّرت أن تصبح أخرى". وهكذا "تحوّلت إلى
امرأة بعدما كانت "مربّعًا" حسب الدّالّ الذي تكرّر في أحلامها
وتداعياتها، وقبلت أنوثتها تدريجيًّا".
إنّ هذه الحالة الموصوفة في بداية المقالة لها علاقة بمفاهيم وتصوّرات
مرغوبة في الأنوثة مثلما تنعكس في مجتمعات التّسليع الاستهلاكيّ في عالم
تجاريّ معولَم. هذه المفاهيم تقوم بفرضها وبصورة شرسة كلّ تلك الشّركات
الكبرى على مستوى العالم، بما فيه العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وهو
العالم الّذي يشكّل في الواقع سوقًا كبرى مُستهلِكَة فقط لكلّ هذه السّلع
الماديّة والمفاهيميّة، ولا يُنتج هذا العالم العربيّ من هذه السّلع
الماديّة والمفاهيميّة شيئًا يقدّمه للعالَم من حوله. إنّ ما يزيد الطّين
بلّة هو وجود وكلاء ومتعاونين مع هذه الشّركات الكبرى في كلّ مكان، حيث
تغزو مفاهيم التّسليع هذه العالَم العربيّ بأسره عبر هؤلاء الوكلاء
القائمين على وسائل الإعلام العصريّة، وعلى وجه الخصوص عبر الفضائيّات
التّجهيليّة العربيّة الّتي ملأت الفضاء العربيّ ضحالة وجهلاً من جهة،
واستهلاكًا رخيصًا لكلّ هذه المفاهيم. تقوم وسائل التّجهيل هذه ببيع
المُشاهد العربي سلعًا ومفاهيم هي أقرب ما تكون إلى الأوهام الغرائزيّة
المُفَنْطَزَة، وأبعد ما تكون عن مجريات حياته على أرض الواقع في المشرق
والمغرب.
أمّا بخصوص ما يتعلّق بتأنيث اللّغة، فهذه قضيّة أخرى مختلفة تمامًا.
وهي، وإنْ كانت نابعة بطبيعة الحال من كينونة لغويّة ثقافيّة واجتماعيّة
عربيّة، غير أنّها ليست حكرًا على العرب، فهي تأتلف وتختلف في هذا الشأن
مع كثير من لغات الشّعوب الأخرى.
لقد أوردت الأستاذة بن سلامة مثال اللّغة الفرنسيّة، وأشارت بإشادة إلى
ما أصدره المعهد القومي للّغة الفرنسيّة وهيئات أخرى من دليل للمساعدة على
تأنيث المناصب والوظائف والرّتب عندما تشغلها النّساء. وما من شكّ في أنّ
هذه الإشادة لها ما يبرّرها، غير أنّ محاولة سحب هذه الحالة إلى المجتمعات
العربيّة هي محاولة للقفز الشّكلاني على واقع عربيّ، لا يمكن بأيّ حال
مقارنته بواقع وضع المرأة في المجتمع الفرنسي أو الأوروبي والغربي على
العموم.
بداية أقول إنّي أؤمن إيمانًا عميقًا بالمساواة التّامّة بين الرجل
والمرأة في جميع مناحي الحياة، كما إنّي أؤمن بأنّ هذه المساواة هي حقّ
طبيعي ومطلق لا جدال فيه، ويجب أن يكون من البديهيّات الّتي لا يمكن أن
تكون مثار نقاش. ولكن، ثمّة بون شاسع بين هذا الإيمان المطلق بالمساواة
وبين الدّعوة إلى أمور شكليّة تتعلّق باللّغة. وفي هذا السّياق أودّ
الإشارة هنا إلى قضيّة ذات مدلولات حضاريّة، وهي أنّه يكفي ما أصاب اللّغة
العربيّة من خراب على يد أصحابها، فلا أجد رغبة في إضافة خرائب أخرى على
خراباتها. من هنا، فإنّ تأنيث "عضو" على سبيل المثال بالقول "عضوة" هو
تأنيث مرفوض، وإن كان منبع الدّعوة إلى تأنيثه وما يرمي إليه من مطالب
نسويّة مفهومًا بالطّبع في السّياق العربيّ. غير أنّي أرى أنّ عملاً من
هذا القبيل يُشكّل هدمًا آخر للّغة ينضاف على خرائب هذه اللّغة في هذا
العصر. إنّ دعوات من هذا النّوع تأتي مع تسارُع عولمي أحدثته التكنولوجيا
المعاصرة، وقد تؤدّي في نهاية المطاف إلى عولمة اللّغة، وإبطال الفروق بين
لغات الشّعوب وهو ما يؤدّي إلى نتائج حضاريّة وخيمة تتمثّل في إفقار
الشّعوب لغويًّا ومن ثمّ حضاريًّا. ولا أعتقد أنّنا نرغب في إفقار اللّغة
العربيّة، بل على العكس من ذلك، نريد أن يتعرّف العربيّ على مكامن لغته
بغية إغنائه بها وإغنائها به من خلال دفعه إلى الإبداع والتّجديد بهذه
اللّغة وإضافة مداميك جديدة من لدنه كما أضاف إليها القدماء من لدنهم.
من هنا أيضًا، فإنّ مصطلح الـ"عضو"، المُستعار من الجسد لدلالات جديدة،
سيبقى مذكّرًا حتّى لو استعير إلى رتبة أو منصب تشغله امرأة. كما أنّه لا
ضير من تأنيث النّائب بالنّائبة، وإن كانت هذه المفردة تشير في الماضي،
وكذلك في الكتابات الأدبيّة المعاصرة، إلى المصيبة، فلا أعتقد أنّ هناك من
لا يفهم سياق هذه المفردات في اللّغة، بل إنّ هذه المفردة تشكّل إغناءً
جديدًا للّغة. ولو سقت مثالاً للتّوضيح فإنّ مفردة "بيت" في هذا الأوان
ليست هي ذات الـ"بيت" في الجاهليّة، وهناك "بيوت" كثيرة ومتعدّدة تحملها
هذه المفردة على مرّ التاريخ الحضاري العربي. وغنيّ عن القول أيضًا، أنّ
مفردة النّائب أصلاً، بمعنى المُنتدب المُنتخب المُذكّر، هي أيضًا دلالة
جديدة ومستحدثة، إذ لم يكن ثمّة نوّاب بهذه الدّلالة في الجاهلية ولا في
الإسلام ولا في عصور الخلافة اللاحقة.
لهذا، بودّي هنا أن أطمئن الأستاذة رجاء بن سلامة، فإنّ الرّجل العربيّ
لا يستطيع حراكًا بدون التأنيث. فهو لا يسمع بدون أذنه المؤنّثة، ولا
يستطيع أن يرى بدون عينه المؤنّثة، ولا يستطيع أن يعمل ويكتب بدون يده
المؤنّثة، ولا يستطيع أن يمشي بدون رجله المؤنّثة، فالتأنيث يحيط به من
كلّ جانب لا يستطيع بدونه حراكًا. كما أنّ الرّجل العربيّ الّذي تلتبس
عليه أصلاً كلّ مفاهيم الأنوثة والذّكورة يتناسى أنّ الثّدي والصّدر
والفرج هي من مذكّرات العربيّة ودلالتها للمرأة مثلما هي للرّجل في اللّغة
العربيّة، فما عليه سوى التفكُّر، إذن، في هذه الجوانب اللّغويّة واستخلاص
العبر منها.
ولهذا السّبب، لا بدّ من القول هنا إنّني لا أرى طائلاً ولا فائدة ترجى
من دعوى التأنيث اللّغويّ في هذه المرحلة، إذ لا بدّ أن تسبق هذه المرحلة
مرحلة أخرى ضروريّة هي أحوج ما تكون إليها المجتمعات العربيّة. والمرحلة
الأهمّ التي يجب أن تسبق كلّ هذا هي مرحلة تأنيث الحياة العربيّة ومرحلة
الحدّ من ذَكْرَنَتها المزمنة في المناحي السياسية والاجتماعية والثقافية
إلى آخره. وفيما يخصّ المجتمعات العربيّة فإنّي أرى أنّ السّبيل إلى دفعها
لركوب قطار التقدُّم هو برفع شعار "المرأة هي الحلّ" وليس أيّ شعار آخر،
وذلك في جميع مناحي الحياة العربيّة.
ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أدعو إلى تأنيث العرب ثقافيًّا،
اجتماعيًّا وسياسيًّا. إنّ التأنيث الّذي أدعو إليه يعني في الحقيقة توزير
المرأة، وهو يعني ترئيس المرأة للأحزاب السياسية العربية، وترئيس المرأة
للحكومات العربيّة، وترئيس المرأة للدولة العربية، وصولاً إلى تمليك
وتأمير المرأة في الممالك والإمارات العربيّة. وفوق كلّ ذلك، وربّما كان
هذا هو الأهمّ من كلّ ما سلف، أدعو إلى تأنيث المفاهيم الدينيّة العربيّة.
فمن قال أصلاً إنّ اللّه ذكرٌ وليس أنثى؟ إنّه مذكّر من الناحية اللّغويّة
فقط، أمّا من ناحية الكينونة المفاهيميّة فهذا شيء آخر مختلف تمامًا. هذا
هو التّحدّي الّذي تواجهه المجتمعات العربيّة، وما لم يطرأ تحوُّل في كلّ
هذه المناحي فلن تقوم لهذه المجتمعات قائمة.
أليس كذلك؟