إذن
انتهت "الحرب" الكرويّة بين البلدين العربييّن "الشّقيقين"، وعاد الجميع
إلى قصص حياتهم المختلفة والمتشابهة في انتظار لحظات إثارة قد تأخذ أشكالا
ومسمّيات أخرى. انتهت حرب الكلام ولم يقع المحظور الذي خاف منه الجميع وهو
سقوط قتلى عنف بالعشرات. لم تقتل الأجساد، ولكن همجيّة جديدة/قديمة كشّرت
عن أنيابها بواسطة "رياضة" طالما حاول المربّون إقناعنا بأنّها وسيلة لنشر
التّحابب والألفة والتّقارب بين الأفراد والشّعوب. لم نر أجسادا ملطّخة
بالدّم وجثثا مكفّنة، ولكنّنا فتحنا أعيننا على رعب التعصّب والشّوفينيّة
والحقد وقد تزيّنت بمساحيق الرّياضة.
في غمرة هيجان العواطف وشعارات الثّأر، لم يمت أناس ولكن ذبح الكلام
بين النّاس، وبين شعبين، وسار في جنازته الرّياضيّون والسّياسيّون
والإعلاميّون وممثّلو النّخب وحتّى بعض ممثّلي المجتمع المدني ودعاة
الدّين. لم يمت أحد ولكن انحدرت اللّغة مرّة أخرى إلى مناطق قصوى في
الحضيض الوجوديّ والحضاريّ.
1- تحوّلات الجماهير: من احتفاليّات كرويّة إلى هستريا غامضة ما حدث لم يكن في الحسبان. فلقد جرت العادة أن تدور كلّ احتفاليّات
جماهير الكرة بأفراحها وانفعالاتها وعنفها في "لحظة" المقابلة لتنتهي
بعدها في انتظار مقابلة أخرى. إنّها لحظة يتوقّف فيها الزّمن ويمارس فيها
هواة الفرق المتنافسة طقوسهم الخاصّة، فيتفنّنون في إبداع الشّعارات،
وتأليف الأغاني والأهازيج، ويتنافسون في تقليعات صناعة الدّيكورات التي
تغطّي الملاعب بأصباغها وملابسها التي تكسو أجساد المحبّات والمحبّين.
وبلغت هذه المظاهر مدى بعيدا في بعض البلدان مثل تونس، حيث ابتدعت جماهير
الكرة "الخرجة" التي تستعيد بوسائل حديثة رمزيّة احتفالات التدّين
الشّعبيّ والأعراس التّقليديّة.
لقد أصبحت احتفاليّات الكرة عالما قائما بذاته، له طقوسه الخاصّة التي
تجمّع نثرات من الخطابات السّياسيّة والإيديولوجية و الثّقافيّة
والتراثيّة السّائدة.
إنّه عالم فاتن ومرعب في الوقت ذاته. عالم يفتنك بالطّاقة الخياليّة
الإبداعيّة المتوحّشة التي يحرّرها، ولكنّه يرعبك حين تحاول أن تبحث له عن
منطق يتّفق مع تصوّراتنا المثقّفة والمتعالية عن "الجماهير" و"القضايا
المصيريّة للأمّة". إنّها الجموع تدلف إلينا، وبوسائل حديثة، بأحلامها
وآلامها، ومن نوافذ خلنا لوهلة أنّ المشاريع "الحداثيّة" قد أوصدتها إلى
الأبد.
ولكن هذه الاحتفاليّات، ورغم ما تثيره أحيانا من مظاهر عنف وعنصريّة
وحقد في "لحظة" المقابلة، تقوم بدور كبير في تأطير جماهير المشجّعين وحصر
انفعالاتهم في إطار عالم الكرة، ليبقى هذا العالم في نهاية الأمر جزيرة
أخرى من جزر عالمنا الاستهلاكي المغلقة.
كما أنّ هذه الاحتفاليّات هي الشّيء المثير الوحيد المتبقّي في عالم
كرة بارد وقاس تحوّل بفعل الاحتراف والمصالح الماليّة إلى غابة لا علاقة
لها بالرّياضة، يتاجر فيها باللاّعبين الشبّان من بلدان الجنوب، وتباع
فيها أجساد اللاّعبين وأرواحهم في سوق نخاسة عصريّ يتحكّم فيه السّماسرة
ومسؤولو الفرق. لقد وصل الأمر برئيس أحد الفرق الأوروبيّة إلى إنفاق
مليارات الدّولارات لشراء حفنة من اللاّعبين، في وقت كانت النّقاشات على
أشدّها حول الأزمة الماليّة العالميّة ومدى أخلاقيّة ممارسات مراكز القوى
الماليّة العالميّة.
ولكن كيف تحوّلت احتفاليّات عاديّة لمقابلة كرة بين بلدين إلى مسار
هستريا جماعيّة؟ وكيف خرجت من جزر احتفاليّات الكرة المعزولة لتفيض على
نظرة كلّ من المجتمعين إلى الآخر، وتشعل فتيل الحرب في العلاقات العامّة
والخاصّة للجميع؟ وكيف هجرت "لحظة" الكرة زمنها لتصبح هي الزّمن كلّه؟
إنّ ما حدث يختلف عن تجاوزات خطيرة تقع بعد مقابلة ثمّ تنطفئ آثارها.
لقد وقعت هذه "اللّحظة" الكرويّة في أسر الإعلام المطلق ورغبته في أن
يحتكر الزّمن، وأن يتحوّل من "خادم" للنّاس بالمعلومة والتّحليل إلى مسيطر
على العواطف والمواقف، يوجّهها الوجهة التي يشاء عن طريق احتكار الكلام
والتّهويل، وصناعة "حقائق" لا يمكن البرهنة عليها وإطلاق العنان لهستريا
بعض الصّحافييّن الذين لا رقيب على مدى التزامهم بأخلاقيّات المهنة، ولا
جهة تحاسبهم على دعوات الكراهيّة والعنف وحتّى التّحريض المباشر على القتل.
2- الإعلام ونزعة الشّموليّة:لعلّ الجديد الذي شاهدناه بمناسبة مقابلة كرة قدم هو هيمنة الإعلام
وقدرته الخارقة على صنع زمنه ولا زمن النّاس. لقد اختزل الإعلام لغة
التّاريخ والجغرافيا والسّياسة وحكايات الأفراد والجماعات في لغته
الخاصّة، وأبرز في هذه الحادثة قدرته الشّموليّة على احتواء الأشياء،
وتلاعبه المدهش بالعقول والأجساد والأرواح التي طوّحت بها هشاشتها وقسوة
حياتها.
لقد انتقل الإعلام من دور تغطية الأحداث وما يصنعه الأفراد والجماعات
والسياسيون والاقتصاديون إلى صنعها. فهو يصنع الحدث، ويحرّك الزّمن،
والجميع يلهثون إما للاستفادة السياسية أو الماليّة من صنائعه، أو لاحتواء
مشاكل تنتج عمّا يصنع.
فالإعلام يصنع الزّمن والحكاية، والجميع عبيد لاختياراته، يتأقلمون من
خلالها ويصوغون عواطفهم ومواقفهم، بمساعدة جحافل من الصّحفييّن والمحلّلين
و"الخبراء" الذين يفتون في كلّ شيء، ويفهمون كلّ شاردة وواردة، ويؤكّدون
على الموضوعيّة حتّى وهم ينطقون عن أقصى المواقف تطرّفا ودمغجة.
لقد استولى الإعلام الرّسميّ وغير الرّسمي على الفضاء العامّ ويكاد
يبتلع في رغبته المهيمنة فضاءات السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ
والثّقافي والمدنيّ.
فمن الطّبيعيّ إذن أن تنفلت مباراة كرة قدم من إطارها الضيّق وتتحوّل
إلى مشهد يستعرض فيه الإعلاميّون فنون سيطرتهم على الجميع، بعد أن فقد
النّاس قدرتهم على تحليل الأشياء ونقدها، والتّمييز بين الظّواهر بدون
مساعدة من الإعلام " أب الشّعوب وملهمها".
لقد سبق أن عشنا نزعة الإعلام الشّموليّة في حربي أفغانستان والخليج
واحتلال العراق والاعتداء على لبنان وغزّة، حين دارت المعارك من خلال
التّلفزيونات، وتحوّل النّاس إلى مستهلكين لمشاهد الموت والدّمار والأخبار
العاجلة وتحليلات "خبراء" عسكرييّن لم يخوضوا معركة واحدة في حياتهم.
لم تكن مقاومة الحرب وانتهاك حقوق الأفراد والشّعوب من خلال حملات
الضّغط الشّعبيّ والتّضامن وأنشطة الأحزاب والنّقابات ومنظّمات المجتمع
المدنيّ وتحريك العمل الدّبلوماسيّ واستعمال أدوات القانون الدّوليّ، بل
انحصر همّ النّاس في الانتقال المتلهّف من قناة إلى أخرى وفي إفراغ شحنات
عواطفهم وآلامهم من خلالها. واليوم نسينا آلام الأفراد والجموع الذين
مزّقهم عنف الحروب والاحتلال، ورسخت في ذاكرتنا وجوه نجوم التلفزيونات
المتصارعة وحركاتهم.
كما شاهدنا هذه النّزعة الشّموليّة للتّحكّم في قدرات النّاس على
النّقد والتّمييز وصياغة مواقفهم في مظاهر أخرى عديدة، مثل الموقف من
الإرهاب والتّطرّف؛ حيث برعت بعض وسائل الإعلام في تبسيط ظواهر العمليّات
الانتحاريّة، واختطاف الرّهائن الأجانب وقتلهم، بتكرار عرضها بشكل "بريء"
وبموضوعيّة تؤدّي في النّهاية إلى إفراغها من معانيها الكبرى تمهيدا
لقبولها وحتّى التأثّر بها ومحاولة محاكاتها.
ولقد تحوّلت بعض وسائل الإعلام من "فضاءات مدنيّة" للتّعبير الحرّ
والمساعدة على الحوار السّلميّ للمواقف إلى آلات لإصدار المواقف وتطويع
قدرات النّاس على قبولها. فلم يعد الحوار حول المفاهيم والمصطلحات نتاج
عمل نقديّ طويل المدى، ومحصلة نقاش فكريّ ومجتمعيّ، بل أصبح يقدّم لجمهور
"المستهلكين" في شكل وصفات سريعة قابلة للاستهلاك. فاليوم نحدّد مفاهيمنا
حول الفروق بين المقاومة والإرهاب والتمييز والعدالة وحقوق الإنسان
والديمقراطية والدين والعلمانية من خلال هذه الوصفات التي تطبخ في حجرات
الأخبار وعند رؤساء التّحرير. وتبلغ سخريّة الوضع مداها حين تطلع علينا
إحدى القنوات المحترمة بمصطلح "بلاد المغرب الإسلاميّ"، مباشرة بعد أن
أعلنت منظّمة القاعدة عن فتح فرع جديد لأنشطتها في "بلاد المغرب
الإسلاميّ". إنّها الرّغبة في تغيير تاريخ المصطلحات المشحونة بصراعات
ونقاشات حقيقيّة ورهانات ثقافيّة واقتصاديّة وإستراتيجية واختزال كلّ هذا
في مصطلحات فرجويّة.
وتتواصل نزعة الهيمنة في مناطق الحياة الفرديّة والاجتماعيّة وفي تحديد
ذائقة الأفراد. فهذا الكمّ الهائل من قنوات "الكليبات" التي تروّج لتعاسة
عرض الجسد، وقنوات الدّعاية الدّينيّة التي تقتل راحة الأرواح بشعوذات
فتاواها الرّخيصة، وقنوات ألعاب الرّبح التي تشكّك في قيمة العمل،
والقنوات التي تستعرض مشاكل النّاس الاجتماعيّة من زواج وطلاق وصراع على
الممتلكات في بحور من العواطف المصطنعة. كلّها مظاهر تؤدّي في النّهاية
إلى تحويل الإعلام من أداة تعبير مدنيّة إلى هيكل ضخم تصاغ فيه أسئلة
وأجوبة السّياسة والدّين والثّقافة والمجتمع.
إنّ ما عشناه من مظاهر مؤلمة بمناسبة مقابلة كرة قدم، هو أحد أشكال
مأزق الإعلام حين يتجاوز حدود الرّسالة ويحاول أن يحتلّ الفضاء العام
والخاصّ، ويسيّرها حسب آليّات منطقه فيغترب عن النّاس وعن رسالته.
3- الإعلام في مفترق طرق: بين رسالة الحرّيات ونزعة الشّموليّةإنّنا اليوم في مرحلة حرجة من مراحل تطوّرات تاريخ الإعلام وتحوّلاته.
مرحلة يحاول فيها الإعلام، التقليديّ المرئيّ والمسموع والمقروء والإعلام
الافتراضيّ، تعبئة فراغ روحيّ وفكريّ وتواصليّ نتج عن غياب أمثلة التّغيير
الفرديّ والجماعيّ، وتراجع فضاءات التّعبير المدنيّة والأحزاب والنّقابات
ومنظّمات المجتمع المدنيّ، وغرقها في حسابات المنفعة وصراع المصالح. مرحلة
يشتاق فيها الجميع إلى المثل والأحلام والقيادة والقدوة، في وقت تتعاظم
فيه مخاطر تهميش النّاس وانتهاك حقوقهم الجماعيّة والشّخصيّة وتتضاءل فرص
الفرح والاحتفال بالتّجارب الإنسانية الصّادقة والواقعيّة.
ولكن هل يمكن للإعلام أن يملأ فراغ الحياة بدوائر فراغاته وحكاياته
المتكرّرة والمتشابهة والتي تجري على غير منهج أو مثال؟ وهل يمكن للإعلام
أن يكتفي بتأمّل تقنياته وآليّاته الدّاخليّة ومنجزاته التي تكاد تسيطر
على كلّ أنواع الخطاب ومن بينها الخطاب السّياسيّ، بدون العودة إلى
التّفاعل مع إشكاليّات المحيط الذي يتشكّل فيه الخطاب الإعلاميّ؟
إنّ ما نلاحظه اليوم هو أنّ الإعلام وهو يسعى إلى احتواء جميع الفضاءات
المدنيّة وتنميط الممارسات الفرديّة والجماعيّة في سلعة الفرجة، فهو في
حقيقة الأمر يبتعد أكثر فأكثر عن الأفراد الذين حوّلهم إلى مستهلكين
سلبييّن وفئران تجارب للتّنافس بين شركاته الضّخمة.
كما أنّ التّداخل المتزايد بين الإعلام وسلطات المال والإيديولوجيا
والسّياسة جعل الإعلام ينأى شيئا فشيئا عن الهالة التي كانت تحيط به كعامل
أساسيّ في تطوير الحرّيات عامّة وحريّة الرّأي والتّعبير خاصّة.
ففي هذه السّيطرة الظّاهريّة للإعلام تكمن مخاطر وتساؤلات عن مدى قدرته
على المحافظة على الجوهر القيميّ الذي بشّر به البعض، وهو قيام سلطة وسائل
الإعلام على رعاية حرّية الرّأي والتّعبير والفكر والوجدان، وتطوير قدرة
الأفراد على الفكر النّقديّ ومراقبة أداء السّلطات ومحاربة التّسلّط
والهيمنة وبناء ثقافة المواطنة والمشاركة الدّيمقراطيّة.
إننا في حاجة إلى ربط سؤال رسالة الإعلام بسؤال ثقافة حقوق الإنسان
ربطا يمنح الإعلام فرصة للتّفكير النّقديّ في غاياته ورسالته وأدواته، في
عالم تطوّرت فيه سبل التّقارب وتزايدت فيه خيرات التّقدّم ولكنّه في الوقت
ذاته يشهد تفاقما غير مسبوق لانتهاكات كلّ أنواع الحقوق ويشهد تناميا
للتّهميش واستشراء لفكر الموت بدل الحياة ورقابة على الإبداع بجميع
أشكاله، واستبدالا للذّكاء بالعقاب.
لقد أثبتت "لحظة" كرة القدم ما يمكن أن يحدث حين تسيطر رغبة الإعلام في
الهيمنة، وتختلط بحسابات منفعة تسلّطيّة كريهة. لقد أصيب الذّكاء النّقديّ
والرّغبة في تحليل الظّواهر في مقتل وانفلت اللاّإنسانيّ من عقاله ليلقي
بآلام الجموع وأحلامها بالفرح في ساحات حرب كراهيّة وعنف بدائييّن.
ولعلّ لحظة العنف المطلق هذه تمثّل فرصة للتّائقين لحقوق الإنسان
وحرّية الرّأي والتّعبير حتّى يفعّلوا هذا الرّكام الهائل من الإعلانات
والاتّفاقيّات ومواثيق الشّرف التي تتغنّى بالحرّيات وأخلاقيّات الإعلام،
ويعيدوها إلى حياة الأفراد عن طريق حركات مدنيّة تسائل الإعلام المهيمن
نقديّا وتربك ذاته المتضخّمة. فلا بدّ من مساءلة مجرمي الكلمة ومحاسبتهم.