تعدّ نسبة المهاجرين الشباب من حملة الشهادات الجامعية والدراسات العليا
في مختلف التخصّصات إلى خارج البلدان العربية من النسب الأعلى بين أرقام
الهجرة في العالم. التسمية الشائعة لهذه الهجرة كما هو معروف "هجرة العقول
والأدمغة". ولا يخلو تقرير (دولي أو محلّي) يتناول التنمية في البلاد
العربية من إشارة إلى خطورة هذه الظاهرة وتحديد أسبابها بتكرار بات مملاً،
دون أن نجد على أرض الواقع أيّة إجراءات عملية من قبل حكومات تلك الدول
للحد من هذه الظاهرة وتأمين فرص لائقة لمواطنيها، بل يؤكّد الإعلام العربي
الرسمي في كل مناسبة وبدون أدنى خجل على اعتبارها استنزافاً للقدرات
العربية وتعطيلاً لجهود التنمية دون أن ندري عن أي تنمية يتحدثون!.
قيل وكتب في هذا الشأن الكثير، ورأيي الشخصي أنّه لا يحقّ لأحدٍ أن
يُنكِرَ على أيّ خرّيج جامعي أو غيره لم يجد عملاً وعيشاً كريمين في بلده
حقّه في أن يرحل بحثاً عن حياة أفضل.
ما أودّ الإشارة إليه هجرةٌ أخرى لا بد من التنبّه لها والوقوف عندها
مليّاً وإدراكها، حيث أنّها باتت تستقطب أعداداً متزايدة من الشبان العرب
(المسلمين) وبشكل خاص الحاصلين منهم على إجازات جامعية.
هذه الهجرة لا تقلّ خطورةً عن سابقتها بل إنّها الأخطر بما لا يقاس. وهي
ليست (هجرة) بالمعنى الحسّي المعروف للكلمة أي انتقال شخص من مكان إلى
مكان آخر للعيش فيه، وإنما نجدها في التعبير الذي تستخدمه معظم جماعات
وأحزاب الإسلام السياسي ـ بشكل أساسي في نُسخها الجهادية ـ ويُقصد به:
"الهجرة إلى الله" بل و يمكن أن تجد جماعات منهم تستوحي تسميتها من ذلك
المعنى كـ "جماعة التكفير والهجرة" في مصر تمثيلاً لا حصراً.
ولعلّ بعض الأدلّة عن الانتشار المطّرد للظاهرة بين المتعلّمين نجده في
التقارير الإعلامية التي تعقُب كل "عمليةٍ أمنية" في هذا البلد العربي أو
ذاك وتُسفر عن قتل أو اعتقال أعضاء في تنظيم القاعدة أو أحد متفرّعاته
وأشباهه من الجماعات الجهادية والتكفيرية الأخرى، حيث تشير تلك التقارير
إلى المستوى العالي لتحصيل بعضهم العلمي، والمفارقة أنّ اختصاصات معظمهم
لا علاقة لها بالعلوم "الشرعية" على عكس ما يعتقد البعض بل إنّ من بينهم
أطباء وكيميائيون وغير ذلك من الفروع العلمية.
كما يؤكّد ما ذهبنا إليه من المستوى العلمي لأولئك "المهاجرين" الإمكانات
التقنية الهائلة التي يستخدمونها في "الجهاد الإلكتروني" من خلال
المنتديات والمواقع الإسلامية الدعوية والجهادية المنتشرة بكثرة على شبكة
الإنترنت سواء للتواصل والفتاوى أو لتقديم الإرشادات في كيفية تصنيع
القنابل والمتفجّرات، أو حتى في الهجمات التي يقومون بها ضدّ المواقع
الإلكترونية "المعادية".
إنّ جماعات الإسلام السياسي على تنوّعها واختلافها تنطلق في خطابها الدعوي
من تحليل تبسيطي للواقع ومشكلاته ترى فيه أنّ السبب الأساسي لكلّ ما نحن
به من انحطاط وتخلّف يكمن في "الابتعاد عن الله والدين" وطبعاً "الدين عند
الله الإسلام" كما يعتقدون مستندين إلى نصوصهم المختارة، وعليه فـ
"الإسلام هو الحل"! ولأنّهم يرون المجتمع المعاصر بعيداً عن "قيم الإسلام
والسلف الصالح" وجب هجره وترك كلّ مفاسده ومباذله والعودة به إلى "نقاء
الإسلام" للقضاء على كل أسباب الخلل ومظاهره في المجتمع من خلال إنفاذ شرع
الله على الأرض. يحصل هذا بدايةً على صعيد أفراد "الجماعة المؤمنة" التي
ستعمل في هذا السياق على استقطاب الشباب المؤمن، وبعد الانتهاء من مهمّة
بناء القوّة التنظيمية الجهادية واستكمال التعبئة النفسية والمعنوية
ستنقضّ على المجتمع "الكافر" ولو بالقوة (كما سيقتضي الأمر) لتغييره وفرض
ما تعتقده تلك الجماعات حلاًّ.
لا شكّ أنّ الحالة المتردّية لأوضاع الشباب في البلدان العربية والإسلامية
على مختلف الأصعدة تشكّل عاملاً أساسياً في تسهيل مهمّة الظلاميين
التكفيريين وافتراسهم لعقول الشباب، كما أنّ تنامي الشعور باليأس والإحباط
في الأوساط الشبابية يشكّل تربة خصبة لإقناعهم بأوهام الحلول الجاهزة التي
تقدّمها الغيبيات المقيتة والأحلام الخضراء لتيارات الإسلام السياسي.
لكنّ ذلك كلّه على أهميته وجدّيته ليس وحده سبب المشكلة، لأنّ الوجه الآخر
لما تقدّم يكمن في غياب ما يمكن تسميته (الثقافة البديلة)، ذلك الغياب
الذي أحدثَ فراغاً تغلغلت لملئه واحتلاله قوى الأصولية والظلام و"الهجرة".
وبعيداً عن الدخول في تحليل الأسباب وتحميل المسؤوليات عن حدوث الفراغ
فإنّ المسؤولية في خلق وإنتاج تلك الثقافة البديلة الآن تقع على عاتق
الشباب المتنوّرين والعلمانيين بشكل أساسي. ونستطيع القول بدون مجاملة أنّ
(منتدى شباب الأوان) يعدّ منبراً يتيح فرصةً واقعية لتفعيل دور الشباب
والعمل باتجاه تلك الثقافة، ويجدر بهم الاستفادة منه في إنتاج جانب من تلك
الثقافة البديلة التي سيكون لنا فيها أحاديث قادمة.