تشير
الإحصائيات التي أعلنت مؤخّراً إلى أنّ المحاكم الشرعية السورية، وهي
الوحيدة المختصّة بقضايا الأسرة، قد سجّلت في عام ألفين وثمانية 17055
حالة طلاق، بزيادة ملحوظة عن العام الذي سبقه الذي سجّلت فيه 15916 حالة
طلاق، بينما كان عدد حالات الطلاق في عام ألفين وثلاثة وبموجب الإحصائيات
نفسها 13394حالة. وممّا لا يخلو من دلالة أنّ أغلب حالات الطلاق سجّلت في
المدن الكبيرة كدمشق وحلب، وتتفاوت الأرقام في المدن الصغيرة باستثناء
السويداء التي سجّلت قفزة ملحوظة من 36 حالة طلاق عام 2003 إلى 885 حالة
طلاق عام 2008.
مع ذلك لا يسعنا القول إنّ حالات الطلاق المسجّلة تعبّر عن واقع
الأسرة السورية، مثلما لا تعبّر حالات الطلاق عن الواقع الحقيقيّ في
المجتمعات المماثلة، حيث أنّ ما يصل إلى هذه النهاية ليس سوى نزر يسير من
حالات الانفصال القائمة بالفعل. مع الأسف ليست لدينا إحصائيات عن حالات
الانفصال غير المعلنة لأسباب اجتماعية، لكن بات من الملاحظ ازدياد هذه
الحالات، وازدياد التعبير عنها من قبل النساء اللواتي يعانين منها أكثر من
الرجال، مثلما يعانين من الطلاق أكثر ممّا يعانيه الرجال في مجتمعاتنا.
ليست ظاهرة الهجر العاطفيّ بالظاهرة الجديدة، لكنّها كانت تكاد تقتصر على
الرجال فيما مضى، بينما تبقى المرأة في موقع المهجورة التي لا حيلة لها.
أمّا الآن فعندما نسمع النساء يتحدّثن عن علاقاتهنّ بأزواجهن، فإنّه يظهر
لنا أنّ نسبة كبيرة منهنّ يجدن سعادتهنّ في مواضع أخرى، فبعد الفترة
الأولى من الزواج يسعى معظمهنّ إلى توطين حياتهنّ العاطفية الخاصة في مكان
آخر، وبعد نجاحهنّ في هذا التوطين ينفصلن تدريجياً عن أزواجهنّ بشكل غير
ظاهر وغير محسوس.
لا يحدث الانفصال أو الهجر العاطفي فقط في الزيجات التقليدية، بل يحدث
أيضاً وربما بنسبة أكبر في الزيجات القائمة على الحبّ، والمبرّر الأكثر
شيوعاً لذلك إحساس الرجل بأنّه تملّك زوجته وأصبح معفى من إبداء الاهتمام
بها أو مشاركتها مشاعرها. غالباً ما يصبر النساء على هذا الوضع قبل أن
يبادلن الأزواج حالة الهجر، وهذا لا يعني أنهنّ راغبات في ذلك حقّاً،
لأنّك إذا سألت إحداهنّ عن ذلك ستجد أنّ الجواب يتكرّر (لا خيار آخر
أمامي…إذ كيف سأواجه حياةً كهذه؟ هل أهمله كلياً بعد أن خاب أملي فيه؟
كلا، سأهتمّ به ظاهرياً لكن من الأفضل لي وله أن أجد متنفساً ولو بحجم ثقب
الإبرة في مكان آخر حيث تكون المشاحنات والضغوطات أقلّ). نستنتج من مثل
هذه الإجابة أنّ معظم النساء يلجأن إلى الهجر العاطفي وهنّ غير راغبات في
ذلك، حيث يحدث ذلك بهدوء شديد؛ يبتعدن، ثم تدريجياً ينقطع ذلك الخيط
العاطفي الرفيع المتبقي مع الزوج الذي يبدو عليه في كثير من الأحيان كأنه
لا يلاحظ ما يجري بل يبقى منغلقاً ومغلقاً ومتجاهلاً.
تقول إحدى النساء، وقد اختارت عدم هجر الزوج جسدياً إنما اتجهت إلى
تغيير أولوياتها العاطفية: ((في البداية كنت أُحدِث المشاكل لأسباب تافهة
للغاية انتقاماً من لامبالاته ودمه البارد وثقته الزائدة بأنّه مَلَكني
للأبد، وبعد أن بدأت صحّتي ونفسيتي بالتدهور أقلعت عن هذا الأسلوب وقرّرت
أن أصبح لا مبالية إلى أن أصبحت هذه اللامبالاة جزءا من نفسيتي. لقد مرضت
في فترات كثيرة لشدّة اعتنائي به نفسياً وجسدياً مقابل إهماله، فقرّرت
أخيراً أن دوري للاعتناء بنفسي قد حان موعده)). وهذه ليست بالحالة
المتفرّدة، فإذا ما أمعنّا النظر فيما حولنا سنلاحظ أنّ الكثيرات ينظرن
إلى زواجهنّ كما لو أنه جزء متمّم للأعمال المنزلية ردّا على الأزواج
الذين ينظرون إليهنّ كجزء من المنزل أو الأثاث. بعض هؤلاء يعتبرن أنفسهنّ
ضمنياً غير متزوّجات، لأنّ مشاعرهنّ لم تعد متعالقة مع الشريك المفترض
(الزوج)، وبالتالي فإنهنّ أصبحن أمام خيارين؛ إمّا الاحتفاظ بهذا النوع من
الزواج إلى آخر العمر، وقبول نموذج الذكر المهيمن دون أن ينسجمن معه
عاطفياً، أو الاتجاه إلى إنشاء علاقة أفضل خارج الزواج، وربّما مع
الاحتفاظ به، ويبقى التفكير بفسخ الزواج آخرة المطاف.
تمرّ النساء، في حالتنا هذه، خلال فترة زواجهنّ بعدّة مراحل، ففي
البداية تحدث الشجارات الصغيرة، لكنّ المرأة تتصدّى لها في محاولة لضمان
حقوقها في الأخذ والعطاء العاطفيّ بينها وبين زوجها، وبعد فترة عندما يصبح
من المستحيل الحصول على الحنان الحميم بسبب الشجارات الصغيرة التي تؤدّي
إلى حدوث شروخ لا يمكن اندمالها، فإنّها تتخلّى عن فكرة بلوغ هذه الحميمية
مع زوجها، عندها تفكّر في هجره عاطفياً لأنه من الصعب عليها ترك ((منزلها
الذي تعبت في تكوين تفاصيله خلال سنين طويلة وأولادها وحتى أبيهم الذي بات
يشكل تتمّة لكلّ هذا))، فتلجأ في هذه المرحلة إلى خلق حياة أخرى خارج
البيت؛ حياة فيها ذلك البريق الذي افتقدته مع الزوج.. حياة متميّزة تجعلها
قادرة على التواصل مع الزوج الذي لم يعد يراها، بل وربما يستهين بها في
كلّ حركة تقوم بها!.
هذه الحياة المزدوجة هي في الواقع هامّة بالنسبة لهؤلاء النساء، لأنهن
يجدن في مكان آخر اكتفاءهنّ العاطفي، ولكنّ الحقيقة هي أنه حتى إذا رفضت
إحدى النساء الخوض في هذه الحياة المزدوجة، وقرّرت تفضيل زواجها وقمع
رغباتها على حساب حياتها، فإنّ الواقع المرير ينتهي بها إلى إحساسها
الدائم بأنها في النهاية من تتحمّل كافة الضغوطات، وأنها إن توقّفت عند
الخيار الأخير، على حساب نفسها و(لصالح الإخلاص الزوجي والشرف العائلي)،
فإنّها في هذه الحالة تجد نفسها وحيدة أكثر من أيّ وقت مضى، لأنها لم
توفّق في الحصول على التواصل العاطفي مع زوجها، كما لم يبق لديها بديل
تحبّه وتوظّف مشاعرها تجاهه.
في الوقت الحالي أدّى هذا الواقع إلى بروز ظاهرة جديدة – الحياة
الثانية للنساء – ولا يقتصر التوطين العاطفيّ الجديد على إقامة علاقة
غرامية خارج الزواج، إذ يمكننا أن نضيف إلى ذلك الاتجاه المتزايد إلى
العمل خارج المنزل وإتباع الدورات التعليمية، كما اتجهت الكثيرات بعد
سنوات طويلة من الزواج إلى استئناف دراستهنّ. ووفقاً لما نراه ونسمعه وما
تبثّه وسائل الإعلام، فإنّ أكثرهنّ يرغبن في العمل، حتى اللواتي كنّ
يفضّلن البقاء بالقرب من أولادهنّ والاعتناء بهم فإنهنّ بعد فترة يجدن
فكرة العمل مغرية للغاية رغم الضغوط التي يواجهنها ما بين عملهن وأُسَرِهن
بسبب ضيق الوقت. ولكنّ القسم الأكبر من هذه الضغوط يأتي من الإنهاك النفسي
الذي يصيبهنّ بسبب تلبية الطلبات التي لا تنتهي دون أن تتلقّى الدعم
الكافي من الشريك. ولا ننس في هذا السياق أولئك اللواتي مازلن يخترن
الأسلوب التقليدي في توظيف مشاعرهنّ كلّها تجاه أبنائهنّ، وهذا هو الشكل
المفضّل اجتماعياً، بل كان يعتبر من طبيعة الأمور، وقد يكون ذلك مبرّراً
في السنوات الأولى للطفل حيث يستنزف الاعتناء به مشاعر الأمّ، لكنّ
الإشكال يبقى قائماً فيما بعد خصوصاً عندما تبلغ المرأة ذروة النضج
العاطفي بعد سنوات من الزواج.
ما سبق لا يعني أنّ "الميثولوجيا" المبهرة التي تحيط بالحياة الزوجية
قد انقرضت، ورغم حالات الطلاق التي تتزايد في مجتمعاتنا، فإنّ الزواج يبقى
محافظاً على أهميته، حتى أولئك المطلّقات يعدن إلى الزواج بعد فترة، وإن
كنّ قد أصبحن مشتّتات وممزّقات نفسياً بسبب التجربة السابقة، يحدوهنّ
الأمل بألا يُنظر إليهن كآلة منتجة في المجتمع وحسب. لكن حالة الهجر
العاطفي تطرح أسئلتها على المؤسسة الزوجية الحالية في مجتمعاتنا، فهل
العلاقة الزوجية الرديئة أصبحت قدراً محتوماً؟ أم أن خوف النساء من العيش
ومواجهة الحياة بمفردهن يمتلكهنّ؟ ولماذا تضطرّ بعض النساء إلى مجاملة
الزوج أثناء العلاقة الجنسية دون الشعور بالمتعة مع ما تحمله هذه العلاقة
من تحقير وإذلال؟ وعندما تقرر بعضهن البقاء مخلصات رغم ما يتعرّضن له،
لِمَ يجدن أنفسهنّ وحيدات على هذا النحو؟ وأخيراً؛ هل تتخلّى النساء عن
أحلامهنّ الوردية بالزواج؟ ربما تجيب الكثيرات بأنّ أحلامهنّ قد اتّجهت أو
تتّجه إلى مكان آخر، لكن من المؤكد أنّ ثمّة احتمالا ضعيفا في عودة النساء
إلى المفهوم القديم عن الحبّ والزواج.
السبت أكتوبر 01, 2011 3:34 am من طرف بن عبد الله