"بدل أن نكون مُصممي ديكور بلا ذاكرة، ينبغي أن نُصبح علماء آثار،
نُنقب في ذواتنا، ونُخرج حياتنا الداخلية إلى الضوء!"
إدوارد سعيد
قلائل هم الذين يستطيعون التعبير باتزان وثبات
عن آراء تختلف عما يُروج له في مجتمعاتهم. أبناء أمتنا يعجزون حتى عن مجرد
تكوين مثل هذه الآراء الثائرة.
دور العلم عندنا كثيرة، غير أن العلماء ذوى
النبالة والحكمة قلة نادرة. قاعات الدراسة عديدة، لكن الشباب المتعطش
للحقيقة، المتشبث بروح العدالة، أقلية عزيزة المنال. الطبيعة، على ما
يبدو، سخية بالمألوف من الأشياء، شحيحة بالثمين النادر.
إن كلاً منا، نحن البشر، على الأرض في زيارة
عابرة، نجهل سببها، ولكننا نعتقد في قرارة أنفسنا أننا نحس ونُدرك هذا
السبب! بالنسبة لي، أراني قانعاً اننا هنا من أجل أولئك الذين نستمد كل
سعادتنا من ابتسامتهم وبهجة حياتهم، فلذات أكبادنا وأحباؤنا، وكذلك أيضاً
من أجل الجمع الغفير من الناس الذين وإن كنا لا نعرفهم، تربطنا وإياهم
روابط الرفقة الإنسانية. إننا هنا للدفاع عن الحرية، هدية الله للبشر.
الخصائص التي تتكون منها طبيعتنا البشرية،
والتى تُميزنا عن بقية الكائنات المُحيطة بنا، إنما مُنحت لنا وأُعطيت
كبذرة، يجب أن نستثمرها. الحياة رسالة(1).
حياتنا الداخلية والخارجية تعتمد على جهود
معاصرينا وأسلافنا، ولذلك حتماً علينا أن نسعى ما وسعنا بأن نرد جميلهم
بقدر ما نلنا ومازلنا ننال من ثمرات جهودهم. مظاهر النجاح الظاهري،
كالرفاهة المادية والشهرة، كلها بضاعة تعسة.
هذه المقالة أعمد فيها إلى تشريح الفهم العربي
لمفهوم البطولة، فلهذا الفهم ـ على ما يبدو ـ علاقة وطيدة بالتيه العربي
الراهن والمُخيف في صحراء التخلف.
البطولة في الوجدان العربي:
حينما تمتليء روح إنسان إلى حافتها، فلا مفر
من أن تسكب أحزانها وأفراحها على العالم وفي آذان الناس! مقولة مُلهمة
للأديب الروسي الشهير مكسيم جوركي.
الوجدان الحُر، لا يعترف بالبطولة إلا لمن
يجعل سبيله في الحياة تحرير الإنسان، لا استرقاقه، بغض النظر عن عرقه أو
لونه أو عقيدته أو جنسيته..الخ.
البطل هو القمة المتوهجة في هرم ضخم من الولع
بالحرية، وكلما اتسعت قاعدة هذا الهرم استطاع أن يستوعب المزيد من الحرية،
وازداد اشراق الهرم وجماله، واصبح توهجه غير قابل للانطفاء. البطل هو من
درب نفسه وملأها وحررها من أجل العطاء. إنه كأس لا قرارة لها، في امتلاء
مستمر وطفح مستمر.
قدر الإنسان هو أن يكون حُراً، ولو أننا
احترقنا بنار مضيئة، لخلفنا وراءنا ذكريات رائعة، تُُرجع الأجيال القادمة
صداها. من تسكنه شهوة استرقاق العقول والقلوب، لا يصير بطلاً، وإن أحسن
إلى الناس. البطل لا يسترِق من يُحسن إليهم.
قد ينجح بطل مزعوم في إطعام أبناء أمته، فلا
يبقى جائع واحد..قد ينجح البطل نفسه في بناء المصانع، والمزارع،
والمستشفيات، ودور العبادة..قد ينجح كذلك في إحراز الانتصارات العسكرية
المُدوية، وفي بناء القنبلة النووية..قد ينجح هذا المُخلص الزائف أيضاً في
محو أمية أبناء أمته، فلا يبقى أمي واحد..ويبث المدارس في ثنايا بلاده،
فلا يبقى مواطن لم يتخرج في مدرسة أو معهد أو جامعة..وينشر المكتبات،
والمسارح، حتى لا تبقى قرية لا تعمرها هذه الوسائل وغيرها! يفعل البطل
الزائف هذا كله، ليصادر هدية الله لأبناء أمته، وليُمكِن للرق في العقول
والقلوب..
وجود دور العلم، والمسرح، والمطبعة،
والكتاب..الخ لا يكفي! المهم هو ما في دور العلم والمسرح والكتاب! لا يكفي
أن توجد الجامعة، وهل ساعدت الجامعة عندنا على التمكين للحرية في العقول
والقلوب؟! على العكس، إنها تُنتج مسوخاً مشوهة!
الإنسان في أمتنا، التائهة في صحراء التخلف،
يتغذى وجدانه الكسير بمفهوم مُتحجر ومُبتذل للبطولة. إنه في حاجة مزمنة
ومُهينة إلى يد حازمة، تتولى قيادته وتُمسك بزمامه. إنه يُسرف في تصور
شخصية صاحب هذه اليد الحازمة وتحديد الصفات المطلوبة منه، وتشتط به أحلام
اليقظة التي يتمثل فيها هذا القائد بطلاً، ومُنقذاً ومُخلصاً للأمة، يضرب
التنين بسيفه، دون أن ينزل عن ظهر جواده! المُخلص القومي لا تنحصر زعامته
في الحدود السياسية، إنه الأمل في إزالة هذه الحدود..
البطل العربي هو من يصنع الناس(2)، لا من يعلمهم كيف يصنعون أنفسهم!
من جملة من زار عالمنا العربي، في الربع
الأخير من القرن التاسع عشر، رجل مفكر من الشرق ـ إيراني أو أفغاني،
الخلاف في أصله خارج موضوعنا ـ، وملك من الغرب، ساهما بقوة في ترسيخ هذا
الفهم العربي ـ المُشوَه ـ للبطولة.
كُتاب العرب ومؤرخوهم ينسبون إلى السيد جمال
الدين الأفغاني انه قال، في معرض الحديث عن مصير أهل الشرق الذي رآه الرجل
مؤسفاً، إن حاجة الشرق إنما هي إلى "مستبد عادل!". ولكن محمد المخزومي،
الوجيه البيروتي الذي رافقه وتتلمذ عليه طويلاً وسجل أقواله وحكمه في كتاب
قيم، يضع النص بشكل آخر: "لا تحيى مصر ولا يحيى الشرق بدوله وإماراته إلا
إذا أتاح الله لكل منهم رجلاً قوياً عادلاً". و"خير صفات الحاكم القوة
والعدل". ويضيف المخزومي انه سأل الأفغاني عن صحة ما ينسب إليه عن المستبد
العادل، فأجابه بأن المطلوب هو القوي، لا المستبد العادل، لأن الاستبداد
يتنافى والعدالة. ولعل الالتباس بين القولين يعود إلى مقال كتبه رفيقه
محمد عبده في مجلة الجامعة في الإسكندرية في العام 1901، جعل عنوانه "إنما
ينهض بالشرق مستبد عادل"، وحدد فيه الأماني المعقودة على هذا المستبد
العادل(3): يُكره المتناكرين على التعارف، ويُلجئ الأهل إلى إلزام، ويصهر
الجيران على التناصف. وحدد عبده خمس عشرة سنة كفترة لابد منها لإنجاح حكم
من هذا النوع.
محمد عبده، تولى منصب الافتاء في مصر، وجمعته صداقة بالمُحتل(4)!
على أية حال، ومهما يكن من أمر، فان قول
الأفغاني، الذي ردده رفيقه محمد عبده من بعده، ذاع وشاع، بهذا الشكل أو
ذاك، وأصبح أبرز وأدق تحديد في الأدبيات العربية المُعاصرة لمفهوم البطولة
في الوجدان العربي. وأصبح لبنة أساسية في بنيان الفكر السياسي المعاصر
الذي كان الأفغاني وعبده من واضعي أساساته. ولعل العصبية القومية ـ بحسب
أنيس الصايغ ـ هي التي حملت بعض المؤرخين والرواة على نسب القول إلى
ثانيهما، العربي، بدل أولهما بعد أن رأوا شيوع القول واشتهاره على ألسنة
الناس. ولكن الأفغاني، وان لم يكن عربياً، كان مسلماً وكان شرقياً وكان
شريكاً للعرب في التألم من الأوضاع المزرية وفي البحث عن سبيل للخلاص.
وكان، فوق هذا، رائداً لهم في البحث وصاحب تأثير ملموس في صياغة فهمهم
للبطولة.
أما الضيف الثاني على عالمنا العربي، فكان
الإمبراطور الألماني وليم الثاني، المعروف عند العرب بغليوم! زار
الإمبراطور الألماني خلال تجوله في البلاد السورية، كجزء من رحلته في
السلطنة العثمانية خريف 1898، قبر صلاح الدين الأيوبي في جوار الجامع
الأموي بدمشق، وكان القبر من قبل مُهملاً وشبه منسي! انحنى الإمبراطور
أمام قبر صلاح الدين، ووضع عليه إكليلاً، ثم ألقى خطبة شهيرة. الإكليل هنا
أدى دور تاج، على رأس صاحب القبر! بينما الخطبة التي أُلقيت أمام جمع من
وجهاء البلاد ومسؤوليها، بويع فيها صلاح الدين رمزاً للبطولة العربية.
هذان هما الإسهامان الشهيران، في تأكيد الفهم
العربي للبطولة، اللذان خلفهما القرن الـ19 لأجيالنا: شخصية صلاح
الدين/المستبد العادل! اللافت هو أنه بمرور الزمن يقوى التخيل العربي
لشخصية البطل المُخلص، حتى أصبح تعبيرا صلاح الدين والمستبد العادل
عُنصراً رئيسياً في آلاف الخطب والمقالات ومادة حديث يتلهى بها الجميع،
يلوكونها ويحللونها، بأصالة وافتعال، وبوعي أو بسطحية، حسب الظروف، وحسب
نوايا أصحابها، وما يرمون إليه. فهمٌ مُشوَه للبطولة تكمن فيه مأساة
أمتنا!
لماذا التشوه الحاصل في الفهم العربي؟
"الشرقي يحني رأسه في مذلة ومهانة أمام الغالب
وأمام السيد، لكنه متوحش قاسٍ إزاء المغلوب ومن هو أدنى منه"! قناعة
هيجلية، لشد ما ترتبط بموضوعنا.
لنتخيل ـ والكلام لهيجل(5) ـ رجلاً أعمى، يجد
نفسه فجأة، وقد أصبح مُبصِراً، فيشاهد البريق الذي يشعه ضوء الفجر،
والتألق المتوهج لطلوع الشمس!
إن أول شعور له هو نسيان، بغير حد، لشخصيته
الفردية في هذا السناء الرائع المطلق ـ أي الدهشة التامة ـ. عندما ترتفع
الشمس تقل هذه الدهشة، إذ يدرك الأشياء المحيطة به. ومنها ينتقل الفرد إلى
تأمل أعماق وجوده الداخلي. وعند نهاية النهار يكون الإنسان قد شيد بناء
أسسه من أعماق شمسه الداخلية. وهو حين يتأمل في المساء شمس الوعي الذاتي
يقدرها أعلى بكثير من الشمس الخارجية الأصلية، لأنه يجد نفسه في علاقة
واعية مع روحه، وهي لهذا السبب علاقة حرة. ونحن إذا ما وعينا هذه الصورة،
لوجدنا أنها ترمز إلى مجرى التاريخ، إلى عمل النهار العظيم للروح. ضوء
الروح إذن هو وعي الإنسان بالحرية الذاتية، أي الاستقلال، أو التعين
الذاتي، أو تحديد الإنسان لنفسه دون تدخل شيء من الخارج! الروح تصل إلى
مرحلة النمو الناضج، حين تكون مستقلة، وحين يصبح الفرد قانوناً لنفسه،
فتتحقق حريته.
في آسيا أشرق ضوء الروح، وفيها أيضاً بدأ
تاريخ العالم ـ الذي هو تدريب الإرادة الطبيعية الطليقة، بحيث تُطيع مبدأ
كلي، وتكتسب حرية ذاتية ـ. ما أنجزه التاريخ لا يُشكل دائرة حول الأرض،
لكن له شرق محدد هو آسيا! تاريخ العالم يتجه من الشرق إلى الغرب، فأوروبا
ـ بحسب هيجل ـ هي نهايته، على نحو مطلق!
إننا ـ والكلام لهيجل بطبيعة الحال ـ نجد في
الشرق طفولة التاريخ، حرية موضوعية لم تصل بعد إلى مرتبة الحرية الذاتية!
فالأشكال الجوهرية تؤلف الصروح الرائعة للإمبراطوريات الشرقية التي نجد
فيها جميع التنظيمات والأوامر العقلية، ولكن بطريقة يظل الأفراد فيها مجرد
أحداث عارضة فحسب، إذ يدور هؤلاء الأفراد حول محور واحد هو: الحاكم، الذي
يتربع على رأس الدولة بوصفه أباً للجماعة، لا بوصفه مستبداً! جبروت التصور
الشرقي يكمن في الفرد الواحد بوصفه ذلك الوجود الجوهري الذي ينتمي إليه كل
شيء، بحيث لا يكون لأي فرد آخر وجود منفصل، الحرية الذاتية تبحث عن سموها،
لا في ذاتها، وإنما في ذلك الموضوع المطلق..
ينظر الشرقي إلى الأوامر والقوانين على أنها
شيء ثابت مُحدد ومُجرد، يخضع له في عبودية مطلقة، ولا يتعين أن تلبي هذه
القوانين أمانيه، وبالتالي فإن المواطنين يكونون أشبه بالأطفال الذين
يطيعون آباءهم بغير إرادتهم أو بصيرتهم الخاصة! الحرية هنا موضوعية لا
ذاتية! الدولة هي الحياة الروحية الكلية التي يرتبط معها الأفراد بمولدهم
بعلاقة ثقة ويعتادونها ويتمثل وجودهم وواقعهم الحقيقي فيها.
الإنسان الشرقي يفتقر إلى البصيرة، والإرادة،
والشخصية. إنه يفتقر إلى الحرية الذاتية، التي لا تتحقق إلا في الفرد، ولا
تتجسد إلا في وعيه بحرية عقله وقلبه. إنه حُر بقدر ما يُسمح له، ولا يجرؤ
على الدخول المُنفرد لملكوت الحرية.
قارئي الكريم، ثمة تناغم مُدهش بين الوصف
الهيجلي للمجتمعات الشرقية ـ ومنها مجتمعاتنا العربية ـ، بأنها لا تعرف من
الحرية إلا حرية الحاكم، أي حرية القوى الحاكمة، وبين قناعة مجتمعاتنا
الكسيرة، انه انما ينهض بالأمة مستبد عادل، يتمتع وحده بالحرية الذاتية،
بينما يُسمح لبقية أفراد المجتمع بالحرية الموضوعية..
الحالمون بالمُستبد العادل، في ثقافتنا،
يفتقرون إلى البصيرة والإرادة والشخصية، وينفرون أيضاً ممن يسعى لاضاءة
عقولهم وقلوبهم بمصابيح الحرية.
بعبارة أخرى، الوجدان العربي مُتشبع ـ كما
أسلفت ـ بفهم مُتحجر ومبتذل للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله،
وإنما من المستبد العادل! الحالمون بالمستبد العادل/البطل المُخلص في
أوطاننا لا يدخلون، بل لا يجرؤن حتى على مجرد التفكير في دخول ملكوت
الحرية، دون اذن! البطل العربي بائع لصكوك الحرية!
هيجل ـ وكما هو واضح ـ يُرجع خفوت، أو انطفاء
شمس الوعي بالحرية، داخل عقول وقلوب أبناء الشرق، ومنهم أبناء مجتمعاتنا
العربية، إلى عدم وصول الروح إلى مرحلة النمو الناضج، ومن ثم عدم
استقلالها، نظراً لإشراق سناءها الرائع المُطلق في آسيا، حيث بدأ تاريخ
العالم، وغروبها في أوروبا، حيث ينتهي التاريخ.
أراني قانعاً بأهمية تثمين التفسير الهيجلي،
للتشوه الحاصل في فهم مجتمعاتنا العربية للبطولة. ولسوف أبدأ رحلتي بعرضٍ
موجز لبعض ملامح فكرنا الأنسني.
نحو تفسير أنسني لتشوه الفهم العربي:
ما أعنيه بـ "الأنسنية" هو أن يُحقق الإنسان،
أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك
الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في
الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل
البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين
للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال
في إطار الخصائص التالية(6): 1ـ معيار التقويم هو الإنسان. 2ـ الإشادة
بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة. 3ـ تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر
معها. 4ـ القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه. 4ـ تأكيد النزعة
الحسية الجمالية.
وطبقاً للمعيار المأخوذ به فى الفكر الأنسني،
للتمييز بين الذات والآخر، يُعد الإنسان، أى إنسان، أنسنياً (ذاتاً
أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه
أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتاً حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك
كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتاً مغتربة ثقافيا(7).
فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل
الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء
لمجتمعه.
المقصود بـ"الثقافة" هنا، وعلى خلاف الشائع،
التعريف الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة(8)، فلكل البشر، على
تفاوت مراتبهم، ثقافاتهم الخاصة.
باستخدام المعيار الأنسني نفسه، المُشار إليه
تواً،، يُعد آخراً كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه،
ويعمل جاهداً في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافياً
بالأنسنية كفلسفة حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان
الذات البائسة من جني ثمار الأخذ بها! ذلك هو الآخر(9)!
تطور التاريخ الإنساني ـ وبحسب ما يرويه لنا
المؤرخون ـ لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية
والذات المغتربة والآخر. أقول صراعاً ثقافياً، استناداً للتعريف
الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع
أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فالآخر في فكرنا لا يرمي فقط لاحكام
السيطرة الاقتصادية على الذات المغتربة، وإنما يتخطى ذلك ـ بلاإنسانية ـ
إلى الحيلولة دون تمتع هذه الذات بحقها الطبيعي فى نقد وتطوير طريقة
حياتها.
وأقول صراعاً معقداً، لتعدد جبهاته وتداخلها!
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية
وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المُدرك للأنسنية والحريص
على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن
اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها
بالأنسنية كفلسفة حياة. إنه صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو
إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه
لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع
عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو
يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود
الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى
ممارسات عدائية في حقها، ترمي للنيل من خصوصيتها الثقافية وتسعى لهدمها.
قارئي الكريم، ثمة إمكانية واضحة للحديث عن
تناغم يُعتد به بين القول الأنسني بوجود صراع ثقافي مُعقد ـ أطرافه الذات
الأنسنية، والذات المغتربة، والآخر ـ، وبين تشوه الفهم العربي للبطولة!
وذلك على غرار الامكانية المُشار إليها في الجزئية السابقة، أعني إمكانية
الحديث عن تناغم بين الوصف الهيجلي للمجتمعات الشرقية (ومنها مجتمعاتنا
العربية)، بأنها لا تعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، أي حرية القوى
الحاكمة، وبين قناعة مجتمعاتنا، انه انما ينهض بالأمة مستبد عادل، يتمتع
وحده بالحرية الذاتية، بينما يُسمح لبقية أفراد المجتمع بالحرية
الموضوعية.
اتهامي للاغتراب الثقافي للذات العربية،
والآخرية (خاصة العربية/المحلية)، بمسئوليتهما عن تشويه الفهم العربي
للبطولة، لا يحتاج لاثبات، غير أني سأثبته!
الطرح الهيجلي، ورغم اقراري السالف بريادته
وأهميته، مُخيف في تعاليه، ولا يخلو من عنصرية غربية ـ مُزمنة ولاأنسنية
ـ! أليس يُرجع خفوت، أو انطفاء شمس الوعي بالحرية، داخل عقول وقلوب أبناء
المجتمعات الشرقية، ومنهم أبناء مجتمعاتنا العربية الكسيرة، إلى عدم وصول
الروح إلى مرحلة النمو الناضج، ومن ثم عدم استقلالها، نظراً لإشراق سناءها
الرائع المُطلق في آسيا، حيث بدأ تاريخ العالم، وغروبها في أوروبا، حيث
ينتهي التاريخ!! الطرح الهيجلي لا يخلو من غرض!
خفوت، أو انطفاء شمس الوعي بالحرية، داخل عقول
وقلوب أبناء مجتمعاتنا العربية المُتخلفة ـ والذي تعتبره رؤيتي المُقترحة
للفكر الأنسني اغتراباً ثقافياً ـ، ليس قدراً محتوماً، كما يُلمح هيجل في
طرحه الرائد والمهم، وإنما هو صناعة الآخر الآثم (أعني الآخر
العربي/المحلي، ومن ورائه الآخر الإقليمي والآخر العالمي).
منذ رحيل الاستعمار الأوروبي عن أرضنا
الطيبة، يعمل الآخر المحلي جاهدا، وبشتى الوسائل والسبل، للحيلولة دون أخذ
الذات العربية المغتربة ثقافيا بالأنسنية، كفلسفة حياة. الآخر المحلي
واقعٌ كارثي، رغم جهل شعوبنا بوجوده..
الثائر المارتينيكي فرانز فانون يُنبهنا إلى
ضرورة إدراك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة، هي في بعض
الأحيان متباعدة، بل ومتعارضة! فهناك دوماً أجزاء من المجتمع ـ الآخر المحلي
ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية.
والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار
الغربي: العربي والغربي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لعرب أن
يكونوا أكثر آخرية من الآخر الغربي، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها
إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها
وعن مصالحها. كما يبيت لزاماً على الشعب أيضاً أن يدرك أن هناك أناساً من
بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة النضال لتعزيز
وضعهم المالي وقوتهم. فهم يتاجرون، ويحققون أرباحاً طائلة، على حساب
شعوبهم. المناضل الذي يجابه بوسائله البدائية آلة
الاستعمار الجهنمية/آلة الآخر الغربي، لا يلبث أن يكتشف أنه بقضائه على
الاضطهاد الاستعماري يساهم في خلق جهاز استغلالي آخر، وهو اكتشاف مؤلم
وشاق ومثير. فقد كان الأمر بسيطاً للغاية في البداية، كان هناك في نظره
أشرار من جهة، وطيبون من جهة أخرى. أما بعد الاستقلال الوطني، يحل محل
الوضوح الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال البغيضة
يمكن أن تأخذ مظهراً غربياً أو عربياً. لذا، على الشعب أن يتعلم كيف يُندد
بالآخرية المحلية، وأن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة، التي كان يتميز
بها إدراكه للآخر. تلك هي وصية فانون للمُعذبين في أرضنا الطيبة(10).
الآخر العربي/المحلي واقع كارثي حقاً! أليس هو
ـ وياللحسرة ـ من يتمتع وحده، ودون بقية أبناء مُجتمعه، باشراق شمس الوعي
بالحرية، داخل قلبه وعقله! أليس هو من يُنتج الثقافة السائدة! أليس هو من
يحول دون نقد وتطوير الفهم المُشوه للبطولة! الآخر العربي/المحلي يعلم
جيداً أن تأبيد الفهم العربي المُشوه للبطولة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً
بتعمية الذات العربية الحائرة عن الأنسنية، وادامة اغترابها الثقافي!
عوامل عديدة تساعد الآخر، على بلوغ غايته، ، أذكر منها العوامل التالية:
العامل الأول: افتقار ثقافتنا العربية
الإسلامية لظهير فلسفي يُعتد به. فأبناء مجتمعاتنا العربية، وعلى خلاف
أبناء مجتمعات أخرى ـ كالمجتمعات الأوروبية ـ، لم يمروا بتجربة "النقاء
الفلسفي". الشعوب العربية قبل الإسلام لم تعرف التفلسف.
العامل الثاني: تسيد فلاسفة الضِرار
للدوائر الفكرية والأكاديمية في مجتمعاتنا المتخلفة(11)! إنهم يقللون من
أهمية نُشدان الحقيقة، ويُشيعون العُقم الفلسفي، فأقصى ما يستطيعه فلاسفة
الضِرار هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! إنهم، جنباً إلى جنب
مع محترفي التبرير الديني، يُلقون في روع الذات العربية المغتربة أن عليها
أن تختار بين طريق الدين وبين طريقة في الحياة لا تحرص إلا على إشباع
الغرائز والرفاهة المادية! بهذه الحيلة الشيطانية، يبدو سالكو طريق الدين،
في مجتمعاتنا المتخلفة، على أنهم الوحيدون المهتمون بالروح، وأنهم
المتحدثون الوحيدون عن الله وعن المثل العليا: الحب والحق والعدل! وهو ما
يُسيء للفلسفة والفلاسفة، بوصف الفلسفة ـ إلى جانب الدين ـ أهم وأبرز
الطرق المُتاحة أمام البشر لنُشدان الحقيقة!
العامل الثالث: إحجام أبناء ثقافتنا عن
الاشتغال بنشدان الحقيقة. وهو ما يسر للآخرية العربية/المحلية سطوها على
الدين، بل وتمترسها وراءه، في خسة ونذالة، لحماية مكاسبها الضخمة
وامتيازاتها الهائلة، على نحو مؤلم ومُستفز، دون الالتفات للضحايا الذين
نجحت في تكريس اغترابهم، وألقت في روعهم، أنهم بتنازلهم عن حرية عقولهم
وقلوبهم، ووضعها تحت أقدامها، يتقربون إلى الله، ويشترون الجنة!
العامل الرابع: حرص الآخر
العربي/المحلي الشديد والكارثي على أن يُعامَل الإسلام (كحضارة كاملة)
مُعاملة الأصل الديني للإسلام! أولاً: لأن الآخر العربي هو من يُنتج
الثقافة الدينية! ثانياً: لأنه لا يجوز ولا ينبغي للإسلام(كحضارة كاملة)،
أن يحظى بامتياز الحُرمة والقداسة، الذي يُعترف به، وأنا أفعل، للأصل
الديني للاسلام!
صحيح أن الإسلام كحضارة كاملة نشأ وتطور في
كنف الأصل الديني للإسلام، بيد أنه لا يصح أن ينسحب امتياز الحُرمة
والقداسة الذي يُعترف به للأصل الديني للإسلام على أمور هي من صميم
الإسلام كحضارة كاملة، أعني التاريخ والسياسة والقانون والأخلاق
والفن..الخ! أمور حياتية كهذه لا يصح أن تُشفر ضد النقد والتطوير! فحياة
الإنسان في حراك دائم، ومن يحلم بتأبيد اللحظة يُراود المستحيل(12)،
ويُورث نفسه وأبناء حضارته الهوان! على نحو ما يحدث لأمتنا!
العامل الخامس: التواطؤ أو على الأقل
التوافق المصلحي المُخز، بين الآخر العربي/المحلي وبين نظيريه الاقليمي
والعالمي! والذى لولاه ما تحقق ولا استمر النجاح المُذهل للأول، في تكريس
اغتراب الذات العربية، أي تكريس تنازلها عن حقها في امتلاك ثقافة حرة
ومتطورة، وذلك عبر آليات منها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب
ما اصطُلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين، والدين منه براء! تبعية
أوطاننا للآخر العالمي/الغربي ـ وما يصاحبها من هدر للثروة والكرامة ـ
تصير حتماً جحيماً لا يُطاق، إن غابت جهود الآخر العربي/المحلي، فهو الذى
يُقنع الذات بحتمية التمادي فيها، مُستخدماً القوة الناعمة تارة، وتارة
أخرى القوة الخشنة!
مظاهر التواطؤ أوالتوافق المصلحي عديدة، لعل
أبرزها: 1ـ تكريس الاغتراب الثقافي. 2ـ النهب المنهجي للثروة النفطية. 3ـ
إضعاف الذات الفلسطينية، وهدر دمها. 4ـ تلاسن نسخ الآخر العربي حول
ممالأتها إسرائيل والغرب(13).
العامل السادس: وثوق شعوبنا العربية
المُغتربة في الآخر العربي/المحلى، وقبولها باحتكاره لحق نقد الثقافة
العربية الإسلامية وتطويرها. وهو ما نجد له تفسيراً في تصور جوستاف لوبون
لسيكولوجية الجماهير(14). فنسخ الآخر العربي/المحلى لم يكن لها أن تستمر
في احتكارها لحق نقد الثقافة العربية الإسلامية وتطويرها، لولا أنها تُحسن
توظيف مقولات لوبون! إنها تعي جيداً ـ على ما يبدو ـ قول جوستاف لوبون: إن
الجمهور قطيع طيع، لا يستطيع حياة بلا سيد! وظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى
إنه ليخضع غريزياً لمن يُنصب نفسه زعيماً عليه! إنها أيضاً تعي قوله: إن
الجمهور ليس مجرماً وليس فاضلاً سلفاً، وإن انصهار أفراده في روح واحدة
وعاطفة مشتركة، إنما يقضي على التمايزات الشخصية ويخفض من مستوى الملكات
العقلية..
العامل السابع: الدور المهم الذى تلعبه
الزعامات المحلية (سياسية كانت، أم دينية، أم فنية، أم كروية، أم
إعلامية..الخ)، والتي يسميها لوبون محركي الجماهير، في إحكام السيطرة على
الذات العربية المُغتربة، ودفعها في سلاسة وهدوء نحو الشرك الذي أعده لها
الآخر الغربي/العالمي! إذ لا يكاد يخلو قطر عربي من زعامة محلية أو أكثر،
تُحاط بسياج مخيف من الهيبة والجلال، وتتمترس خلفها كل قوى القهر
والآخرية! ولهذه الزعامات أن تناوش الآخر العالمي والآخر الإقليمي من حين
لآخر، بهدف مغازلة مشاعر الذات العربية المغتربة، وكذا تعزيز شعبيتها
الجارفة!
هل ثمة أمل في الخلاص؟
صحيح أن مجتمعاتنا غارقة إلى أذنيها في
التخلف، وصحيح أن فهمها للبطولة يتسم بالتحجر والابتذال، وصحيح أنها تُعول
في خلاصها على مشعلى حرائق التخلف وباعة صكوك الحرية، كل هذا وأكثر صحيح،
ولا سبيل لانكاره! إنه عارنا الثقيل، وميراثنا المُر! غير أن في مقدور
الأبطال العظماء، لا باعة صكوك الحرية، أن يُضيئوا مصابيح الوعي بالحرية،
فتتبدى لشعوبنا الكسيرة سوءة اغترابها الثقافي، وقُبح الآخرية ـ خاصة
العربية/المحلية ـ. معرفتنا بالحرية تُشعرنا بازدواج وضعنا في الكون.
فنحن مخلوقون وخالقون. وحياتنا ما هي إلا تدريب على فن الابتكار(15).
ولنتذكر دائماً: أن الحرية المغروسة في العقل
والقلب السليمين، كالحبة المُلقاة في الأرض الطيبة، تُثمر وتُعطى أُكلها!
وأن الأبطال أبداً لا يُميتون غرس الحرية!
الجمعة سبتمبر 07, 2012 4:49 am من طرف هشام مزيان