قبل
أيام قليلة خلت أنهيت قراءة رواية الاديب اليمني على المقري «اليهودي
الحالي» التي يعالج فيها علاقة اليهود بالمسلمين تاريخيا في اليمن. متعمقا
في الارث العقيم للمثيولوجيا، التي أوجدت شرخا عميقا بين أبناء الشعب
الواحد، والحي الواحد، وعزلتهم عزلاً مستبدا عن بعضهم البعض، حتى عندما
زارت فاطمة بنت المفتي وبطلة الرواية بيت حبيبها سالم النقاش استهجن أهله
وابناء الحي من اليهود هذه الزيارة وألبسوها تفاسير أخرى، مع انها جاءت
لتقنع والده بضرورة تعليمه اللغة والدين. ليس هنا المهم. المهم في لحظة
تاريخية أشاع بعض حاخامات اليهود أن المسيح سيقوم، وتلبست الفكرة أحد
اليهود، الذي ادعى ان زمن حكم اليهود للبلاد أذن وحان، وعلى حاكم البلاد
أن يخلي الحكم له. وتجمهر حوله اليهود من أحياء البلاد وسار أمامهم الى
قصر الحاكم، وكلما تقدم الركب بهم الى القصر كانت الجمهرة اليهودية تتقلص،
وما أن وصل الى القصر فكان وحيدا، ووقف أمام الحاكم وخاطبه قائلا: أترك
الحكم لان عهدك انتهى؟! استغرب الحاكم ما قاله، وطلب أن يفحصوا الرجل قبل
القصاص منه، وعندما تبين أن الرجل سليم العقل أمر بتعذيبه وتعليقه في ساحة
مركزية في المدينة ليكون عبرة لمن اعتبر.
ما ورد في رواية على المقري يتكرر بشكل آخر في القدس، حيث تقوم منذ فترة
بعض الجماعات اليهودية المتطرفة، التي تغذيها الصهيونية الرجعية لتحقيق
مآرب سياسية عنوانها الاول تصفية الوجود الفلسطيني في مدينة القدس أولا
والبلاد ثانيا، بتوزيع بينات باللغة العربية في عدد من أحياء مدينة القدس
المحتلة تحت عنوان «نداء الى جميع المسلمين الساكنين في ارض اسرائيل» تدعو
من خلالها المواطنين الى مغادرة ما يسمونها «أرض اسرائيل»، ولاغرائهم
وتحفيزهم على ذلك تعرض عليهم التوجه للحكومة الاسرائيلية للتفاوض معها
لتمنحهم المساعدات المالية ولتوفر لهم أماكن سكن في أماكن ودول أخرى غير
اسرائيل.
لعبت الميثولوجيا لعبتها وتلعبها القوى السياسية منذ أزمان غابرة لتسهيل
سيطرتها ونفوذها على الجماعات البشرية التي تحكمها أو تسعى لحكمها أو
لاغراض سياسية واقتصادية أخرى. وتدريجيا أمست الميثولوجيا جزءاً أساسياً
من مكونات الوعي بين الجماعات وأتباع الديانات والمذاهب المختلفة.
ولم يغب عن منظري الحركة الصهيونية منذ البدايات الاولى لنشوئها في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر ألاستفادة من الميثولوجيا وخزعبلاتها
وأضاليلها. وما يجري في القدس هذه الايام ليس سوى نتاج هذه الميثولوجيا
المسيسة، الهادفة لطرد السكان العرب بغض النظر عن ديانتهم مسلمين ام
مسيحين أم غير ذلك من بلادهم الاصلية. وبذلك تكون الجماعات الصهيونية
المتطرفة جندت كل امكاناتها السياسية والميثولوجية والارهابية والتزوير
والخداع والتضليل لتحقيق مآربهم الكولونيالية.
ولكن ينسى هولاء الصهاينة أن ميثولوجيتهم لها نقيضها في اوساط اصحاب
الديانات الاخرى من المسلمين والمسيحين. فضلا عن أنهم نسوا أو تناسوا ما
هو اهم من كل الميثولوجيات والاحابيل التضليلية، وهي الانتماء للوطن
والارض والحقوق والثقافة والتاريخ، التي لايمكن لأي ميثولوجيا او سياسة أن
تهزها أو تقهرها مهما ملكت من أسلحة الموت والقتل والتزوير.
تستطيع الجماعات اليهودية المتطرفة وحكومتها المغرقة في رجعيتها وأقصويتها
أن تعربد، وان تقتل، وان تزور الوثائق وتبني بقوة السيف والبارود
المستوطنات وتقيم الجدران العنصرية، لكنها لن تستطيع أن تلغي أو تسقط حق
الشعب العربي الفلسطيني في ارض وطنه. ولا يعني قبول الشعب وقيادته
السياسية بالمساومة، وقبول الحد الادنى من الحقوق وخيار حل الدولتين
للشعبين الاستسلام لمشيئة حكومة اليمين المتطرف والجماعات اليهودية
المارقة. وسيبقى أبناء القدس راسخين في بيوتهم وأحيائهم وقراهم، وسيدافعوا
عن أرضهم، ارض الاباء والاجداد مهما غلت التضحيات.
والكلام الاخير ليس خطابا انشائياً، بل هو في صميم الانتماء لفلسطين الارض والوطن والذاكرة الجمعية للشعب والهوية والثقافة الوطنية.
الجمعة سبتمبر 07, 2012 4:47 am من طرف هشام مزيان