في هذه اللحظات الحالكة التي تعيشها الأمة العاجزة عن حماية مقدساتها. وفي
ظل احتضار الأنظمة الحاكمة المشغولة بتزوير الانتخابات وتوريث الحكم،
ولهاث الشعوب العربية وراء كسرة الخبز، وانتحار علماء السلاطين وفقهاء
البلاط، وتقاعد القادة الثوار، وانتهاء ضجيج الثورات، وأخذ الجيوش العربية
إجازة مفتوحة بدون راتب، حيث الجعجعة بلا طحن، وذهاب ما جاءت به الرياح مع
الزوابع، يجد المرء نفسه أمام تحديات جسيمة تهدد وجود الأمة كوحدة متجانسة
لها تواجد حي وحر على رقعة الخريطة.
ولكي يحافظ المرء على توازنه،
وتحافظ البلاد على وجودها، لا بد من البحث عن مراكز القوة في الشارع
العربي، ومؤسسات المجتمع المدني، والقوى الشعبية المختلفة، وذلك من أجل
الحفاظ على كيان الدولة العربية ضمن منهجية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وللأسف
فإن الدولة العربية ككيان سياسي صارت مزرعةً للحاكم وأسرته وحاشيته، وهي
بذلك تكون قد فقدت مقومات المعنى السياسي، وخسرت أبعادها الوظيفية في
المحافظة على ذاكرة التاريخ، وتحقيق آمال الشعب. لذلك ينبغي التنقيب عن
القيادات الكاريزمية في المجتمع من أجل حشد الطاقات، وانتشال الوعي
الإنساني الشعبي من مستنقع الجهل والاستهلاكية الفجة. أما التعويل على
المستوى الرسمي العربي فهو تعويل على قبر ساكن، لأن انتظار النظام الرسمي
لكي يتحرك إيجابياً هو بمثابة إجراء تنفس اصطناعي لجثة هامدة.
وهذا
المنطق السياسي في الحراك الاجتماعي عقلاني للغاية في زمن تبدل مراكز
القوى، وتغير مواطن صنع القرار. فتأثير إفرازات النظام الحاكم على أرض
الواقع يكاد لا يُذكر، لأن الناس سئمت الخطاباتِ الرنانة، وارتداء الأقنعة
الزائفة من قبل الكيانات السياسية التي تاجرت بكل شيء، بدءاً من مصير
شعوبها، وحتى الشعارات الثورية التي تغطي الكثير من الأنظمة التي خلعت
ثوريتها كالمعطف البالي مع هبوب رائحة عطر العم سام. كما أن الأثر
الإستراتيجي لتحرك الشارع بشكل عقلاني مضاد للفوضى من شأنه توجيه دفة
قيادة الجماعة البشرية نحو بر الأمان خارج نطاق نفوذ الإملاءات الخارجية.
كما يتطلب الموقف العربي الصعب تجذير عملية التنقيب عن المواهب القيادية
الجديدة للخروج من حالة الموات السياسي الضارب جذوره في أدبيات القمع
السُّلطوي.
فخطة الإنقاذ العقلانية هي التفتيش عن مالكي صنع القرار،
وصانعي التأثير الجماهيري، من أجل إحداث عملية انتشال كبرى للمجتمعات
العربية التي تغرق وهي تضحك غير عابئة بالتهديدات الجذرية التي تمس
مصيرها.
لذلك فمواصلة النوم وانتظار قدوم خالد بن الوليد على فرس
وبيده سيف لا يجدي نفعاً، واختراع الأناشيد الوطنية من أجل نشرها في
الهواء بدون حاضنة واقعية تطبيقية لا يمكن أن يقود مسيرة التحرير.
والتطبيل والتزمير للزعيم وحاشيته سوف يذهب أدراج الرياح، لأن الحاكم
العربي لن يتحرك إلا إذا تم تهديد نظام حكمه، أما إذا هُدم الأقصى أو تم
تقسيمه -على سبيل المثال-، فهذا أمر يمكن تعويضه حسب العقلية الاستبدادية
الحاكمة. وإن عاش الشعب أو مات، فهذه مسألة يمكن دراستها بهدوء على طاولة
البحث. أما إن وجد خطر على النظام فعندئذ تقوم الدنيا ولا تقعد، لأن ذلك
مسألة أمن قومي مصيري. فالجيوش موجودة لتثبيت العروش وليس للدفاع عن
البلاد والعباد. وهذه الحقيقة ينبغي أن تكون واضحة لئلا نعيش في الوهم
الذي تصنعه الآلة الإعلامية الرسمية.
والتمزق العربي نتيجة طبيعية
لرسوخ الدولة البوليسية العربية، حيث تم تحويل الأنساق الاجتماعية إلى
متاهة الأضداد، فانتقلت الحياة المجتمعية من المد الثوري التحريري إلى
المد الرومانسي التخديري، وتحولت بندقية الثائر إلى سيارة المرسيدس لرجل
الأعمال، لأن الطواغيت الأعراب حشروا شعوبهم في زاوية رغيف الخبز، وجاذبية
الشهوات الاستهلاكية، فلم يعد المواطن العربي تعنيه الأمور السياسية
والقضايا الكبرى، لأنه محصور في الاستهلاكية الفجة، وإطعام الأفواه
الجائعة التي تنتظره نهاية اليوم.
وهكذا تحولت القضايا المصيرية من
مسائل وجودية حاسمة إلى مسائل في جدلية العرض والطلب، لأن الثابت هو رغيف
الخبز، وباقي العناصر متحولات يمكن تعويضها أو تغييرها. وهذه هي فلسفة
أدبيات الأنظمة القمعية التي تخاف أن يشبع الشعب، فلا بد أن يظل جائعاً،
لأنه إذا شبع سيفكر، وإذا فكر سينقذ الأوضاع الراهنة. والأجهزة الأمنية لا
تريد وجع الرأس، فالمركب سائر، ولا يهم إن كان سائراً إلى القمة أو
الهاوية. وفي ظل هذه الانتكاسات المتوالية تغيرت ماهية القدوة، واختلفت
أدوات العمل السياسي. فأضحت المقاومة إرهاباً مذموماً، وصار التآمر على
حركات المقاومة محاولة لوقف المد الإيراني، والمضحك المبكي أن التآمر على
أهل غزة من قبل بعض الأنظمة العربية جاء لوقف النفوذ الإيراني!، فصار قتل
أهل السُّنة ضرورة لوقف المد الشيعي ـ حسب عقلية تلك الأنظمة العربية
المتواطئة مع الاحتلال الصهيوني ـ.
وهكذا تكرست أدوات الواقع المرير
بحكم منطق القوة لا قوة المنطق. ووفق هذه الرؤية تم تقديم محور 'الاعتدال'
المتهاوي حاملاً لتاريخ الأمة، ومعبراً عن حقوقها المشروعة بعد أن سقط
الثوار في متاهة الراتب الشهري، وذهبت خطابات الزعماء الفاتحين أدراج
الرياح.
إن تشظي العقل العربي التحريري نابع من غياب المنهجية
الواعية لاحتضان المستويات الثورية، فصار الفعل التحريري أشبه بحركة
عشائرية ارتجالية مستندة إلى العصبية القبلية، فلا منهج فكري واضح، ولا
أدوات واقعية تجعل الحلم حقيقة. وفي تفاصيل هذا التخبط يظهر أمراء الحرب،
وسماسرة الوحدة الوطنية، وتجار الثورات، وكلهم حققوا منافع مادية شخصية
على حساب تضحيات شعوبهم. فصار التساؤل المرعب: ما الفرق بين الأنظمة
الحاكمة التي تحمل أسماءنا وبين الاحتلال البريطاني أو الفرنسي على سبيل
المثال؟
وفي خضم هذه الأسئلة المخيفة يعاد تشكيل العقل السياسي ليصبح
أكثر تدجيناً، فتؤول القيم الدينية والوطنية إلى شعارات مفرغة من محتواها،
فيصبح التمسك بالإسلام رجعية، وتصير الوطنية شعاراً للعصور الحجرية،
ومقاومة المحتل إرهاباً مذموماً.
ولعبة المصطلحات هي لعبة قديمة
جديدة، ومن مصلحة من يلعبون هذه اللعبة أن تظل ماهية المصطلح عائمة ليسهل
إسقاطها على كل وضع يتعارض مع فلسفة القوي في شريعة الغاب. فأمريكا مثلاً
لم تقل لنا إلى الآن ما هو الإرهاب، فمن مصلحتها أن يظل تعريفاً غامضاً
عائماً ليسهل تطبيقه على 'الدول المارقة' أو 'محور الشر' أو 'أعداء العالم
الحر'.
وهذه اللعبة تكريس أيديولوجي لشريعة الغاب، لأنها تمنح القاتل
حق تصنيف الناس إلى مجرمين وضحايا، وبالطبع سوف يصفق الناس له، لأن
الصولجان بيده. وهناك مقولة لرئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو: 'إن العالم
قد يتعاطف مع الضعيف بعض الوقت، لكنه يحترم القوي كل الوقت'. وهذا صحيح في
شريعة الغاب حيث تنتحر قيم العدالة والأمم المتحدة، ويموت القانون الدولي،
فتظهر شريعة البندقية، وقانون الدبابة، ورومانسية طائرات التجسس بدون
طيار.
وبعد كل ذلك يختفي ـ في العقل الاجتماعي ـ صلاح الدين الأيوبي
القادر على حشد الجماهير لممارسة فعل التحرير، ويظهر الحاكم العربي الصوري
القادر على حشد قوى الأمن للحفاظ على الكرسي بغض النظر عن حياة الشعب أو
موته.
الأربعاء ديسمبر 09, 2009 9:35 am من طرف هشام مزيان